أسئلة سوزان عليوان.. إجاباتها تضعك في مأزق

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إليها في عيد ميلادها .. باقة ورد

في مقهى جانبي عتيق بالقاهرة، قرأت بعضًا من أشعارها وسط حضور يحتفي بزيارتها وبحبهم لها، وجلست إلى جانب حائط، أقرأ معها في سرّي ما حفظته من أشعارها. طوال حياتي كانت لديّ عادة أن أحفظ ما أحب فقط، دون قصد، وإذا قصدت لن يثبت في ذهني. كانت تقرأ بصوت متقطع من الخجل، بعينين على وشك الدمع، بحزن تخجل من تعريته أمام العالم. عندما قرأت "لأن اللهَ واحدٌ والموت لا يُحصَى/ ولأننا لم نعد نتبادل الرسائلْ/ يُحدِث المطر في الفراغ بين قطرة وأخـرى.. هذا الدويَّ الهائل"، وهنا التقينا، بأعيننا وبكلامنا، في "هذا الدويّ الهائل".

على عكس العادة، لا يدفعني الغضب للكتابة هنا، وإنما التساؤل ومزيج من الحب والخوف. فمنذ قرأت لسوزان عليوان أول مرة، وتغيّر فيّ شيء ما، شيء لا أعرفه، وربما أحاول اكتشافه، واكتشاف نفسي، من خلالها. ببساطة، أكثر ما جذبني هو أسئلة سوزان في نصوصها الأنيقة، ولا أقول هنا أنها أنيقة مثل لوحة فنية في متحف، بالعكس، هي أنيقة مثل صندوق فضة تحتفظ به امرأة تحب، وتضع فيه كل ذكريات سعادتها وحزنها، وتفتحه كل قليل لتلقي نظرة، وتدمع وتبتسم.

الملفت في سوزان، ليس كتابتها فقط، ولكن هي نفسها، أتذكر أنني عندما التقيتها، كنت أتوقع رؤية سيدة لبنانية بطابع باريسي، حسب ما تخيلته من كتابتها، بها مزيج من روح العصر والفخامة التي تحجب الروح، ولكنها كانت بسيطة وهادئة ودافئة وخجولة، تشعر معها أنك وجدت شيء ما، شيء كنت تبحث عنه، أو ربما، من فرط ولعك به، وإيمانك به، وفقدان الأمل في لقاءه، أعطاك القدر إياه فجأة، هكذا، وبدون أي مقدمات أو تمهيد.

تسأل سوزان في أشعارها أسئلة كأسئلة الأطفال، أسئلة بريئة، وعميقة، ولا إجابات لها. تشبه فيها رسوماتها بأطفال مسدلين الرموش يحملون حمامات بيضاء فوق رؤسهن، وأغصان زيتون. تكتب وترسم لتبحث عن مدينتها، مدينة الأطفال والأحصنة الملونة والصور المبتسمة. لا تهتم بالنشر والمبيعات والدواوين وعناوين الصحف والمانشيتات عنها، تطبع الكتب وتهديها لمن تحبهم ويحبونها، هكذا فقط، الموضوع بسيط.

لسوزان أسلوب مميز في الكتابة، فهي تكتب بنصل سكين صغيرة مخفية في هيئة قلم، ولكنه ليس أداة عنف، قدر ما هو سهم في يد ملاك على سقف كنيسة. تكتب الجملة هكذا، قصيرة، ومباشرة، وغنية بالمعاني، وتشعر معها أنها لا تؤلف شيئا أو تجلس على كرسي الشاعر، ولكن تشعر بأنها تقول حقائق مطلقة، مثلا “لا شيء يُعادل قربك” جملة تنهي بها كل الصراعات الداخلية، وتضع قاعدة لا تقبل النقاش، تحتاج فقط لإدراجها في قوائم الحقائق العلمية.

أسئلة سوزان هي الجزء الأصعب من القصائد، فعندما تسأل مثلا “هل من عقاب، أقسى من الزمن؟” فتكون إجابتي “بالطبع لا”، ولكني أصمت، في كل مرة أقرأ القصيدة وأصل للسؤال وأصمت. وأسأل الكبار، الذين سبقوني في العمر بعشر سنوات أو أكثر، “هل الحياة عادلة؟” فتكون إجابتهم “لا”، “هل الحياة طيبة؟”، “لا”. “هل الزمن عقاب؟” فلا أجد رد. إجاباتهم تخيفني، كأني ذاهبة في طريق رغما عني، ويجب أن أتقدم في العمر، وأذوق نفس الكأس، دون رغبة مني. كلما قرأت السؤال عاودني الأمل في أن يكون “الزمن” ليس عقاب، وإنما مكافأة، أو هدية، أو نتيجة. أي شيء يوصلني لحقيقة يمكنني أن أحلم بها، وأنتظر الأعوام القادمة من عمري – إن شاء الله لي – بحلم، مجرد حلم في أن يكون الزمن، طيّب معي.

السؤال الثاني هو “ما الذي بوِسْعي أن أقولَهُ، سوى أنَّ الأعداءَ كانوا أكثرَ عَدْلاً؟!”، وهنا لا أدعي أني عشت الكثير، فلازلت في العشرينات، ولكني ذقت مرارة الإجابة عنه مبكرًا. ليس لي أعداء عادلين حتى الآن، أو أعداء أحترم ذكاءهم وأخلاقهم وأتمنى أن نصبح أصدقاء يوما ما. كل ما لي هو خيبات أصدقاء، كان ظلمهم لي، أشد قسوة من ألف عدو. وتمنيت من شدة قسوتهم، أن يكونوا أعداء، ربما هان عليّ فراقهم. لم أحب أبدا الإجبار على الفراق، ولا يدرك عقلي – مهما حاولت إقناعه – بانتهاء الأشياء. الأبدية هي المعنى الأقرب لي، فالكون لا ينتهي، بل يتجدد، حتى الموت هو بداية لكون آخر. كيف لي أن أصدق أن شيئا قد انتهى؟ ما معنى الانتهاء في كون لا نهاية له؟ ما معنى النهاية والله موجود؟

وفي السؤال الثالث، التقيت جزء منها شديد الصلة بي، اللون الأزرق الذي يتحول من مجرد لون يتعامل الناس باعتباره ضمن باقة ألوان، إلى بحر، وسماء، وكوكب. فتسأل مثلا “أرى العالم، حجرة زرقاء.. هل ترى، ما أرى؟” وكأنها تسألك عن أهمية الأزرق لدي، وهل تشعر بالفعل أنه لون مقدس، لو لم يكن مقدس لما خُلق منه كل شيء، وفي سؤالها أيضا، تستشعر النبض، لتتأكد ما إذا كانت تحيا بمفردها في الكوكب الأزرق، أم أن هناك آخرين على سطح الكوكب. وتقول في جملة أخرى “من عرشها الأزرق البعيد، ستراهم بأحجامهم الحقيقية، بلا أسف.. أو حنين”. العرش الأزرق على الكوكب الأزرق، تذكرني سوزان نفسها بقصة “الأمير الصغير” لأنطوان دي سانت أكزوبيري، الذي بحث بين الكواكب عن صديق، وعندما التقى بشريّ، طلب منه “ارسم لي خروفا” فقط. وطلب أن يكون الخروف غامض، داخل صندوق، لا يعرف أحد أن بداخله خروف صغير أبيض بفراء ناعم. هكذا هي سوزان، تقوم بمناوراتها خارج كوكبها، تبحث عن أصدقاء يرسمون لها خراف، وترسم لهم أحلامًا جميلة، وأطفال برموش مسدلة يؤمنون بكوكبها الأزرق، وعندما لا تجدهم، تكتب “كل ما حلمت به، خذلني، كأن قدميّ الصغيرتين مخلوقتين للانزلاق”.

في كوكب سوزان أشياء تجدها أينما ذهبت، تشعر معها أنك في بيتك، فتجد: مصابيح، نوافذ، أصدقاء، الظل، أضواء، حزن، دمعة، وعلى عكس أغلب الشعراء الذين يسرفون في تكرار الكلمات، فإن سوزان تُعرّفك على أصدقاءها، وتشربون جميعا قهوة في بيتها، على أنغام موسيقى مجنونة لا تتوقع أبدا أن تكون لديها، حتى إنك إن قرأت قصيدة لها، ولم تجدهم، راجعت قراءتها أكثر من مرة، لتتأكد أن لا حزن هنا، هنا مساحة للفرح، فتثبت حضور الشيء بالتضاد. وتحمل أسئلتها هنا معاني بين الطيبة والعتاب واللوم والانكسار، فسؤال مثل “أينَ نافذتي أيَّتُها الجدران؟” قد تحسبه سؤال شخص غاضب محبوس بين جدران. ولكن، إن أعدت قراءته، ستشعر أنه لطفلة صغيرة ضاع منها شيء، نافذة في جدار مخبأ بغرفتها، اعتادت على الهروب منها لتشم الهواء وتشاهد القمر ليلا. وإن قرأته مرة ثالثة ستجد أنه لامرأة هدّها الزمن، وتبحث عن أي نافذة يدخل منها الضوء لحياتها، أو حبيبة تبحث عن أمل، أو سجين يشتهي الضوء، وكلما قرأت السطر نفسه، وجدت كثير من الأشخاص المحبوسين داخله.

كثير كثير من الأسئلة، والإجابات تتراوح بين صمت أو ملايين الكلمات، لازلت أبحث عن إجابات لها:

بهذه الأطراف الطافئة.. كيف أحصي كم أحببتك؟

ألا يكفي ما فعلته بضحكتنا هذه البلاد؟

كم من تلك الضحكة مضى من أسوار أعمارنا؟ كم من الوردة تبقّى؟ كم الساعة في نبضنا؟

لولا العصافير على أكتافها.. من يحدث التماثيل؟

أمام الأبواب الخاطئة.. ماذا نفعل بمفتاح؟

 

يمكنك الاطلاع على كل أشعار سوزان هنا في موقعها الرسمي

 

 

 

مقالات من نفس القسم