البهاء حسين
منذ الطفولة
أستحم، لكن أظلّ كما أنا
الماءُ لا يغسلُ الفقر
رغم ذلك لم تكن أمى تكفّ عن تحميمى
تدعك جسدى بليفةٍ خشنة
كأنها تدعك مصباح علاء الدين
أو تبحث عن سرٍ خبّأه أبى قبل موته
فى جسدى
كأن النخلة تربى اللّيف من أجلى
بينما أنا فى الحقيقة أحبّ البلح
أصوّب الطوبَ عالياً، لكنّه يسقط علىّ
فأنا، منذ الطفولة، ضعيف النظر
أظلّ فى مكانى شاخصاً نحو السماء
ولا يجد الطوبُ مفراً سوى السقوط على وجهى
حتى اعتقدتُ أن سباطة البلح هى كومة حصى معلقة
،،
جربتْ أمى أن تغلى الماء
ظلت تحمم طفولتى بماء مغلى فعلاً
لكنه لم يطرد الفقر
حتى النار التى تستعر تحت حلة الماء فى الكانون بجوارى
لم تفلح فى تطهير بيتنا من الحاجة
تعبتْ أمى
برتْ جسدى دون طائل
أنا الآخر تماديتُ فى التعويل على الترع
كنت أبحث عن حظى فى الماء الجارى
مع بقية الأطفال
أتسلق مثلهم أعلى نخلة، وأسقط برأسى فى الترعة
مدوياً مثل جردل فارغ
ربما ينقلنى التيار من حالة إلى أخرى
لكن يلزمك، لتصعد من القاع إلى السطح
نفساً أطول من قامتى
إن صعدتَ أصلاً، لأن كثيرين من أصدقاء الطفولة
انغرست رؤوسهم فى القاع
ظلوا يرفسون الماء، وسرعان ما كفتْ أرجلهم الصغيرة
عن الحركة
:
تعبتُ يا أمى
فخذى جسدى حمّميه، واتركينى ألعب مع الأطفال
أخلق من الطين كهيئة الأب
ثم أرتمى فى حضنه
خذى جسدى.. مصباحك
واتركى طفولتى للطين
،،
أنا أستحم الآن بماءٍ باردٍ يا أمى
أدخل تحت الدُشّ
فى عز الشتاء
بعد الفجر
أدلك رأسى بأصابعك، ثم أذهب إلى جسدى
ربما نفضتُ منه هؤلاء الذين ماتوا من أصدقائى
ربما نفضت الفرح وتأنيب الضمير، لأننى لم أمت مثلهم بالبهارسيا
أترك نفسى للماء البارد
للهلع
أترك حرمانى من بناتى
أترك يُتمى عارياً فى البانيو
يجرى مع قطرات الماء إلى البلاّعة
أترك الحنين
أتركُ السرً الذى أودعه أبى فى سرتى
أننى سأتزوج، فى مثل عمره، مرة ثانية
بامرأة تشهبك يا أمى
سأنجبُ منها ذرية أعلمها أن الوحدة
محطة لا نصل منها إلى ساحل
أن الحياة جملة اعتراضية بين موتين
الأب الذى يموت دون أن تعرفه
وضناك الذى تجبرك محكمة الأسرة
على فراقه
:
أمس، وأنا أحمّمك
هالنى أنك أصبحت خرقة يا أمى
ليفة مهترئة
لا بأس سوف أدعك سنواتك بليفتى الخشنة
قد يطرد الماء الشيخوخة
قد يطرد الموت
لكنّ الماء يا أمى لا يغسل الوحدة .