البهاء حسين
لأنّ أمى كانت تدعو على أقاربنا
تعلمتُ أن أقلّدها
أمسحُ رأسى للوراء، كأننى أحسِر عنه الطرحةَ السوداءَ،
كما تفعل
وأشخص للسماء
أطلق فمى على ابن عمى، لأنه اغتصب أرضنا
كلما رأيتُه خارجاً من البيت ردّدتُ ما تقوله أمى
أن يعود فى صندوق
أقذفه بالكلمات، كأننى أقذفه بالحجارة
أردتُ أن أساعد أمى، غير أننى جربتُ فمى
ذاتَ يومٍ
جربتُ طفولتى فى الشخصِ الخطأ
دعوتُ على خالى أن يعود ميتاً من الجيش
وقد عاد، فعلاً، بعد أسبوعٍ
مقتولاً فى صندوق
،،
كان بابُ السماء مفتوحاً
:
ستعرف، بعد أن تكبر، إن كان ذلك من سوء الحظ أم لا
ستعرف أن الطريق يبدأ بتأنيب الضمير
أن تشقى طوال حياتك، لأنك مضطرٌ لاستعمال الكلمات
:
من يومها وأنا أكره الصناديق
كلما رأيتُ صندوقاً ظننتُ أنه دعوةٌ ملفوفةٌ فى كفن
شابٌ طيبٌ
فى طريقه إلى القبر
،،
ظلتْ أمى تعيّرنى بأننى قتلتُ شقيقها الوحيد
ظل إخوتى يلعنوننى
صار فمى منبوذاً من البيتِ كله
من كوزِ النحاسِ، الذى كان خالى يشرب به
من جرّة الفخار
:
الكلماتُ ذخيرةٌ حيّة
واللسانُ زناد
أما السماء فهى مفتوحة دائماً للأطفال
حتى بعد أن يكبروا
،،
لا شىء يَشفِى من الذاكرة
لا شىء يَشفِى من تأنيب الضمير
هو الآخر له طفولته
له نقطةٌ يبدأ منها
يكبر مثلنا، لكنه لا يشيخ
هل جربتَ أن تتحول نظرةُ أخيك، كلما رآك
إلى بصقةٍ على وجهك
لذنبٍ لم ترتكبْه
،،
كانت السماءُ تفتح أبوابها حين أفتح فمى
مات أبى، وأنا فى السنة الأولى من العمر
ولأنه لم يتركْ صورةَ له، مات ثانيةً بالنسبة لى
رغم ذلك
رغم اللبن الذى يسيلُ على فمى من ثدى أمى
تحملتُ وزرَ موتته الأولى
:
فى المدرسة
حين يسألنى المدرس عن وظيفة أبى
كنتُ أتفادى كلمة ” فلاح” أمام التلاميذ
فأخبره أنه ميتٌ
كانت ملامحى تقول يتمى بطريقة تجعل الموت مهنة مرموقة
لكنّ فمى يُعيد ما تقول ملامحى بطريقة خاطئة
كان فمى على خصامٍ دائم معى
لكنّ يُتمى دلّنى على أن أرضى بالمطباتِ
كجزءٍ من الطريق
،،
منذ الطفولة
وأنا أقترفُ الكثيرَ من الأخطاء الفادحة
دون قصدٍ، وهذا ما يؤلمنى
حين كبرتُ
صرتُ أتكلم بداخلى
أدمن قلبىَ الخواطر المأساوية
كأننى أتوق إلى احتضان العاصفة
مرة خيّرتُ نفسى مثلاً بين الكلمات والبيت.. زوجتى وبناتى
قلتُ: إن فقدتُ البيتَ سأكتبه
ولهذا اخترتُ الكلمات
المجدَ الذى أعلقه عليها
خجلتُ من اختيارى، لكنى تركتُ الأمر للأبواب المفتوحة على فمى
وبعدها بأسبوع
أصبح بيتى خرابة
دون أن يأتى المجد الذى ضحّيتُ من أجله بالعائلة
:
ستصفقونَ لألمى حين أكتبه
سيعتبرنى الموتى شاعرَهم المفضل
لكن ما فائدة التتويج إن سدّدتَ فاتورةَ الحفل من روحك
:
تولدُ المصائب
لأنها تخطر على بالى
لأنى مصاب بالفضول
الكوارثُ التى أتمناها لأعدائى
تحدث لى
كأننى، منذ الطفولة، أدعو على نفسى
،،
أنا مِثلُ أمى
أدعيتها هى أجنحتى
لكن أمى، بدلاً من أن تدعو الله صارتْ تحلُم به
وأنا أريدُ أن أقلّد أمى
أن أرى يداً مبسوطة تمتدّ لى من السقف
فى الثلث الأخير من الليل
تُفرغ فمى من الكلمات
من طلقات الرصاص
تحذف، من اللوح المحفوظ دعوتى على خالى
كأنها لم تخطر على بالى، لم أقلها
كأنه ما زال حياً
وله أولاد يقولون لأمى: يا عمة
:
أريد أن أنزل الصندوق الذى أحمله على ظهرى منذ 50 عاماً
يا الله
أستحلفك بلسانىَ الأعمى الذى يقبض أرواح الأحبة
بكل كيانى المرعوب، مقدماً، من موت أمى
أن تحذف الدعوى
قبل أن تموت.