أنا، خارج الأسوار.

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أيوب الطالبي 

طُردت من العمل، هذا أفضل شيء ربما حدث لي هذه السنة. أمضيت قرابة ستة شهور في البيت لا أخرج أبدًا. مرّات قليلة فقط تعرضت فيها إلى الشمس عبر السطح، حتى أنني نسيت تمامًا ماذا تعني كلمة شمس، وكلمة ناس، وأكثر من ذلك كلمة: خارج. الطرد من العمل لا يعني بالنسبة لي أي شيء، بإمكاني أن أبحث عن عمل آخر قد تطول المدة لكنني غير مهتم تمامًا. حاولت منذ مدة طويلة أن أقلل من متطلباتي وأن أعيش فقط على الهامش، مكتفيًا فقط بما أملك. ما ادخرته من هذا العمل طيلة ثلاث سنوات هو البؤس والاستيقاظ باكرًا بعيون حزينة ذابلة والبقاء طيلة اليوم بمزاج سيء. لم أبني أي صداقات في العمل، أراد البعض مرات كثيرة أن يصبحوا أصدقائي بطرق عديدة لكنني في كل مرة كنت هاربًا وفارًا وخائفًا. ما جمعني معهم دائما هو التحية من بعيد والإجابات السريعة المتعلقة فقط بالعمل و غالبًا ما تكون بنعم أو لا. تعلمت خلال هذه الفترة من احتكاكي المباشر مع رؤساء و مديري الأوراش كيف أن أصبح طاغية وأن أحوّل الآخرين الذين قد يكونون أكثر كفاءة مني مثل العبيد، وأن ألوك في مشيتي أكثر وأنا أردد داخل أعماقي روحي ماقاله فرعون منذ قرون، مزهوا بالسلطة والقدرة على جعل الناس يقولون: نعم، محنيّين رؤوسهم، عوض أن يقولوا: لا. بالنسبة لي كانت لي سلطة، بحكم عملي الحساس الذي يضعني في صورة مباشرة يومية مع العمال طيلة النهار لكنني كنت أكسب الاحترام أكثر من الناس عوض أن أهددهم أو أخيفهم، كنت صديقهم بالتالي لم تكن بيننا أبدًا سلط أو أوامر. و قد حافظت على صورة جيدة في نظر الجميع تقريبًا من دون أن أحاول أن أكون متصنعًا ومنافقًا، بل في كل الأحيان كنت دائمًا على سجيتي. انتهت أوراش كثيرة والتقيت بالأغلبية من جديد خارج العمل وقد كانوا في كل حين هم السباقين دائما لما اليد للتحية باحترام وهم السباقين أيضًا للمحي وأنا أعبر الشوارع واضعًا السماعات ومصغ بتركيز تام إلى الأغاني القادمة من روحي السحيقة. سمعت قصصًا كثيرة من العمال طيلة ثلاثة سنوات، مئات القصص الحزينة مشروع مئات الروايات، الشيء الوحيد الذي كنت أستغرب أحيانًا له، هو أنّ الغالبية من القصص التي سمعتها، لم أكن المبادر، لم أكن أبدًا من طلب أن يسمعها بل بالمعظم وأن أقوم بعملي يبدأ أحدهم بأن يحكي لي قصة حياته، فجأة يبادر بأن يتحدث، دون قواعد ودون بدايات ودون تلميحات كأن قصة حياته عبء ثقيل عليه حمله كل يوم وهو يمضي في طريقه بخطى بطيئة نحو النهاية. أتذكر العديد من القصص التي شغلتني لأيام طويلة، قصص تأثرت بها أكثر من الأخريات، و قصص لم أستطع ألا أكشف لها في النهاية عن دموعي الحارة. القصة الوحيدة التي أتذكرها بوجه خاص، هي قصة عادل رحمه الله 34 سنة، أتذكره أكثر من كل مرة، و أنا أكتب حروف اسمه: ع ا د ل. أتذكر العلاقة الطيبة التي جمعتنا طيلة ستة شهور تقريبًا في إحدى الأوراش صيف سنة 2019 أتذكر كل التفاصيل المتعلقة به، ضحكته و هو يتحدث مع صديقه، يديه وهو يمسك المطرقة وصوته الرقيق، القريب أكثر إلى الصمت وهو يلفظ الحروف، واحدا بعد آخر مشكلا الكلمات. حكى لي هو الأخر بعضًا من حياته، قصة زواجه الذي لم يكتب له أن يكتمل وانتهى بالطلاق وأحلامه الكثيرة التي رآها تتبخر وهو ينفث دخان سجائره بعيدًا في السماء. مات عادل بعد ذلك بشهر تقريبًا، كان قد انتقل إلى ورش آخر وقد التقيت به مرة أعتقد، تحدثنا فيها كصديقين لم يلتقيا منذ سنوات، زهاء ذلك كانت الأمور كلها تمضي كالمعتاد قبل أن ينصرم أسبوع على اللقاء سمعت فيه أن عادل توفي نتيجة حادثة سير غريبة و عبثية. حزنت كثيرًا لموت عادل، شعرت بعد موته كأننا كنا أصدقاء منذ سنوات طويلة وأن علاقتنا طيلة ستة شهور لم تكن سوى سلسلة لما حدث بيننا من أعوام. فكرت أن عادل أخيرًا ارتاح من نفث الدخان على أحلامه و هي تتطاير بعيدًا في السماء وأنه عوض ذلك قرر أخيرًا أن يلحق بها، أن يتبعها وهي تغيب ماضية إلى الله. دعيت لعادل في كل مرة أتذكره فيها شاعرًا بالندم و أنا ألفظ حروف اسمه وهي تخرج من حلقي مبللة ومالحة عوض أن تظهر دموعًا حارة، ساخنة: ع ا د ل.

أقرأ الآن وأشاهد المسلسلات و الأفلام وأستمع للموسيقى، أشعر بالحرية أكثر من السابق، لا التزامات ولا مواعيد ولا مزيدًا من صوت المنبه كل صباح. أفكر الآن بجدية أكبر حيال مستقبلي، و أنا أرى الأيام تنقضي بسرعة و عمري يمضي هو الآخر بسرعة خلفها. عندي أفكار كثيرة حول أن أبدأ مشروعي الخاص وأن أستقل أكثر بحياتي ماضيًا في دهاليزها و منعرجاتها و حدي لكنني لا أملك الشجاعة للبدء. هاجس الفشل يرافقني كل يوم، والإحساس الذي يتفاقم بأنني مهما وصلت وتقدمت أكثر في حياتي فهذا لا يعني أي شيء.

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

الحرمان

تراب الحكايات
موقع الكتابة

الجازية