“أحمر لارنج” لـ شارل عقل .. لذة اللهو والكتابة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أميمة صبحي 

يقول كونديرا في رواية “كائن لا تحتمل خفته”: في بداية أساطير كثيرة، هناك أحد ما ينقذ طفلا لقيطا. وهذا ما فعله شارل عقل، ببساطة شديدة، حين قرر انقاذ أوكرديون وحيد قابع في ظلال شقته المستأجرة، يتبادلان النظر بلا هدف، ليحقق أسطورته الخاصة على مدار أكثر من ثلثمائة صفحة.

اعترف أن من الصعوبة الكتابة عن رواية عقل الأخيرة “أحمر لارنج”، الصادرة عن دار الكرمة ببداية 2020، على عكس كتابه الأول “غذاء للقبطي”. والصعوبة هنا لمدى تمكن الكاتب من الحكي الهزلي بخفة تتركك منحازا لها بقوة والأهم متشابكا معها في لذة.

ففي روايته يسير بنا عقل بين ثنايا مدن كثيرة ليتوقف في كل منهم ويسرد سردا طويلا عن التجربة الموسيقية والغنائية التي مرت بها. فالمدن لديه ليست مكانا نعيش فيه، بل تاريخ ممتد لأناس عادية رأوا بالموسيقى ملاذهم وبنوا أهمية حياتهم على هذا التاريخ. فنعيش مع شباب من القاهرة والأسكندرية وشبين الكوم، والأخيرة هذه تحديدا لديها تجربة موسيقية أشبه بملحمة.

اليوم، تُعرف المنوفية باحتوائها على أكبر عدد من مستمعي بينك فلويد بمصر، وغالبا إذا قابلت شابا جامعيا أتى من المنوفية خلال سنوات أول الألفية، ثق تماما بأنه سوف يكون من مستمعي بينك فلويد“. وهذا لأن الأمتي قام بنسخ الشريط الشهير “الجانب المظلم من القمر” لفرقة بينك فلويد في عدد لا نهائي من النسخ ووزعهم بيده على كل من قابلهم بشبين الكوم، في تصاعد ملحمي ممتد لفترة طويلة لحبه لموسيقى الروك وبمساعدة كل من استطاع المساعدة لإيصال هذه التحفة الفنية ليد الجميع. وتصاعد الموقف في محاولات لدعوة الفرقة الشهيرة للغناء بفندق الجامعة، الفندق الوحيد بالمنوفية. وامتد طموحهم لعمل برنامج متكامل لبينك فلويد لعمل جولة فنية بالمنوفية والغناء بنادي جمهورية شبين.

في “أحمر لارنج”، ملاحم كثيرة، لن تتمكن من وضع يدك على أحدها إلا وتجد نفسك مشتبكا مع واحدة أخرى. في البداية كان الأوكرديون الذي أشرت إليه، لكنه لم يكن البداية الفعلية. كان الفراغ هو ما انطلق منه البطل، شخص يفشل في قصة حبه وينتقل من الأسكندرية للقاهرة هاربا من طيف هذه القصة. وهنا في المدينة التي لا ترحم أحدا يبدأ في النظر حوله ورؤية ما عليه فعله في وسط كل هذا الفراغ الذي يحيطه من كل جانب. فيلعب، مثل عقل الذي يكتب كأنه يلعب. اللعب هنا ليس مجازا لكنه الحالة التي ستجد نفسك بداخلها طوال الرواية. اللعب على آلات موسيقية لم يحدث أن مسكها البطل من قبل. اقتحام مدرسة وفيلا فقط من أجل اللعب حتى لو كانت السرقة الهدف الأول، لكنها مجرد غلاف جدي للهو. والاعتراف بذلك للغفير حارس الفيلا، عندما يسألهم عن ماذا يفعلون في نصف الليل داخل العقار المهجور، فيجيب ببساطة من دون تفكير “بنلعب”.

هكذا ببساطة وخفة، ننتقل طوال أحداث الرواية مع الشخصيات ما بين القاهرة والأسكندرية وشبين الكوم وبيروت ونتابع لهوهم المستمر من أجل لا شيء. لأن هذه هي الحياة، مجرد لعبة وعلينا اتقان لعبها حتى نجد شيء أصيل نتمسك به. اعتقد لهذا السبب جاء اسم “أحمر لارنج”، لأن هذا الأحمر هو الشيء الحقيقي الوحيد الذي استحق السير وراءه والنظر إليه نظرة جدية مرهفة، كأن كل هذا اللهو كان مستحقا تماما لنصل لهذه النقطة المحورية. الجميل أن هذه النقطة التي قد يعتبرها بعض الكُتّاب حبكة درامية جديرة بتعقيد الرواية والحكي ما قبلها وما بعدها، جعلها عقل في آخر صفحات الرواية. بداية عصر جديد للبطل، ربما ليقول لنا أن بين قصة وأخرى ستجد فراغا رهيبا عليك ملأه لئلا تقع به. حتى لو كل ما ستفعله هو اللهو واستخفاف الحياة التي سبق واستخفت بك.

نعود للقاهرة، مسرح أحداث الرواية بأحيائها الكثيرة وشديدة التباين. لم يكتف عقل بوصف المنيل باعتبارها جزيرة منعزلة بغرب القاهرة، اكتفى بها في البداية لأنه كان غريبا لا يزال، معزولا مثلها. ثم بدأ التحرك داخلها على مهل، مصطحبا آلاته الموسيقية التي لا يعرف عنها شيئا ولا يجيد العزف عليها. فننتقل معه بشوارع وحواري وبيوت وأسطح فقط لنستمع إلى الضجيج الموسيقي الذي يفتعله مع أصدقائه وفي الخلفية ضجيج المدينة نفسه. كان عليّ التفكير أن كل مدينة تفرض موسيقاها الخاصة، ولا مكان أفضل من المدن الكبرى بكل صخبها وزخمها قد يفرض موسيقى مزعجة. وهذا ما حدث ويحدث مع التطور الموسيقي الذي يحيطنا الآن من موسيقى المهرجانات التي نشأت بالأسكندرية وتطورت وانتقلت للقاهرة بكل ما تحمل في طياتها من اقتراب أو ابتعاد عن المفهوم الموسيقي الذي اعتدناه.

من أكثر الفصول الملحمية التي توقفت عندها، كان فصل “قنديل الجو – حراك بيولوجي”. لن أتحدث تفصيليا عنه، سأترك للقارئ اكتشافه. لكنني أحب أن أشير إلى أنه كان متعة خالصة فيما يخص العشوائية والضجيج والتلوث بمعناه العفن تماما والسخرية والجدية في آن وأكثر من ذلك من أمور تفرضها مدينة ممتدة كملهاة مثل القاهرة. قناديل الجو التي نشأت نتيجة للعفانة واعتياد القاهريين عليها للدرجة التي يستأنسونها ويقومون بتربيتها مثل حيوان أليف ثم القيام بتدريبها على خوض المعارك العنيفة والمراهنة على المكاسب وفي الخلفية موسيقى صاخبة مزعجة تجد جمهورها الخاص بشكل مربك وحاد وجميل في نفس الوقت. والكوميديا السوداء في قيام رجل قادم من بعيد، بخطوات وإصرار ثابت لتحقيق مهمة كأنه وُلد من أجلها. فيرتحل من أسيوط بجرأته الصعيدية وعزيمته وربما غيرة على دينه، ليقف في ساحة الغجر بالفسطاط، على تل من الزبالة ويدير مؤشر الراديو بضراوة على إذاعة القرآن الكريم، ليفسد اللعبة.

ستلاحظ، شريكي في اللعبة، أيها القارئ، أن عقل، قائدنا في اللعبة، سمى شخصياته بأسماء ساخرة، معظمهم نعوت قد تشير لصفة بالشخصية مثل القائل نعما والمحلي وتعريشة الذهبي والكيان المعتم والجناس التام وهلما وكيف تتأنق، وبعضهم قد لا يدل على شيء مثل الإمجي والإمتي لكنهم جميعا خاضعون لأسمائهم دون اعتراض. شخص واحد من ضمن شخصيات قليلة، استحق اسما حقيقيا جادا وهو كمال مرسي العطوف الذي وقف وسط الزبالة لينهي لعبة قناديل الجو، واستحق اسما جادا لأنه كان ثقيل الظل وتصرف مثل صاحب المحل الذي يمسك الكرة من الأولاد ويمزقها عقابا لهم.

أما المرأة في أحمر لارنج، فقد تبدو نادرة الظهور، لكنها ما أن تظهر حتى تثير الزوبعات حولها وتكون محرك رئيسي لكثير من الأحداث. غير حبيبته التي هرب من طيفها البطل وانتقل لمدينة القاهرة، ظهرت السيدة إلهام المغنية المجهولة تماما التي هام بها البطل وقرر إحضارها لقلب القاهرة لتغني بأي ثمن. واشتد اللعب هنا وقدم لنا عقل دوائر متكاملة من التحايلات على كل الأنظمة ما بين الدول العربية والفرق الموسيقية وجداول تقديم العروض وتذاكر الطيران ومنح الجهات الممولة للمشروعات الموسيقية ودعم الفنانين العرب والفنون الشعبية. “كل الأونطة” كما أطلق عليها عقل حدثت في الطرق المستخدمة لجلب السيدة إلهام للقاهرة، الترويج لها من اللا شيء وإيهام الجمهور أن لها شعبية ولها وجود في مصر ورسم وجهها بالجرافيتي على جدران المدينة واهتمام الصحافة بالرسمة بعد أن ساعدهم الحظ وقام فنان مجهول بكتابة جملة عابرة أسفل الرسمة “الأمور الميتافيزيقية مضيعة للوقت”. وتكررت الجملة على كل الجرافيتي الخاص بالسيدة إلهام، فازداد أعداد المعجبين بها على صفحة الفيس بوك، فلقد أحب الجمهور الشعار والمقولة. ورغم ذلك لم يحضر حفل السيدة سوى البطل وعشرون شخصا آخرين. وانتهى كل هذا الشغف بإحباط كبير، لكنه يتركه وراءه بخفة ويمضي لقصة جديدة.

والمرأة الأخيرة “تنس”، وقد أحببت اسمها كثيرا، اللعب المتواصل المتبادل بين شخصين يريدان اللعب. كان يعرف منذ البداية رغم تردده أنهما سيقفان متقابلان، يتبادلان الأدوار والكرة لن تسقط أبدا فيما بينهما. حالة من العشق الهادئ والرغبة الواعية واللذة الصافية.

في النهاية يقول عقل “مكثت كل ما تبقى من رحلتي بصحبة البرتقالية، قانعا ببنود المقايضة التي قمت بها، واعيا بما قامرت به، سنوات التدريبات وساعة المذاكرة، تقبل الإهانات ومحاربة قناديل الجو، والتخلي عن فرصة نادرة لتقديم حفل حي أو عقد ميثاق شامل، فهمت لماذا اتخذت كل هذه السلسلة من القرارات العشوائية“.

بالنسبة لي لم تكن قرارات عشوائية لكنها كانت خطوات لاهية نحو الطريق الذي نبحث جميعنا عنه، طريق نحو أنفسنا ونحو الحب.

كتب عقل هذه الرواية من فرط انفعاله بالتجربة، على عكس قول تشيخوف “لا ينبغي البدء بالكتابة إلا عندما يشعر المرء بأنه بارد كالجليد”، فحاول الكاتب تسجيل سحر بعض اللحظات وبؤس بعضها بينما لا تزال حيوية. “لكي أضع الأمور في نصابها وأتفحصها بتدقيق وأحللها، قمت بالنشاط الأكثر كشفا للهراء وهو الجلوس والكتابة”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة ومترجمة مصرية. .. والمقال نشر في أخبار الأدب 

مقالات من نفس القسم