د. مصطفى الضبع
للناقد مع الشاعر الفذ وقفتان : وقفة يتخلى فيها النقد عن قلمه متذوقا نصا فريدا متماسكا يمنح متلقيه قدرا لا محدودا من الجمال ، ووقفة يروح فيها الناقد تجميع الخيوط ورصد الصور وتسجيل التقاطعات لاستجلاء مساحات اشتغال الشاعر في تشكيل نصه وإنتاج دلالاته وقدراته في رسم رؤيته للعالم .
ومع تعدد شعراء العربية فإن قلة منهم تمكنها مواهبها وقدراتها على الدخول في دائرة الشعرية الفذة القادرة على استيعاب التجربة الشعرية العربية محققة مشروعيتها في الاختلاف ومنتجة نصها الخاص ، وصوتها المتميز الذي قد يشابهها أصوات أخرى ولكنها لا تشبه أصواتا أخر .
شاعر مصري وُلد في 26 فبراير 1966 بمدينة أسيوط بمحافظة أسيوط. عاش طفولته وتلقّى تعليمه في القاهرة. وتخرّج في دار العلومِ عام 1989. عمل معيداً بقسم النقد والبلاغة والأدب المقارَن بكلّية الدراسات العربية والإسلامية جامعة القاهرة – فرع الفيوم منذ عام 1990. ثم ترك العمل الأكاديمي منذ سنوات ليتفرغ للكتابة، صدر ديوانه الأول: “وداعاً أيتها الصحراء” ( 1998) وتوالت بعدها أعماله الشعرية حتى صدرت أعماله الكاملة في مجلدين (2012) ضما عشرة دواوين على التوالي : ليلى.. شهد العزلة – الليالي الأربع – صمت الكليم – جبل قاف – وداعا أيتها الصحراء – الأخير أولا – جزيرة مسك – وطن بحجم عيوننا- قل للمليحة – قمر جنوبي ، وصدر بعدها ثلاثة دواوين :
- القاهرة 2013.
- الحافية 2014.
- لارا .
وله عدد من الأعمال الشعرية للأطفال : صغير كبير – كبير صغير – عيون العالم – ظل ونور .
تجاوزت تجربته حدود اللغة العربية بترجمة عدد من أعماله إلى لغات أخرى :
- ليلي.. شهد العزلة. إلى الإنجليزية والفرنسية
- صمت الكليم.. إلى الإنجليزية والفرنسية
- . بعض القصائد.. إلى الإيطالية والإسبانية والألمانية.
حصل على إحدى عشرة جائزة عربية في الشعر تمنحها مؤسسات عربية كبرى معنية بالشعر والأدب والثقافة :
- الجائزة الأولى في الشعر المجلس الأعلى للثقافة أعوام87-88-1989.
- جائزة أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1998.
- جائزة (المبدعون) لأفضل قصائد عربية – الإمارات 2000.
- جائزة المنتدى العربي الأفريقي – أصيلة – المغرب – 2000م.
- جائزة الدولة التشجيعية في الشعر – مصر 2000.
- جائزة (المبدعون) لأفضل دواوين عربية – الإمارات 2002.
- جائزة ” البابطين للإبداع الشعري ” – الكويت 2002.
- جائزة الشارقة للإبداع في أدب الاطفال 2005.
- جائزة البردة الشريفة- أبوظبي 2005.
- جائزة شاعر مكة محمد حسن فقي- مؤسسة يماني الخيرية – 2005
- حصل أحمد بخيت أخيراً على جائزة المركز الثالث في مسابقة (أمير الشعراء) للعام 2008.
شعرية الوطن
تكتنز تجربة الشاعر بالعلامات الشعرية متعددة المرجعيات متداخلة الدوائر ، تبدأ من الذات مرورا بالوطن والتاريخ والإنسان لتعود مرة أخرى إلى الذات في دائرية محكمة تمثل رحلة يجد المتلقي نفسه فيها يرتحل بين تفاصيل الرؤية الشعرية قبل أن يعود محملا بما اكتنزه من صور ومشاهد تعمل على تشكيل رؤيته هو بوصفه متلقيا لعالم شعري ممررا بمصفاة الشاعر ورؤيته ويقينه في رسم الأشياء ومنحها القدرة على أن تكون ذات دلالة ، والعلامة هنا يكون لها شعريتها الخاصة فكل علامة في سياقها تكتنز بما من شأنه تقديم نظام شعري منفصل متصل حيث يمكن قراته منفصلا مقصودا لذاته أو متصلا مقصودا لغيره .
أولى العلامات المنتجة بشعرية الوطن في سياق تجربة الشاعر ، وهي شعرية تمثل قراءة نوعية للتجربة تقوم على رصد ملامح الوطن وتجذرها في سياق النصوص المتعددة ويكون على المتلقي في هذه القراءة جمع شتات الصور والعلامات في انتمائها إلى مكان واحد :مصر– القاهرة – النيل- الصعيد – الجنوب .
يفرد الشاعر ديوانا كاملا للقاهرة ، جاعلا منها عنوانا يقوم على اسمها دون منازع ، يحاكي تفردها كما يراه الشاعر بقوله :
القاهرة
” ولا تشبهها مدينةٌ ولا تقلِّد مدينةً، لا تعرفُ لها زمنا،
ولا تستطيعُ أن تسكنَ خارطةً،
هي، هي على بعد خطوة من الجنَّة وخطوة ٍمن النار!
أعرافُ الأرض أم الدهشةُ والزمنُ والأساطير
كلُّ لحظة تولدُ، وكلُّ لحظة تكتسبُ من شيخوختها شبابًا
اسمُها القاهرة، لا اسم آخر يليقُ بها. “
في سياق أعمال الشاعر لا تجد مفردة القاهرة متداولة بكثرة (لا تتجاوز في حضورها قرابة عشر مرات فقط ) ، ولكن حضورها لم يبتذله التكرار وإنما يعتمد فضيلة الندرة بحيث يجعل الشاعر منها أيقونته التي يقيم نصها عبر تقنية المحو والإثبات ، تلك التي تقوم على النفي (لاحظ تكرار أداة النفي في النص السابق خمس مرات ) ، والنفي قرين الظهور الأول للقاهرة في تجربة الشاعر بكاملها ، إذ يكون تصدير الديوان الأول ومفتتح علاقة الشاعر بمتلقيه مؤسسة على فاتحة يحكي فيها الشاعر عن طفولته البعيدة وكيف يرد الطفل على سؤال المعلمة التقليدي عما يتمنى الطفل أن يكونه مستقبلا فيأتي جواب الطفل مباغتا ، شعريا ، حاسما قائما على نفي احتمال المعلمة :
” – لأ، نفسي أطلع نبي)
وَاحْتَاجَ التِّلْمِيْذُ عِشْرِيْنَ عَامًا كَيْ يَتَعَلَّمَ وَيَعْلَمَ
أَنَّ القَاهِرَةَ لا تُنْجِبُ أَنْبَيَاءَ!!” ([1])
عبر الزمن(عشرين عاما ) يتفتت حلم النبوة ، وبفعل العلاقة بالقاهرة ، ويتفكك في نصوص شعرية الرؤية ، تحمل نبوءة الشاعر الخاصة وتطرح جماليات نصه ، وتبقى من المشهد علامتان :
- النفي بوصفه وسيلة المحو والإثبات ، تلك التقنية الأبرز في تجربة الشاعر .
- القاهرة بوصفها حاضنة الشعر والتاريخ والتفرد ” ” ولا تشبهها مدينةٌ ولا تقلِّد مدينةً، لا تعرفُ لها زمنا” على حد تعبير الشاعر ، القاهرة المنفلتة من التشبه بالآخرين تماما كانفلات الشاعر نفسه من التشبه بغيره أو دورانه في فلك السابقين أو المعاصرين .
- مصر ، وهوما يطرح مفهوم الوطن لدى الشاعر عبر مجموعة من العلامات المباشرة الداخلة في تشكيل فضاء الوطن ، تلك العلامات المحددة بذاتها المنتمية إلى الشاعر عبر وطنه وتمثل أساسا لصورة الوطن لديه (النيل – القاهرة – أحمد شوقي – بهاء طاهر – سليمان خاطر – الصعيد .
“رُدِّي لِيَ الأَيَّامَ أُسْبُوعٌ
فَكُلُّ العُمْرِ سَبْتُ
غنَّيتُ باسمِكِ
وانكسرتُ
أمامَ يأسي وانتصرتُ
غنَّيتُ مِصْرَ فَهْل رأتْ
مِنْ أيِّ شريانٍ نزفتُ؟
وَحَضَنْتُ كلَّ بُيُوتِ مِصْرَ
وَلَيْسَ لِيْ فِي مِصْرَ بيتُ” ([2] )
تلك العلاقة القائمة بين الشاعر ووطنه ، فهو يرسم لوحة للوطن ترتبط بعمره ومساحة حضور كل منهما في الآخر :
” هي لوحةٌ
لاَ ينبغي إكمالُها
فكمالُها
والعمر مرتبطانِ!!” ([3])
والمثنى يفرض ثنائية تتكرر خلال النصوص لتكون بمثابة الثنائية الأساس التي تتوالد منها ، أو تتبلور من خلالها مجموعة من الثنائيات :
- الذات / الآخر – الذات /الوطن – الذات / التاريخ – الذات / الموضوع – الذات / المعنى – الذات / الصورة ، وهي ثنائية تكون فيها الذات عنصرا أساسيا يتشكل وفق سياق النص ويتشكل وفقه مجموعة العناصر الداخلة معه في الثنائية بالقدر الذي يعمل على توسيع السياق وثراء المعاني ، وبروز النظام النصي الذي يعتمده الشاعر منتجا جملة من الجماليات .
والذات تعبر عن نفسها بعدد من الطرائق ذات التأثير في المتلقي عبر إدخاله إلى لعبة الصوت المتحدث/ المتحكم في طرح الصورة ،ويمكن رصد طريقتين أساسيتين :
- لعبة الضمائر في صورها المختلفة : المنفصل – المتصل / الظاهر – المستتر ، وهو ما يتسلسل منذ الصورة الأولى التي تمثل الحضور الأول للأنا الصريحة عبر أعمال الشاعر ، ذلك الضمير الذي يقارب حضوره الثلاثمائة مرة : موزعة على الأعمال الكاملة 140 مرة في الجزء الأول من الأعمال الكاملة (خمسة دواوين في 607 صفحات ) و 207 مرات في الجزء الثاني من الأعمال (خمسة دواوين في 574 صفحة ) ويتولد منها عدد هائل من التراكيب ، منها على سبيل المثال :
“أنا ضيفٌ
على الدنيا
وَأُوْشِكُ أن أُوَدّعَها
وُلدتُ
بِحِضْنِ قافيةٍ
وأختمُ رحلتي معَهَا
وغايةُ شهوةِ الكلماتِ
أَنْ تغتالَ مبدعَهَا!!” ([4])
وفي معظمها يكون الضمير مبتدأ خبره مفرد كما في الصورة السابقة ، أو جملة فعلية كما في غيرها من التراكيب المتعددة ، وهي تراكيب يتوالد عنها – بصورة تصاعدية – معظم أساليب الشاعر المنتجة قنوات الاتصال بالمتلقي .
- لعبة التعبير بالجزء عن الكل : وفيها يختزل الشاعر ذاته في واحد من عناصره أو علامة من علاماته في تعددها عبر النصوص : قلبي – يدي – عيني – فمي ، وغيرها من العلامات ذات الطبيعة الجزئية في انتمائها للذات في واحديتها :
” قلبي
كمنديلِ الوداعِ مبللٌ
بَمَدَامِعٍ
مجهولةِ الأحداقِ
***
وبه من الإرثِ القديم نبوءةٌ
عملاقةٌ
كطموحي العملاقِ
***
منْ صلُبِ هذا الشعبِ
يولد شاعرٌ
سيغيِّرُ التاريخَ بالأوراقِ” ([5])
التشبيه هنا يحيل المتلقي إلى العالم المنفتح ، جاعلا من الشاعر فاعلا يحرك متلقيه من الداخل (النص ) إلى الخارج (العالم ) ومن الخارج إلى (التاريخ )، وهو ما يمنح النص القدر الأكبر من الحيوية عبر توجيه المتلقي إلى مناطق التأثير النفسي (لحظة الوداع ) من خلال التأثير الذهني (المشبه به المستدعى عبر حركة ذهنية تكمن في صورة منديل الوداع وتوابعه )، والشاعر هنا يطرح صورتين متعانقتين : القلب ومابه ، والشاعر المكتنز بقدرته على التغيير ، حيث جعل الشاعر من الصورة المتبلورة في مشهدين ينتميان للماضي والحاضر تمهيدا للصورة الأهم التي يرسخها في المستقبل عبر علامتين لغويتين : يولد – سيغير بوصفهما علامتين لهما طبيعتهما الزمنية أولا والتأكيد على فعل ذات واحدة (تولد – تغير ) عبر الأوراق التي تمثل مساحة التقاء الشاعر بمتلقيه بوصفها الوسيط الأمثل للرسالة الشعرية بين منتجها ومستقبلها .
المحو والإثبات
إذا كانت الكتابة في مجملها حوارا متعدد الأطراف ، حوار له طابعه الحجاجي ، وله طابعه المعرفي فإنه بقدر ما يمنح العلاقة بين الأطراف نوعا من الحيوية ،ونوعا من الشعور بالعالم حين استدعائه :
تقوم تقنية المحو والإثبات على النفي والإثبات التي يعتمدها الشاعر ، تتعدد طرائقها ، ووظائفها ، ومن بينها طريقتان :
- النفي المقيد : حيث الأسلوب يعتمد طريقة النفي والاستدراك :
“القُدْسُ ليستْ مأتمًا
شُكْرًا لمُحتَرِفِي العَزاءْ
لكنَّها ألَقُ النُّبوَّةِ
فِي جَبِينِ الأَنْبِياءْ
صَلَواتُ مِئذَنَةٍ
تُقَبِّلُ باسْمِنَا
خَدَّ السَّمَاءْ
القُدْسُ
بِنْتُ الحُبِّ
أُخْتُ الحزنِ
أُمُّ الْكِبْرِياءْ!!”([6])
ينبني الأسلوب هنا على ثلاثة عناصر أساسية :ما قبل النفي + النفي + ما بعد النفي ، الما قبل يقوم على تثبيت صورة فوقية يطهرها النفي بتخليصها مما يعلق في أذهان الآخرين أو ما يريد البعض إلصاقها بها ، والأسلوب يتكرر بكثرة في إنتاج الشاعر
- النفي المطلق : وفيه يعتمد الشاعر على الشراكة مع متلقيه حيث يطلق الشاعر النفي محركا متلقيه لاستكمال الدائرة منتجا الإثبات :
” لَيسَتْ بِلاديَ
عُمْلَةً
أو مَخْفرًا
لَيسَتْ حُدُودًا
أو صُفوفَ مبانِ
لَيسَتْ إذاعاتٍ
تؤلِّهُ حاكِمًا
وتُعِيدُ فيه
عبادةَ الأوثانِ
لَيسَتْ نَشِيدًا
يَمْدَحُ العَلَمَ الذي
رفعَتْهُ كفُّ الجُندِ
فِي الميدانِ
هَل تَفْتَدِي أُمٌّ
بِعُمْرِ وحيدِها
هَذَا القماشَ
الباهتَ الألوانِ؟
ليست ترابًا
فهْوَ يملأُ صَدْرَنا
والريحُ تحملُهُ
لكلِّ مكانِ” ([7])
حوارية مع ابن زيدون
تقوم قصيدته ” مايوجع النون ” على معارضة نونية ابن زيدون الشهيرة “أضحى التنائي ” غير أن الشاعر يضفر بين ثلاثة أصوات شعرية تضفيرا يسهم في تشكيل جماليات النص :
- صوت ابن زيدون : و يستشعره المتلقي منذ بداية القصيدة مع قراءة المقطع الأول الكاشف عن بحرها وقافيتها :
” أَوْطانُنا نَحْنُ،
وَالدُّنْيا مَنَافينا
هَلْ يَسْأَلُ النَّاسُ
عَنْ أوطانِنا، فينا”
متوافقا مع الاثنين : مع ابن زيدون في الإطار والوزن والقافية ، ومع شوقي في تفرده بالوطن ([8]) وطرحه مفهومه الخاص له خلافا لابن زيدون الذي كان يفتقد الوطن رغم عيشه فيه .
الشاعر هنا يثبت الوطن بوصفه مفردة أولى يطرحها مبتدأ وقاسما مشتركا في أسلوب القصر “أوطاننا نحن ” ومكررا الذات الدالة على الوطن بوصفها مفردة مفتاحية في تجربة الشاعر ، معلنة عن نفسها عبر نظام أسلوبي يقوم على جناحين : “أنا” الضمير المنفصل المتكرر مئات المرات في تجربة الشاعر ، و “نا الفاعلين ” التي تنافس الضمير الظاهر ف التكرار والدلالة
- صوت شوقي :
ويتجلى في عدد من العلامات أولها كونه وسيطا بين ابن زيدون وأحمد بخيت ، وثانيها تلك المفردات التي تحيلنا إلى معجم شوقي معيدا الشاعر توظيفها ( نواصينا – الرياحينا – غسلينا – المصلينا ) ، ثالثها حضور شوقي مسرودا عنه :
” شَوْقِي يَعودُ مِنَ المَنْفَى
وَنَحْنُ هُنَا
نَنْفِي مِنَ الحُبِّ أَوْطانًا
وَتَنْفِينَا”
- صوت أحمد بخيت : وقد أعاد إنتاج الحالة الزيدونية متماسا مع شوقي ليخرج نصا شديد الخصوصية عبر حوارية تليق بشاعر فذ ، فإذا كان شوقي قد فاق كل معارضي ابن زيدون فإن صوت أحمد بخيت يدخل المنافسة شامخا وقد استوعب الصوت الأعظم بعد ابن زيدون ليكون صوتا يليق بعصره وبموهبته، فإذا كان ابن زيدون في نونية الأولى قد أنتج قالبا شعريا صب فيه شعراء العربية من بعده تجاربهم (أكثر من خمسين شاعرا عربيا عارضوا النونية ) ، فإن الشاعر أحمد بخيت قد استلهم أهم شاعرين اشتهرا بالنونية :الشاعر الأول (ابن زيدون )، والشاعر الأشهر( أحمد شوقي ) منتجا ملحمته الخاصة .
لا يحتاج الشاعر إلى تفسير لنصوص من خارج دائرتها وإنما يمكنك أن تفسر نصوصه عبر نوعين من الروابط :
- نوع يحيل إلى القصائد ذاتها حيث قصيدة تحيلك إلى أخرى .
- نوع يحيل إلى خارج النص حيث مجموعة الدوائر المتقاطعة ، دارة التاريخ ، ودائرة المكان ، ودائرة الإنسان ودائرة الثقافة وجميعها دوائر تشكل مدارا لحركة الشاعر بين التفاصيل الشعرية القائمة بدورها عبر مساحات حضور كل عنصر منها ، فالتاريخ يحل عبر الإنسان وهو ما يفسره حضور الشخصيات التاريخية التي يستدعيها الشاعر في كثير من قصائده منذ أعماله الأولى وهو ما جعله يلحق بالجزء الأول من أعماله الكاملة معجما لأعلام العربية الذين استدعاهم : المنخل – السموأل – امرؤ القيس – أبو نواس – المتنبي – أبو العلاء المعري – ابن زيدون – ابن رشد – أحمد بخيت ” ([9])، ويلاحظ في القائمة عدة نقاط :
- جميعهم شعراء باستثناء ابن رشد الفيلسوف العربي المعروف ، مع كون أحدهم معروفا بجمعه بين الشعر والفلسفة ( المعري ).
- أن الشاعر أدرج نفسه مجردا من ذاته شخصية أخرى معتمدة جملة سردية لا تغادر شعريتها :” لم نعثر لهذا الشاعر على ترجمة في أي كتاب من كتب التراث التي رجعنا إليها إلى أن اكتشفه الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل وإليه يرجع الفضل في معرفتنا بالشاعر ” ([10])، حيث تقيم الجملة شخصية سردية توازي شخصية الشاعر جاعلة منها نموذجها الحكائي الذي تثير حوله أسئلتها السردية حول الغائب منه سرديا والحاضر شعريا ، ويكون إخفاء التفاصيل السردية عن الشخصية وحياتها وأحداثها لصالح حضور الشعري الذي يكون بديلا متعمدا لاستغراق المتلقي فيه إجابة عن أسئلة السرد وأسئلة الشعر معا ، وهو ما يجعل المتلقي يعكف على جملة النصوص لاستكشاف الشاعر ومجاله الحيوي .
- أن المعجم الذي أدرجه الشاعر جاء بمثابة البحث عن وفي سيرة هؤلاء الشعراء الذين اختارهم بعناية ليكون هو نهاية السلسلة الذهبية من شعراء العربية ( أو أحد سلاسلها الذهبية ) ،كاشفا عن الجوانب ذات الأهمية في سيرة هؤلاء وتوجهاتهم ، وهو ما يعني تحديد شكل العلاقة بين الشاعر وكل منهم .
- أن الشاعر في الجزء الثاني من أعماله الكاملة يوسع الدائرة ليضيف شخصيات تراثية أخرى ولكن في سياق النصوص وليس في صيغة المعجم كما فعل في الجزء الأول (عنترة بن شداد – شهرزاد – فرعون – الرسول عليه الصلاة والسلام – الحسين بن علي رضي الله عنه – بجماليون – جالاتيا ) .
إن شاعرا بحجم أحمد بخيت ، يصعب الإحاطة بإنتاجه الغزير والمتميز ، فقط هي رؤوس موضوعات تحقق المستهدف من هذه السلسلة : رصد الخارطة الشعرية العربية عبر ألمع رموزها ، ووضعها أمام الباحثين من الشباب والمهتمين بالشعرية العربية ، فتجربة أحمد بخيت الشعرية تتعدد مفاتيح دراستها ومستويات الوقوف على مواطن القوة فيها : موضوعا ولغة وإيقاعا وأسلوبا وعلامات شعرية يعرف الشاعر كيف يقيم منها نظام شعريته الفذة ، محافظا عليها عبر تجربته الممتدة على مساحة العقدين من الزمان.
[1] – الأعمال الكاملة – المجلد الأول ، ص 7.
[2] – أحمد بخيت : الأعمال الكاملة – المجلد الثاني ، ديوان ” وطن بحجم عيوننا ” دار كليم للنشر والتوزيع – القاهرة 2012، ص 300.
[3] – السابق ص 16.
[4] – ديوان : شهد العزلة – الأعمال الكاملة – المجلد الأول ص 11.
[5] – ديوان : قل للمليحة – الأعمال الكاملة – المجلد الثاني ، ص 365.
[6] – ديوان : وطن بحجم عيوننا – الأعمال الكاملة – المجلد الثاني ص 323.
[7] – ديوان : الأخير أولا – الأعمال الكاملة – المجلد الثاني – ص 18.
[8] – النونية الزيدونية نص مفتوح ” وضع ابن زيدون قالبه الأول وجاء الشعراء من بعده ليضيفوا رؤاهم ، وقد منحهم ابن زيدون الزيت والشموع ليضيئ كل منهم شمعة تنضاف لمجموعة من الشموع السابقة ” – مصطفى الضبع : استواء الضوء وانكساره ، قراءة في تداعيات أضحى التنائي – مجلة الشعر – العدد 122- القاهرة – صيف 2006.
[9] – انظر : السابق ص 566- 606.
[10] – السابق ص 599.