أنا العالم .. مجاز الإلهي والبشري

القارىء الضُراط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يدفع (هاني عبد المريد) بطل روايته (أنا العالم) إلى محاولة التماهي مع الوضعيتين الإلهية والبشرية؛ فـ (يوسف عبد الجليل) هو الشاب الذي يستعيد تاريخه العائلي، ويسترجع شخوصه وتفاصيله وعاهاته بوصفه إبنًا لهذا التاريخ من ناحية، وهو الخالق الذي يعيد إنتاج هذا الماضي الممتد على نحو يجعله قابضًا على تدابيره وممتلكًا لمشيئته من ناحية أخرى .. هنا تبدو الوحدة طبيعة جوهرية تليق بالحالتين مع تناقض أساسي؛ فوحدة الشاب اغترابية وانفصالية ـ مقيّدة في نفس الوقت ـ عن الإرث المهيمن في الحاضر الذي أنجبه، أما وحدة الخالق فهي انعزال كاشف، يكمن في الأسرار، ويتوارى داخل الفراغات، متحصنًا بمساحة ملغزة ومتعالية بينه والواقع الذي يحاول دائما تفكيكه وإنشاءه، أي يسعى لأن يخلق مستقبلا متمردًا على قدره .. هنا يمكن لاستفهام المعرفة أن ينمو ويتوالد؛ فـ (يوسف عبد الجليل) يبدو كذات تائهة، منذورة للضياع المحكم داخل الغموض، أما في طبيعته كخالق فإن الغموض لا يتبدد بقدر ما يشيّد حقيقة أخرى للتوهان .. حياة موازية، جمالية، لا تعطي الخلاص أو الفهم أو حتى القبول، وإنما تجعل من الإبهام شيئًا قابلا للعب، لتبادل المراوغة، لمنح تعددية للذات البشرية التي تتأمل تاريخها.

(كان شعور بالامتلاء والثقة لدى جميع أفراد العائلة، يجعلهم لا يشعرون بنقص، تجاه أي نقص بالفعل، خاصة وأن عائلتنا يحكمها العديد من الأساطير، التي بالطبع لم نكن نتعامل معها بوصفها أساطير، بل هي حقائق مؤكدة، خاصة لدى الأجيال السابقة، هذه الأساطير دومًا ما تداوي جروحنا، وتسد نواقصنا وعيوبنا، بل وتنظم العلاقة بيننا وبين الأشياء وبيننا وبين بعضنا البعض).

إذا كان للأساطير دور في بناء الماضي الذي يسترجعه الراوي في (أنا العالم)، وإذا كان لها دور في صياغة هذا الاسترجاع سرديًا؛ فإن الوظيفة الأهم بالنسبة لي هي تعامل البُعد الإلهي لبطل الرواية مع هذه الأساطير بوصفها معادلا سحريًا للأفكار والقصص والترتيبات المحتملة والمجهولة التي تقف وراء العالم الكلي، المتجاوز للسلطة العائلية .. لقد تحولت هذه الأعاجيب إلى خامات كونية ملائمة تمامًا للخالق الذي يعيد إيجاد العالم بمعجزات بديلة، وإذا لم تتسم هذه الخامات بالوضوح اللازم، أو بالقدرة على إنقاذ مستخدمها؛ فإن بإمكان هذا الإله أن يشكلها بالكيفية التي تقودها لتكوين تدابيرمختلفة، وامتلاك مشيئة مغايرة .. أن ينجم عن هذه الخامات صور وحكايات غير مسبوقة، وأن تفقد المدلولات حتميتها داخل فراغاتها.

(بقيت أكتب وأكتب، وفي روعي أنه عندما يسألني أحد لماذا تكتب؟ سأجيب على الفور، أنني أكتب كي أبدد مخاوفي وشعوري بالوحدة، أكتب حتى لا ينتهي العالم).

إن في الكتابة شيء يتجاوز الطمأنة لـ (يوسف) البشري، ولاستمرار العالم لـ (يوسف) الإلهي .. إنها بمثابة نوع من التأكيد لما حدث حقًا ولكن بشكل لا يمكن تهديده .. هنا يصير الهدم والتثبيت فعلا واحدًا .. ممارسة لا تنطوي على تضاد بقدر ما تنطوي على تحقيق الإنسجام .. رغبة في إذابة الذات داخل كافة الأجساد والتفاصيل حتي المنسي والمهمل والمستبعد منها، وتخطي الظواهر الملموسة نحو الإندماج مع ما هو غير مدرك .. أن تكون الذاكرة مثلما هي عليه، دون تحريف، محمية من الفناء كما كانت بالفعل، ولكن داخل فضاء تخييلي، يمكن مطاردة أشباحه مثلما هي قادرة على مطاردة حاملها .. إنه التوحد بين البشري والإلهي الذي تتجزه الكتابة كحلم يقظة.

(أقول لكِ إن قصصي هي عالمي الخاص، عالمي السري، الذي لا يعرف أحد عنه شيئًا سوى أنا والشخصيات التي أستنطقها على الورق، وتعيش في خيالي لأيام تراوغني وأغويها … قصصي هي العالم الذي أشيده برغبتي، العالم الذي يطاوعني وأكون فيه أنا السيد الأوحد، الذي يأمر فيطاع).

يمكن اعتبار (ريم) أو الغواية المتجسدة في هذه الشخصية، يمكن اعتبارها الوسيط بين البُعدين في ذات الراوي .. الممر الشهواني الذي يعبره يوسف الشاب الذي يستعيد تاريخه العائلي أو (أنا) نحو يوسف الذي يكتب ليخلق هذا الماضي أو (العالم) .. المرآة التي يمكن قراءة كافة اللعنات داخلها، بقدرة استثنائية على التعايش مع الأرواح الشريرة.

(ستصير بين يدي يومًا ما، وستعترف بارتكابك لكل جرائمك، وسترتسم ابتسامة الارتياح والثقة على وجهي).

من هو الرقيب إذن؟ .. أحد شخوص الذاكرة الذي تحوّل ـ مثل يوسف ـ إلى إله معادٍ له؟ .. تحالف من الشخصيات المتواطئة في شكل موحد لإله مختلف؟ .. إله مجهول يوجد خارج الرواية، ولا يريد أن يكون هناك إلهًا غيره، ويؤجل معاقبة كل من تسول له نفسه اللعب بمقدرات الآخرين إلى قيامة ما؟ .. لأن الكتابة هي مجاز الإلهي والبشري فهي الوعد الثابت بتشتيت القمع وبعثرة آلياته، كأن الزمن يقاوم نفسه، أو كأن الآلهة على وشك أن تتخطي المساحات الملغزة والمتعالية التي تفصلها عن الواقع.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم