أحمد شافعي في روايته رحلة سوسو: سرد لعوب يتراقص على التخوم

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

لا شكّ أن أي عمل أدبي جدير بهذه التسمية يلعب أساساً على الخيال، لكن بعض هذه الأعمال تكون درجة الإحالة فيها إلى الواقع - أو ما اصطلحنا على تسميته بذلك – عالية جداً وعرفنا في هذا الشأن درجات وألوان متباينة من الواقعية، بمدارسها المختلفة أيضاً، في الوقت نفسه تنداح أعمال أخرى بعيداً عن أي إحالة أو مرجعية – إلا على نحو شكلي طفيف – إلى واقعٍ خارجي ومتعالٍ بالأساس.

 

 في سردنا المصري الحديث لا نعدم أسماءً جنحت عالياً في أفق خاص بها بدايةً من قصص محمد حافظ رجب بما وراء واقعيتها الخاصة جداً وانتهاءً ربما في الآونة الحالية بكتابات طارق إمام وفانتازياته المرعبة والآسرة معاً. وبينهما بالطبع تراكم من نصوصٍ أدبية لا يجمعها وخبرات الحياة اليومية إلا خيط واه لا يكاد يُحس. أمّا عن رواية رحلة سوسو للشاعر والمترجم أحمد شافعي فعلى مستوى ما يمكن التعامل معها كعمل واقعي بدرجة أو بأخرى، وفي الوقت نفسه كعمل لعوب بل ومغامر.

عظم الحكاية – إذا كان من الممكن الوقوف لها على هيكل عظمي في حالتنا هذه أو حتى في أي حالة أخرى على العموم دون إجراءات الاعستاف المعتادة – هو حكاية بنت اسمها تسافر إلى أختها الصغرى في مدينة حضرية غير متعينة حيث التحقت هذه الأخت بالجامعة هناك وسكنت في شقة للطالبات، لتلقي هناك بأشرف الذي يفتح لها باباً نحو حكايتها الخاصة المختلفة بالطبع. أشرف هنا هو محرك خيال من نوع أصيل، نصف طالب ونصف موظف ونصف صياد بنات ونصف موجود. يقول: “لا أريد أبداً أن أشعر أنني أعرف أين أنا… سيكون أكذب شعور في العالم وأكذب معرفة، فقط لو أكون هكذا… طارئ على المكان والمكان طارئ عليّ”، ذلك لأن الخيال دائم الحركة بنا وفينا عبر صورة ولغة لا مستقر لهما.

أكّدت الرواية على إرادة اللعب الحر من خلال عدم تعيين مكان المدينة التي تدور فيها الأحداث الرئيسية لرحلة سوسو، وكذلك من خلال غياب أي حبكة مركزية من أي نوع، بل إن الشخصيات يظهر بعضها ويختفي بلا مقدمات أو نتائج، ربما ليبقى إضفاء المعنى مهمة القارئ الذي عليه أن يستمتع بإعادة ترتيب وتشكيل هذا النثار العشوائي، كما نفعل مع شظايا حياتنا اليومية.

تحايلت الرواية على تقنيات السرد الفني المتعارف عليها وطرائقه المطمئنة، وكان الكلام هو أداتها الناجعة لتحقيق هذا الالتفاف اللطيف. ليست هذه هي الرواية الأولى التي تستعين بطاقة الشفاهية، وتجدر الإشارة هنا إلى روايتين أخريين تعتمدان لعبة الكلام ذاتها، هما: حالة جرامشي، ولسان آنا، للفرنسي برنار نويل، وهو شاعر أيضاً بالمناسبة.

المقصود بالكلام هنا إيقاع النَفَس الإنساني، الذي لا يُمكن تعديله أو شطبه، الابن الشرعي لوحي اللحظة والعفوية، لا يعرف نسقاً خطيّاً واضحاً لأنه كما يقال “يجيب بعضه”. ومن السطور الأولى لرواية رحلة سوسو نقابل فعل القول ليس كمجرد أداة في ترسانة التقنيات المتوفرة للروائي كي (يقول هو كلمته)، بل كأنه الفعل الوحيد الجدير بالانتباه إليه كمؤثر أساسي، فجوهر العلاقة بين أشرف ونجوى/سوسو هو الكلام، تكاد تشبه من بعيد علاقة شيخ بمريده أو محلل نفسي بإحدى حالاته، وهي ليست علاقة حوارية لأن درجة التواصل بين الأشخاص تقريباً صفر، كل منهم في حالة مناجاة ذاتية ولو كانت بصوتٍ مسموع. عندما تفشل نجوى في خداع أشرف تنتبه عندها لهذه الكلمة: “الخداع، تبينتْ أنه صلب الحوار، أي حوار، وأن الصمت وحده هو الحقيقي”.

نحن نتعرّف على طبيعة ميول سماح المثلية من خلال كلام أشرف الذي قاله لها، وتسأل هي: “من أين جاء أشرف بهذا الكلام؟”. ثم نتعرف على الجانب اليومي المبتذل من أسطورة أشرف عبر كلام البنات عنه. فهو مانح الحلول القريبة ونعرف أنه مختلق لأسطورة وبطلها الغايب وأنه ثرثار وكاذب ومخدر ونعرف أنه بانجو…

إننا – عموماً – نعرف عبر الكلمة، ونصنع حياتنا أيضاً عبرها، ويطالعنا مشهد الشاعر الخشبي في المحبرة من السطر الأول في الرواية. ثم هناك الشاعر الأفرو-أمريكي، وهو هنا كأنه ظلّ لأشرف، ظل رومانسي ومتفجع يظهر للحظات ليعاود اختفاءه.

لعلّ التماهي بين أطياف خيال مُنتَجة عبر تداعي الكلام الحر، وبين أرض الواقع بقوانينه الصلبة يدفع البعض للارتباك من تواتر هذا السرد اللعوب الذي يتراقص على التخوم. هذا ما حدث مع الضابط أيمن عبد الحليم الذي قعد ليسمع حكاية سوسو التي هي حكاية نجوى التي هي من ابتكار واحد اسمه أشرف، لعلّه هو أيضاً من ابتكار خيال واحدٍ آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية تقريباً، أو انتهاءً إلى خيال الله شخصياً، كما انتهى إلى ذلك أيمن نفسه ثم استغفر الله… لكن يقف في حلقي سؤال أو أكثر الآن: لماذا كان على أيمن أن يكون ضابطاً؟ هل لأن هذا هو أسهل تعبير عن صلابة السلطة، واقعيتها وغطرستها- لكن هل يتفق تأويل كهذا مع حرية اللعب المفتوح التي قدمها نص الرواية؟

النص لا يجيب بشيء، طيّب، بماذا كان هناك هذا الأيمن أصلاً بهواجسه حول الشخص ذي الكوفية الحمراء وأرملة الجوهرجي التي تحب أن تبدو مترددة، لكنها تندفع نحو أيمن بنزق يجعله يُعرض عنها؟ ربما لكي تجد الحكاية مستمعاً لتعذبه وتكشف له عن هشاشة حياته، ربما لكي لا يظل أشرف وحده هو المؤرق بشبح نجوى بعد أن قتلها وصنع منها سوسو. ربما عي دعوة ليتورط القارئ، ليبحث عن أشباحه الخاصة، وربما لا لسببٍ على الإطلاق، فاللاسببية فاعل أساسي في هذه الرواية إلى أبعد حد.

يطالعنا في نهاية الرواية مونولوج، لعلّه صوت سوسو، تتحدث إلى نجوى أو العكس، في محاولة منهما لرأب الصدع بينهما، لكي يلتئم شمل صورة الخيال بصورة الواقع، بعيداً عن سؤال أيهما أكثر أو أقل هشاشةً – توجه إحداهما الأخرى نحو جميع التفاصيل العابرة وكل الأشياء بالعة التفاهة التي يشير إليها إهداء كاتب الرواية.

كانت نجوى في حاجة لأن تسافر إلى هذه المدينة الفريدة لتكتشف أشرف يجبس عند البحيرة، ومنه تتعرف على سوسو أو صورتها، التي تسافر بدورها إلى ألمانيا، ثم تحترق الحكاية لنكشتف بعد عودتها لأرض الواقع كنوز الحياة اليومية، وأن مجرد وجودنا معجزة تستحق كل الدهشة.

هذه رواية خفيفة الدم والروح، تعيد إلينا ثقتنا في الأب المهجوز لكل فن: الخيال.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*نُشر بعد صدور الرواية مباشرةً في أخبار الأدب بتاريخ 6 مارس 2005

مقالات من نفس القسم