أعاصير الحزن

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن غريب أحمد

عاد الشيخ جمعة سويلم إلى قرية الضهيرية بصحبته صقر، الذي كان ينتظره خارج قسم الشرطة، ومرّا في طريقهما ببيوت أهالي القرية، كلّها أقزام من دور واحد، متلاصقة من الشعر وجريد النخيل، ومن الطوب الأسمنتي الذي لم تُغطَّ بطبقة من الأسمنت، حتى السكن البدوي الذي أنشأته الحكومة سكن معظمُه المعلّمون العاملون بالمدرسة. ومن استلم منهم هذا السكن أقام بجواره بيتًا من القش وجريد النخيل والشَّعر.

في نهاية البيوت، المتفرقة أحيانًا والملتصقة أحيانًا أخرى، والتي تحتضن عند نهايتها صفوفًا من جريد النخيل كأنها شفتان سوداوان تمسكان بينهما سيجارة، كانت البيوت أغلبها سماوية اللون، وقلّما تجد أحدها مسقوفًا بجريد النخيل والطين وحطام السيارات القديمة.

وفي كلها قابعة تحت سطح هرم من الرمال الناعمة، الواقفة فوقها كالحارس، وكأنها تُقبّل قدميه في ذلّة واستسلام. يفصل بين البيوت أشجار العنب والتين والخوخ واللوز.

وما إن وصلا في طريقهما ناحية دكان عم حمّاد حتى سمعا صراخًا وعويلاً أشبه ما يكون بزئير لبؤة فقدت شبلها. ولا عجب، فقد كان صادرًا من فم (واضحة) زوجة الشيخ جمعة، والتي سمعت الخبر من سلمى زوجة صقر، بعد أن دار به على الألسنة كلامُ زوجة (جرجس أفندي) الذي يعمل سكرتيرًا في نيابة مركز الشيخ زويد، إذ نقلته إلى عدة بيوت مجاورة. صار بعدها الخبر على كل لسان، بالرغم من تحليف (جرجس أفندي) لها بالمسيح الحي والإنجيل ألّا تطلع عليه أحدًا، حتى لا يكون – على حد قوله – “وش شؤم”.

كان الشيخ جمعة يمشي الهوينى، كأن قدميه تركبان سلحفاة مريضة عمرها ملايين السنين. وتلاحقه نظرات أهالي قرية الضلعية، بعضها شفقة، وجلّها شماتة في (حسان) المقتول نفسه، وهذه الأخيرة صادرة من عيون تنظر باستمرار إلى آثار ضرب العصا الذي ناله من صاحبها على يد ابن شيخ القبيلة (حسان)، بلا ذنب قام به أو جرم ارتكبه.

وصل الشيخ جمعة إلى بيته بعد لحظات مرت عليه كالدهر، وسرعان ما عاد بصحبة مصطفى، موظف تحصيل فواتير الكهرباء بقرية الضلعية، لأنه من أبناء السويس ويعلم عادات وتقاليد ناس مدن القناة، وأيضًا شاب متعلّم.

كان الشيخ جمعة يمتطي حصانًا هذه المرة، بعد أن تمردت عليه قدماه وأبت أن تحمله. لكن الشيء الغريب، الذي لا يخطئه بصره، أن ظله تحت أقدام الحصان أقصر من جسده، مما يشير إلى أنه انكمش وتقزّم. وكان صقر ثالثهم، يجري خلف الحصان، ساترًا أنفه اتقاءً للغبار المترب الذي صنعته أقدام الحصان أثناء سيره على الأرض الترابية.

كان ثلاثتهم قاصدين السكة الرئيسية للركوب إلى موقف الشيخ زويد، ومن ثم السفر إلى مدينة بلبيس لإحضار جثة (حسان). تتبعهم نظرة من وجه إلى وجه، ثم همسة من فم إلى أذن، وسرعان ما كوّنا رقعة من هنا ورقعة من هناك، وإذا بالرقع العديدة تحيك ثوبًا جديدًا من أصل الشيخ جمعة وفصله وحكايته وحوادثه، يتقيأونها كتقيؤ الطعام الفاسد.

………….

* مقطع من رواية “ما تبقى من البوح” الصادرة عن دار ميتابوك للطباعة والنشر

 

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم