نتحدث بيقين عن مدينة روائية صنعها “ناجى” ، وهذه المدينة لها مفاتيح سنحاول هنا تفصيل حرفتها ووصف معالمها وطريقة استخدامها ، وراء سهولة الحكى وبراعة الحواديت صنعةٌ وسبْكٌ ، ورؤيةٌ ووجهة نظر ليست فقط عن الطبيعة البشرية ، وعن تحولات الوطن العاصفة ، ولكن أيضا عن فن الرواية ومدى قدرته فى التعبير عن الأسئلة والتاريخ الواقعى أو الأسطورى . بدون هذه المفاتيح ستحصل فقط على متعة المستوى الأول من روايات “ناجى” : جمال الحكى وبهجة الحواديت ، ولكن ستفوتك بقايا المتع : وخْزُ السؤال ، ومغزى الفكرة ، ومتعةُ الإكتشاف ، وسرّ الصنعة ، ونشوة التأمل ، وقانون اللعبة .
أول المفاتيح وأهمها جميعاً هو “الذاكرة ” . “محمد ناجى ” هو أديب البحث عن الذاكرة بامتياز ،لا بل إن فن الرواية عنده هو “فن تفريغ الذاكرة سواء على مستوى الشخصيات أو الوطن أو البشرية ” . نقطة البدء فى أى رواية له أن تبحث فى الطريقة التى تعمل بها الذاكرة ، ذاكرة الرواية ، ، كل شخصية لها علاقة ما بالذاكرة سواء سلباً أو إيجابا ، وهناك وراء الجميع الراوى العليم / أو شبه العليم الذى يستكمل التفصيلات . فى بعض الروايات هناك حارس الذاكرة الأسطورية السحيقة ( عبد الحارس فى خافية قمر ، العم الغامض الذى يحكى عن الجد حمروش فى الأفندى ، نازك التى تحكى عن ستّنا فى الأفندى ، نوسة وسمعان والعايقة الذين يحكون عن ملوك وفتوات وبدايات الأشياء فى العايقة بنت الزين ، فانوس الذى يحكى عن فارس المدينة والعدل فى لحن الصباح ) ، وفى روايات أخرى هناك من يعيش حرفياً فى الذاكرة بعد أن اصبح على هامش الواقع ( عبد القوى وكوكب فى “ليلة سفر ” ، و الرجل فى رواية “رجل أبله .. امرأة تافهة ” ، ونوسة فى ” العايقة بنت الزين ” ) ، وهناك شخصيات تعانى مشكلة مع الذاكرة ( نصر/ المهزوم نفسياً الذى يتأفف من حكايات الجد فى “ليلة سفر ” ، و”حسين جعفر” الذى تُمسح ذاكرته تماما فينسى اسمه فيموت فى “الأفندى” ، والرجل الذى فقد ذاكرته فى “ليلة سفر ” فأصبح بلا اسم، فمنحوه اسم “صنّارة ” ، ولكنه ظل يحاول أن يتذكر فينسى ، يتدلّى فكّه معبراً عن علامة استفهام معلّقة ، إنسان معلّق فى الفراغ ، و “سلامة ” فى ” مقامات عربية ” الذى يبوح إذا أراد ويبلع لسانه خوفاً فتسكت الذاكرة ) .
ليس الشخوص فقط التى ترتبط بالذاكرة ، كل شئ تقريبا له ذاكرة : الأماكن ( واقعية أو أسطورية ) ، والأشياء ( فى رواية الأفندى تفتح وداد قروى صندوق الخواتم فتخرج منها كل الذكريات والشخوص ) ، والصور ( صورة القاضى مثلا فى العايقة بنت الزين التى تنوب عنه ) ، الآلات الموسيقية ( كما فى العايقة ..) ، صوت الريح الذى يحتفظ بالحكمة عبر القرون ( من “لحن الصباح نقرأ : ” لو أنصتّ جيداً لسمعت ، ثمة ارتعاشة قوس خلف الليل والبيوت ، تكاد الأذن تمسك الصوت لكنها شاخت ، خسارة . بالتأكيد هناك رجل فى المدينة يمكن أن يسمع بشكل أوضح ، ولكن هل ينتبه ؟ ” . لاشئ يموت عند ” ناجى “طالما أن هناك ذاكرة . فى رواية “الأفندى ” تستطيع أن تقول أن هذه العبارات تلخص راى “ناجى” فى فكرة الذاكرة : ” أن تكون بلا ذاكرة ، فذلك يعنى أنك غير موجود تقريبا ……… أظن أن الأكثر حسماً للتعريف هو الذاكرة ، الإنسان حيوان له ذاكرة …. الذاكرة ، ذلك الإجهاد الساطع ، تعنى أنك لا تزال موجوداً ، لاتزال حياً ، عندما تتلاشى ذاكرتك تتلاشى معها . ” الذاكرة عند “ناجى ” وفى رواياته هى الحياة ، والنسيان موت ، لا أقل أبداً من ذلك ، وبقدر نجاح الشخصيات فى التذكّر بقدر مدى وعيها بمأساتها ( عبد الحارس الذى يعبّر عن الإنسان الحائر فى البحث عن أصله مابين خافية وخلاء ، والأفندى الذى لايفهم ولا يكتب اسم حمروش فى شهادة ميلاده فلا يفهم نفسه ولا يعرف أن طريق الجسد مغلق الأبواب ، ونازك التى تكاد تحكى حكايتها هى مع الأفندى وهى تقص حكاية ستّنا مع الواطى التى تصلح بدورها تعبيراً عن كل واطى اغتصب الكرسى فانتقمت منه ستّنا ، وتصل الماساة الى ذروتها عند “صنّارة ” الذى لا يتذكر فأصبح منذوراً للنسيان ، يقول عنه “عبد القوى ” : هو إنسان مثلنا ، لكنه مسكين فقد الذاكرة ” . فترد عليه “كوكب” : وهل هذه مسألة بسيطة ؟! .. يا أفندى ، مالاتعرف أوله لاتستطيع أن تخمن آخره . فاهم .”
المفتاح الثانى فى عالم ” ناجى” هو الاسماء سواء أسماء الشخوص أو الروايات نفسها . كل اسم له معنى ودلالة ترتبط بمغزى الحكاية ، وهناك دائما لمسة سخرية تجعل للعبارات معانى مزدوجة امتداداً لفكرة ائتلاف المتناقضات التى تظهر فى الروايات كلها إذ لا يوجد أبداً لون واحد أو وجه واحد للأشخاص ، لايوجد أبيض بدون أسود ، لاتوجد أفكار كبيرة بدون تفاصيل صغيرة وتافهة . سبق أن شرحت معنى “خافية قمر ” عند تحليل الرواية العظيمة ، ولكنى أدعوك الى تأمل تأثير هذه الصدمة التى يصنعها التناقض بين القمر عنوان الوضوح ومصدر النور وبين الخافية التى توحى بالوحشة والإظلام والغموض ، أدعوك لتتأمل هذا العنوان ” مقامات عربية ” فتتذكر فن المقامة الذى يعتبر أحد الخطوات على طريق فن الرواية ، ولكن البناء لا يقلّد المقامة حرفياً لأنها تحتاج الى راو وبطل جوال ، وليس لدينا شئ من ذلك فى ” مقامات عربية ” ، كل العلاقة فى هذه المشاهد المتتالية التى تمثل قصة سلطان أو حاكم ، والتى تمتزج بذكاء وحرفة بأسلوب حوليّات المؤرخين ( كابن إياس والجبرتى ) ، مضافاً إليها خيال ألف ليلة وليلة الخارق ، ولكن توقف وتأمل أيضاً : أليست ” المقامات ” هى أيضاً الضروب اللحنية التى تُصاغ فيها الأغنيات ، ألا يقول لك العنوان : “هكذا يغنى العرب لحن السلطة والسلطان “؟ ، ثم ألا تُحيلك كلمة “مقامات” الى تعبير “أصاحب المقامات العالية أو الرفيعة ” ، فلتكن هذه رواية عن “أصحاب المقامات العربية .. الوضيعة ” . فى عنوان رواية “لحن الصباح ” ما يدعو الى التفاؤل وبداية اليوم بسعادة ، ولكن الرواية عكس ذلك على طول الخط : مأساة رجلين يبحثان عن العدل الذى يمكن وحده أن يكون “لحن الصباح ” الجدير بالتفاؤل . “الأفندى ” لم يكن أفندياً / موظفاً مربوطاً على درجة مالية قط ، ولم يكن أيضاً شبحاً للأفنديات ( أولئك الذين يرتدون البدل للمشاركة فى الجنازات والمناسبات نظير أجر ) ، ولكنه كان أفنديا قطاع خاص جداً لا يخدم إلا نفسه وجسده ، كان أفندياً يليق بعصر سحق الأفنديات الأصليين . ومثل العناوين ، يمكنك أن تكتشف مفاتيح كثير من الشخصيات من أسمائها ، الإسم عند “ناجى” هو الهوية والشخصية وبدونه لا يوجد معنى للإنسان ( من رواية الأفندى : ” عندما يصل الأمر الى درجة نسيان الإسم تكون قد وصلت الى أحرج نقطة ، عُدت الى الحيوان مرة أخرى ، يبقى أن ينطفئ جسدك ، ينسى حتى شفرته الداخلية ، شفرة الطبيعة ، يموت . أغمض عينيك وحاول أن تتأمل نفسك بلا اسم ، أن تنظر هوّة النسيان ، حاول مرة ، الهوّة . ) .
تغيُّر الإسم يغيّر الجسد والهوية فتبدو “قمر ” انساناً آخر مختلفاً عن “سلمى” . الأخيرة تتحقق لها السلامة وتحتفظ بصورة الأم البريئة والثانية تتعرض للإغواء وتتقلب تقلّب القمر ، ويبدو “عبد القهار” شخصاً آخر غير ” إدريس البكاء ” ، الأول صارم ومحارب ، والثانى رءوف رحيم ، اسمان يصنعان شخصين مثل “الفاتح ” الذى ينشطر الى شخص يبيع ويقبض ويتنازل اسمه “شبراوى ” . الذى حارب الأعداء يتحول الى الحرب على نفسه ، يقتلها بلا رحمة . الفكرة يتم تجسيمها وتضخيمها فتتكاثر الأسماء والأجساد . طوفان من الأسماء والمعانى فى روايات ” ناجى” تفتح لك أبواب القراءة والتفسير : حبيب الله سابقا / حبيب المال حاليا ، نازك /المرأة الرقيقة بالفارسية ، فانوس الذى يضئ الطريق ، سمعان فاقد البصر الذى يمتلك البصيرة ، فايز / نصر / عبد القوى / الفاتح مهزومون رغم الأسماء الخادعة ، رعد الجبان ، النص نص المهزوز ، كوكب / المنيرة لغيرها ، عسراوى من العسر والشدة والمأزق الذى يعيشه ، مباهج التى أصبحت رخيصة ، رقبة /المائل الذى لا يعرف التوازن ، قدمٌ فى السماء وأخرى فى التراب ، برهان الحيران رسول الأقدار التى لا نفهمها ، البرهان رمز الدليل القاطع فى الرياضيات يبدو مثلنا حائراً فى فهم الأقدار رغم أنه من أدواتها ، نور / النور الجديد الذى ربما يضئ حياة الأفندى بعد أن أفلس روحياً ، الغرباوى بيزنس مان ينبئ بالخراب ، زغلول الدسوقى المناضل من زمن يذكرك بالزعامات المقدسة ، المعلم كسّاب انفتاحى آخر يريد أن يكسب دنيا وآخرة ، حسن الحلوانى “اللى بنى مصر” وعاد إليها مريضاً ، العايقة ست الحسن والجمال …….الخ .
“وداد قروى” لا تنادى “الأفندى” أبدا باسمه ، تقول له فقط ” ياولد ” لأنه لايزيد فى نظرها على ذلك ، وفى نفس اليوم الذى يقوم فيه برفع لافتة “الأفندى ” المُنيرة ، تكون “نازك ” مشغولة بممارسة طقوسها فى الحديث عن مأساة “ستّنا ” ، والدعاء على ” الواطى” ، ولكن الأفندى لا ولن يفهم ، صحيح هو مجرد طفل فى أنانيته الساذجة .
هناك استثناءان فقط فى أهمية الإسم : الأول فى رواية “رجل أبله .. امرأة تافهة ” حيث لن نعرف اسماً لا للرجل ولا للمرأة رغم أن هويّات الإثنين وتفاصيل التفاصيل عنهما مرسومة بعناية فائقة ومثيرة للإعجاب ، السبب أن قصة الرجل الباحث عن الأفكار الكبيرة ، والمرأة الباحثة عن التفاصيل تتجاوز حالة محددة لأنها تكاد تصف جيلاً بأكمله أعطى ولم يأخذ سواء فيما يتعلق بالأفكار الكبرى أوفيما يتعلق بالتفاصيل الصغيرة ، الإستثناء الثانى فى المونولوج النثرى “تسابيح النسيان ” حيث لانعرف للمتحدث اسماً ، أولا لأننا نعرف أن “ناجى” نفسه يمارس التأمل بشكل مباشر وليس عبر شخوصه ، وثانيا : لأن هذه التأملات تبدو مرتبطة بقضايا وجودية عامة لا تستدعى أسماء محددة ، ولا يحسمها أن تكون من بلد أو دين أو هوية محددة .
المفتاح الثالث لعالم “ناجى” هو أن تستقبل الرواية كسؤال لا كإجابة . كل رواية تنتهى بدائرة مفتوحة وكأنها تمهيد لرواية جديدة ، وكل رواية يمكن أن تركز مغزاها فى سؤال أو عذة اسئلة . فى ” خافية قمر ” السؤال الأبرز هو : كيف نعرف الحقيقة إذا كان موضوع المعرفة والباحث عنها متقلبان ومتغيران ؟ . وسؤال “لحن الصباح ” هو : كيف تطلبون مجتمعا يخلو من التشوهات ( بدنية ونفسية واجتماعية ) فى ظل غياب العدل ؟ والسؤال فى “مقامات عربية ” هو : من يلعبْ بمنْ ؟ السلطان بالسلطة أم السلطة بالسلطان أم أن الإثنين ألعوبتان فى أيدى الزمن ؟ ، والسؤال فى “العايقة بنت الزين ” هو : من كسب الحرب .. الذى انتصر فى الجبهة أم الذى جمع الغنائم فى الداخل ؟ ، والسؤال فى ” الأفندى ” هو : كيف يمكن أن تعيش لنفسك دون أن تفقد جزءا من نفسك / من قلبك / من روحك “؟ ، والسؤال فى ” رجل أبله .. امرأة تافهة ” هو : “هل الحياة أفكار كبرى فقط أم تفاصيل تافهة فقط أم الإثنين معاً “؟ ، والسؤال فى “ليلة سفر ” هو : “هل تنجح الذاكرة وحدها فى سد الشروخ سواء بين الأجيال أو فى جدار المنزل أو فى جدار الوطن ؟ ، وسؤال “تسابيح النسيان ” هو : “هل نستطيع أن نكون بالذكرى بعد أن كنا بالجسد” ؟ ، وداخل كل سؤال كبير عشرات الأسئلة الفرعية البسيطة والمعقدة وكلها تحاول أن ترسم ملامح كائن حائر بين الروح والجسد ، بين العقل والقلب ، بين التمرد والتسليم بالوعد والمكتوب . إن طبيعة الرواية كسؤال هى الذى تعطى روايات “ناجى” هذه الديناميكية وكأنه صياد متحرك يطارد أيضاً هدفاً متحركاً ، ولاشك فى أن “ائتلاف المتناقضات” سواء فى الأسماءأوفى المزج بين الواقعى والأسطورى ، أو فى تعدد الوجوه للشخصيات ، أو فى التغيّر والتحوّل الدائم للشخصيات ، أو النظر للأحداث من خلال مكعب لا من خلال سطح مستو ، أو تجسيم وتضخيم الشخصيات بطرق متنوعة ، كل ذلك يدعم هدف الرواية كسؤال ، ويجعل من القارئ “شريكاً كاملاً “فى التفاعل مع النص ولو حتى من باب التخمين والإستنتاج ، يضاف الى ذلك أنه رغم وضوح منطق الصواب والخطأ فى سلوك شخصيات “ناجى ” ، ورغم أن انحيازات الروائى الكبير واضحة ، وسخريته تشير الى موطن الداء ، إلا أن رواياته لاتنزلق أبداً الى أخلاقية تعليمية مباشرة ، إنه لا “يدين” شخصياته بقدر ما يقوم “برثاء” ضعفهم وسقوطهم ، فى “الأفندى” مثلاً يتعاطف ” ناجى ” حتى مع من يمارسون الثرثرة الثقافية تبريرا لورطتهم وانهزامهم ، فتنتهى الرواية بأغنية تقول : “خوفى عليهم يا “نوخذة” خوفى عليهم ، عينهم على “القرش” فى البر ، والقرش فى البحر عينه عليهم ، خوفى عليهم ” . حتى الشخصية الأسطورية ذات الأبعاد السياسية الواضحة ، والتى يطلق عليها اسم “الواطى” لا تُتْرك أفعالها البشعة دون تفسير :” وداخل السوار كان الواطى، لا عينه ترى الجمال ، ولا قلبه يعرف العشق، عجوز قبيح ، بعين زجاج وقلب حجر ووجه صفيح ، لكنه صاحب جيش وأمر ، حوله حرس ، وفى يده جرس ، إذا صلصل يركع له البشر ” . وعندما يرتكب جريمته ويأخذه الملاكان الى السماء لعقابه يعيشون فى حيرة كبيرة : كيف يمكن عقاب من لا يعرف معنى الجمال على قتل الجمال ؟ أليس العقاب على قدر المعرفة ؟ لذلك بقى “الواطى” معلقاً بين السماء والأرض والجنة والنار . هذه اللمسات الإنسانية الرائعة تجعل” ناجى” ممن يتعاطفون مع الإنسان بحكم التناقضات التى ولد بها والتى قد تمزقه تمزيقاً دون أن ينزلق الروائى الكبير الى تبرير الخطأ أو الدفاع عنه . إنه يقول لك : هذا مع الأسف هو الإنسان الذى يقفز تطوره المادى بينما يتجمد أو يتراجع تطوره الأخلاقى . حتى شخصية باعت كل شئ لمن يدفع مثل “فايز ” يجعلها الروائى الكبير تطرح سؤالاً رائعاً رغم سقوطها هو : “هل يستطيع وعينا أن يحدد المصائر ؟ أن يتحكم بها ؟” .
أما المفتاح الرابع فى عالم ناجى فهو “المرأة ” . من المستحيل أن تصل الى أبعاد كل رواية دون تحليل شخصياتها النسائية لأن المرأة فى أعمال “ناجى” لا تُقدّم فقط بملامح واقعية ( مثل كوكب فى ليلة سفر ، ووداد قروى وموزة فى الأفندى ) ، ولكنها تبدو فى روايات وأعمال أخرى كما لوكانت مرادفا للحياة متعددة الوجوه ( مثل نازك فى الأفندى ، ومثل المرأة التى ندهت حمروش فى نفس الرواية ، ومثل قمر التى كانت سلمى فى ” خافية قمر “، ومثل جول فى تسابيح النسيان التى سرعان ما تندمج مع الحياة التى تنسى عشاقها رغم الذكريات المشتركة ، ومثل كاترين التى تتعرى دون أن تكشف لعسراوى أبداً لغز الحياة ) ، كما تحمل المرأة رموزاً مستترة وكأنها الوطن المُنتهك ( العايقة فى العايقة بنت الزين ، وستّنا فى الأفندى ) ، وفى بعض الأعمال تضع المرأة قدماً فى الواقع وقدماً فى الأسطورة ، ويُقدّم الإثنان بمنتهى القوة والبراعة ( العايقة ونوسة فى العايقة بنت الزين ، ونازك فى الأفندى ) ، حتى المرأة فى “رجل أبله .. امرأة تافهة ” تذكرك بإيزيس التى تلملم أشلاء الرجال المثُخنين بالجراح ، والحاجة ويكا فى ” لحن اصباح ” هى الوحيدة التى تعطف على البطلين المشوهين . المرأة فى روايات “ناجى” لها شخصية مستقلة ، قوية ، وتعبر عن الحياة ، وتحمل على ظهرها ذاكرة البشر الأسطورية ، هى البيت والوطن ، هى المتعة والعذاب ، أما رجال روايات “ناجى” فهم أطفال بالمقارنة بنسائها الرائعات ، فى تلك الروايات يتساند الرجال على النساء ( نازك والأفندى فى رواية الأفندى ، كوكب وعبد القوى فى ليلة سفر ، سمعان ونوسة فى العايقة بنت الزين ، الرجل والمراة فى رجل أبله وامرأة تافهة ) . الرجال فى روايات ” ناجى” يثرثرون ويصخبون ويرتكبون الحماقات ولكن النساء تمتلكن السحر والسر، المرأة هى متعة الجسد ومعراج الروح معا ، فى “لحن الصباح ” مثلا هذه العبارات : “سحبته المرأة الى الخلاء ، وهناك تاه فى الجمال الذى لم تره عين ، طاوع نفسه ، وخلع أسمال الدراويش ، ولما همّ بها ، انشقت الأرض وابتلعتها ، فانفتحت بصيرته وعرف أنه وقع فى الشرك ، ستر عورته بيده ونظر الى السماء ، سطعت الشمس فى منتصف الليل ، وتفتحت شرفات السماوات ” ، وفى “الأفندى” ندّاهة أخرى متعددة الوجوه : ” جدك حمروش خدعته السماء ، مديحة وصبيحة وسميحة ، لم ير الوجه الحقيقى ، وتاه فى تقلبات الوجوه والسماء ……….. كان يتتبع النساء فى السواق باحثاً فيهن عن وجه الجنيّة ، أو يتوه فى الشوارع باحثاً عن أبواب كانت قد فُتحت أبوابها له يوماً ، لم يعرف أنها بيوت مسحورة ، يركع ويبكى على الأعتاب : “أين أنت ياهى ؟ ” ، وهذه امراة كأنها الحياة فى “تسابيح النسيان ” : ” تماثيل صلصال بلمسات أصابعك / عيونٌ شاخصة فى مرايا ذاتك / تشتغلينهم على عجل / لينظروا فيك ما لاترين فى نفسك / وهبتهم نعمة الوجع / البصر الذى به يسبّحونك / وتتظاهرين بالنسيان / بين غمضة وغمضة / إشراقٌ وألف غياب / من نفس النقطة تقريبا “. وهذه أيضاً المرأة / الحياة التى تكاد تكرّر لعبة “كاترين ” ،والمقطع من “تسابيح النسيان ” : “المرأة التى قامرت بكل مفاتنها / أعطته كل ما يريد / ( ليس فى الوقت المناسب دائما ً) /وبخُلت عليه بالقطعة الأخيرة / وهو مثل كل مرة يتعرّى / يتأهب لدور جديد / يعرف أنها لن تفرّط فى ورقة التوت / لكنه مرة أخرى / آه .. / يحاول مرة أخرى ” .
تنسجم فى عالم “ناجى” كل التناقضات لأنها ببساطة منسجمة فى عالم الإنسان ، تهبط الأسطورة من السماء والجبال لتفسّر لنا ما يحدث على الأرض ، يندمج الأسطورى والدينى والفلسفى والواقعى لأنهم يندمجون فعلاً فى ذاكرتنا وفى أفعالنا وأقوالنا ، نعلو من الجسد الى الروح ثم نهبط من الروح الى الجسد ، تحاصرنا دوائر ولكن يظل هناك دائما منفذٌ للخروج ، تغيب أقمار وتشرق شموس والإنسان بين حربين : حربٌ فى داخله وأخرى فى خارجه ، حروبنا أيضاً ضد الزمن وضد النسيان وضد ضعفنا وخوفنا وقيودنا ، وانتصارنا عندما نعيش لحظة وعى ويقظة روح ونبضة قلب وفرحة حب ، حلمُنا أن نُبحر فى سفينة وسط أمواج هادئة ، وأن نختار بقدر اتساع الدائرة حولنا ، وأن نعرف بقدر ما نستطيع ، وأن نُحاسب فقط على قدْر ما نعرف .
مدينة “ناجى” الروائية لها أبوابٌ بعدد أسئلة الوطن والبشر ، لن تخرج منها إلا وقد عرفت أكثر عن زمنك ووطنك وإنسانيتك ، ستفرح بالأمل ، وقد تخجل من تصرفات كل “واطى” فتسأل الروائى الكبير هذا السؤال اللذيذ : ” هل كان لابد يا سيدى أن تضئ كل هذا النور ؟ !” .