أثر النبي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

أمضى الليلة، بطولها، ساهراً، محدقاً في الظلمة النازلة خارج النافذة الموصدة بإحكام. راحت المشاهد الريفية، المعهودة، تتابع أمام ناظريه كأشباح سود تخرج من مخيلة الطفولة البعيدة. رأى غابات النخيل، الممتدة من ضفة النهر إلى حدود الأفق المدلهم، تقترب وتبتعد، ثم تقترب، ثانيةً، في ابتعادها المخاتل. ومن حينٍ إلى حين، بدت المآذن العالية، رفيعة رشيقة ومنيرة، وهي تشق بطن السماء التي تتوامض عبرها ملايين النجوم. هي المآذن وحدها التي ظلت تضئ قطعاً من ليل ذاك الوجود، الراكد الداكن الذي يتدثر بالرهبة والغموض، بمصابيحها على شكل الأهلة، وعناقيد اللمبات الملونة في دوائر وأقواس من حولها. عناقيد ضوء خضراء، في الأغلب من الحالات، زرقاء في القليل منها. تساءل عمَا إذا كان للون الأخضر هنا رمزيته الخاصة أيضاً. كان قد وعي الدرس جيداً، ومنذ زمن طويل؛ لا شئ مما يختاره الناس، أو يقبلون عليه طوعاً، يأتي مصادفة، بل لعلة ما، ربما كانت بواعثها ومسبباتها أعمق، بكثير، من قدرتهم على إدراكها، بل وأحياناً على مجرد إدراك وجودها. تنهد محاولاً التغلب على آلام شكة الصدر المعتادة. نظر في ساعة الهاتف المحمول بينما كان قطار النوم الليلي يبطئ من سرعته تدريجيا، ليتوقف في إحدى المحطات الصغيرة، التي لم يلحق بقراءة اسمها المكتوب على اللوحة المنتصبة بأول الرصيف، وفكر أن أسوان لا تزال على مبعدة نحو خمس ساعات، بأقل التقديرات. أحكم لف الباطنية، التي سلمها له المشرف على العربة، وهو يفتح له الفراش المنجد بالجلد البارد، حول وسطه، واسترسل في أحلام اليقظة، المضطربة المتداخلة، وهو يعاود الإصغاء “لسوناتا ضوء القمر” لبيتهوفن من سماعات الأذن في الهاتف.

 

كان ما لمحه يقطع الطريق على السيارة، المرسيدس السوداء التي أخذت تتسلق منحنيات الطريق، الضيق الصاعد، الملتف على خاصرة جبال الريف الخضراء، يجري باتجاه غابة الصنوبر والأرز والبلوط الفليني دائمة الاخضرار، خنزير بري، ضخم الجثة، رهيب المنظر. أبصر خطمه، الأفطس المفلطح الممدود، وكرشه الثقيل السمين المكتنز والمتدلي على قوائمه القصيرة بأظلافها، فكادت عجلة القيادة تضطرب بين يديه، مهددة بانحراف السيارة باتجاه الهاوية الجبلية الفاغرة عن اليمين. أفلح، بمشقة بالغة، في استعادة سيطرته على نفسه وعلى سيارته، فيما ارتمت هي بجسدها، المشدود والمنغلق على وفرته الأنثوية داخل معطفها الربيعي الخفيف، إلى ناحيته، وكأنها تنشد، غير واعية، الاحتماء بذراعه وكتفه. أوقف السيارة إلى جانب الطريق ليأخذا أنفاسهما، قليلاً، وليتبادلا النظرات في العينين مباشرة، ثم ليغتصبا ابتسامتين، مجهدتين ومروعتين بعض الشئ، تبادلاهما بصمت. زفر براحة، أخيراً، وأشعل سيجارة راح ينفث دخانها الأزرق، مغالباً إحساسه بالغثيان الذي ظل يدوِم متصاعداً بداخله. همس باشمئزاز:
– مقرف.
– ماذا؟
– الخنزير. هذا الحلوف مقرف.
لعلها لم تفهم عنه تماماً. ولعلها فهمت ولم تجد شيئاً لديها تقوله لتسكين أحاسيس القرف التي تمور بروحه. أو لعلها فهمت، وكان لديها ما تقوله، لكنها آثرت الركون إلى الصمت الذي يقول، على طريقته الخاصة، كل ما لا تقدر على النطق به. كان قد انتهى من تدخين السيجارة، فاعتدل بمقعده أمام عجلة القيادة، عازماً على مواصلة الصعود إلى “شيفشاون”، لكنها فاجأته بطلبها، الهادئ والحاسم في آن:
– لنرجع إلى الرباط.
– ماذا؟
– هذا أفضل.
لم يتوقف ليجادلها في الطلب الذي استوعبه، برغم كلماتها الهادئة ونبرتها الخافتة، لا كرجاء، وإنما كأمر. أدار مقود السيارة، مُيمماً بها نحو الوراء. شغَل مسجل الموسيقى على أنغام بيتهوفن، ولقرابة الساعتين ظلا يهبطان عائدين للرباط من دون أن يتبادلا كلمة.

 

في مطعم الفندق، النيلي العائم على البر الشرقي لأسوان، لمحه لأول مرة. كان يجلس، وحيداً مثله، إلى طاولته المرقمة، يتناول، من دون صوت، وجبة الغداء الأولى للمجموعة على متن “الكروز”. ملامحه الآسيوية الصفراء عادية للغاية، وليس ثمة شئ يميزه عن غيره من عشرات الصينيين واليابانيين والكوريين ممن لقيهم بالمدينة مذ وطأت قدماه محطة قطارها، التي أعاد ترميمها، ويشرف على تشغيلها وتأمينها عناصر من القوات المسلحة. وعلى الرغم من ذلك، استشعر نوعاً من الحضور الخاص الذي يلف ذلك الآسيوي، القصير النحيل الضامر، بعينيه الوامضتين المطفأتين من تحت نظاراته الطبية الرقيقة. لم يجد لشعوره ذاك سنداً ظاهرا من أي نوع، ففكر في كونها مجرد هواجس ونداءات الوحدة المتصادية فيما بينهما.
– نعم، هي الوحدة دائماً التي تخترع لي مثل تلك الخزعبلات.
حدَث نفسه، مصمماً على إنقاذ وعيه من شراك الوحدة وخديعتها العذبة المعذبة.
استقلوا الباص، السياحي الفخم، عند السابعة من الصباح التالي، متوجهين إلى ميناء “اللانشات” البخارية، في طريقهم لزيارة جزيرة ومعبد “فيلة”. كان الميناء الصغير مزدحماً بالأفواج السياحية من مختلف جنسيات الأرض الثرية، الأوربيين والأمريكيين البيض والآسيويين الصفر، ممن تسلحوا بالكاميرات، والهواتف “المبكسلة”، و”الغترة” و”العقال” العربيين، وحتى “بالحطة” الفلسطينية المميزة. أحس بعدم الراحة الذي طالما باغته خلال أسبوع مولد السيد البدوي في طنطا، فأدرك أنه ربما كان قد اختار التوقيت الخطأ للمجئ للصعيد.
كان إبحارهم القصير في نيل النوبة الشمالية، في هذا الصباح الشتوي المشمس الدافئ، وعبر كل تلك الجزر والصخور الجرانيتية الضخمة المهيبة بديعة التشكيل، يشبه العوم في بحيرات الحلم والفراديس الضائعة. لم يفهم، أبداً، قبل هذا الصباح، من أين يأتي كل ذاك الشجن، وتلك الوجيعة، والحنين المترجع في موسيقى وحنجرة النوبيين.
قفز من “اللنش” بخفة لم يعهدها في نفسه طوال السنوات الأخيرة. وفيما راح يصعد درجات السلم الحجرية القليلة إلى مدخل المعبد، لاحت منه التفاتة جانبية إلى رفيقه الآسيوي الوحيد، ليرى المشهد الذي ظل يتوقع حدوثه، منذ قابله لأول مرة بالأمس، من دون أن يعرف، حقيقة، كنه ذلك الذي سيحدث ولا معناه. كان رفيقه الآسيوي، وفور أن وطأت قدماه أرض باحة المعبد الخارجية، قد استحال، بعينيه، كائناً آخر. أخذ الزائر الأصفر يبتعد بنفسه عن الفوج، غيرعابئ، ولا ملتفت، لنداءات وتحذيرات وتنبيهات المرشد الأثري المرافق للمجموعة، حيث بدأ يخطو، وحده، بخطوات، واسعة نشطة ثلاثية الإيقاع: شمال، يمين، شمال، ثم يضم كفيه المنتصبتين أمام صدره ليصلي، قبل أن يسجد بجبهته على الرمل، ليقوم ويكرر الحركات والإيقاعات ذاتها لعشرات، وربما لمئات، المرات. همس لنفسه، وهو يوسع خطوه بدوره حتى لا ينفرط متخارجاً عن السرب:
– الآن فهمت، لقد جاء إلى هنا حاجاً.
لكن صوتاً ما راح يترجع في صدره، ساخراً وهازئاً من رغبته، العجول، بنسخ سؤاله، الملِح العنيد والصميمي، عن الوحدة، وعن المعنى، عن السفر لبعيدٍ بعيد، وعن الوجود في ال “هُنا والآن”، في لا مكانية الزمان وأبدية الأمكنة، وفي التيه الذي لا يصادف المرء عبره أبعد مما هو ذاته، وأصدق مما تلامسه أنامله تبصره عيناه وتتنفسه رئتاه.

 

اعترف لها:
– صبياً حائراً كنتُ. أشق طريقي من ميدان الساعة إلى شارع البورصة ومنه لدرب الأثر. وكالات العطارة ولوازم السبوع والملبس والمكسرات وياميش رمضان تتراكم على جانبي الدرب. رائحة العرقسوس، والتمر الهندي، والفلفل الأسود المطحون، تفغم أنفي، تهيجني وتثيرني. تُستفز مني الحواس جميعها، وأنا في طريقي إلى المقام الأحمدي. لماذا أذهب إلى المقام الأحمدي في مثل تلك الأمسيات الشتوية الباردة؟
– لماذا؟
– إلى يومنا هذا لا أعرف جواباً، يقنعني، عن هذا السؤال. ربما لأني أرغب في تلمس أثر قدم النبي المطبوع على الصخر الأسود، المسيج بالحديد المشغول في باحة الجامع هناك. ربما كانت تلك مجرد حجة، تعلة ووهم. وربما كان ما يستهويني، حقاً، هو الطريق إلى المقام، وليس المقام في ذاته.
– تماماً، كما زرنا الطريق إلى شيفشاون، وعدنا قبل زيارتها.
ردت بابتسامة ساخرة. كانت تسعى للانتقام، وكان يعرف ويقبل بانتقامها منه.
– مقاربة ذكية يا صديقتي. محتمل جداً.
– أنت هو أنت يا صديقي، هنا أو هناك لا يعنيان شيئاَ.
لم يجد لديه فائضاً من طاقة، ولا من اهتمام ليعير تفيقهها وتذاكيها انتباهاً. واصل الكلام، سادراً في أحلام الذكريات، ذكريات الحلم:
– ولكني لم أنم الليل بطوله، ولا الليالي التالية بعدها، عندما سمعت لأول مرة بحكاية زيارة النبي لطنطا، ورأيت قدمه المطبوعة، على الحجر البازلتي الأسود، بعيني في زاوية المقام الأحمدي.
– أنت مولع بالخرافات، مسجون فيها، وبلا أمل.
أطرق برأسه صامتاً، وراح يفكر أن الحق معها. زفر بتعب، أخيراً:
– نعم، لا أمل.

 

عند قناطر إسنا، تجمهر غالبية ركاب السفينة بالمقدمة. كانوا يبحرون مع التيار، قبل أن توقفهم البوابات، الحديدية الضخمة، عند مدخل المجرى المائي الضيق. ثمة آلية هندسية لابد أن يتم اتباعها بدقة وإلا غرق القارب بمن فيه. الشمس، التي تميل نحو الغرب في تلك الدقائق بالذات، تبدو غير معنية بأحدٍ ولا بشئ، تتابع رحلة نكوصها المعتادة بإصرار. وقف، بين الواقفين، ينتظر الدقائق الحاسمات حين يتم الصعود بالبوابات الرهيبة الحاجزة، رويداً رويداً، للسماح بمرور جبال المياه المحتجزة وراءها من المنسوب الأعلى للمنسوب الأدنى. أخذ يتابع تدفق أطنان المياه لداخل النفق، المحصور بين رصيفين خرسانيين، بقلب واجف. أبصر دوامات نهرية عنيفة، من تحتهم، تهدد بابتلاعهم، فعرف كيف تشتغل الحياة على نفسها بنفسها. سخر من خوفه، الخارج عن سيطرته، واشتهى لو تبتلعهم الدوامة. ثانية بعد أخرى، شرعت السفينة في الطفو، والرصيف الخرساني الشاهق بدأ يهبط، في عينيه، مع ارتفاع القارب كنتيجة لارتفاع منسوب المياه من تحته. ميزت أذناه صيحات التهليل والفرح التي يطلقها متابعو المشهد. صيحات مشحونة بالإثارة وبالانتصار. لكن ثمة صيحات، بالأحرى هتافات ونداءات، أخرى راحت تتخلل صيحات الركاب وتبزها، فعلى الرصيف الخرساني تجمع عدد من الباعة الجائلين، في جلابيبهم الصعيدية التي تغطي أجسادهم الضامرة المشدودة، وأخذوا يرمون ببضاعتهم الهزيلة من “الشيلان” و”المفارش” الرخيصة كي يلتقطها المشترون على متن السفينة. بدت له عمليات البيع تلك محفوفة بمخاطر غير قليلة، سواء على البائعين، الذين كانوا يجرون بسرعة ليلاحقوا حركة القارب، أو على بضاعتهم المعرضة، في أية لحظة، للسقوط والضياع في دوامات المياه بالأسفل، الأمر الذي حدث في نهاية المطاف عندما ابتلعت الدوامة “المفرش” الذي لم تفلح السيدة العجوز في التقاطه من الهواء، كما لم تفلح في العثور على بعض “الفكة” بمحفظة نقودها لترمي بها للشاب، الذي كان يناديها ويستعطفها كالمجنون، لتعوضه بأي شئ عن مفرشه الغارق.

 

– حكاياتك كلها حزينة هكذا؟
– لا، لدي بعض الحكايات المبهجة، وقصص الحب السعيدة، والأشعار والأغنيات، التي أدخرها لأرويها، لكِ، في ليالي الفقد والوجد.
– فلتأخذ هذه النصيحة المخلصة من صديقتك الأثيرة؛ أنت ممل، وتراجيدياتك التافهة أكثر مللاً، وأنا ألعن اليوم الذي جئتَ فيه من بلدك إلى هنا، والتقيتك.
– لآلاف السنين، تعلم المصريون أن يصلوا ويتضرعوا لإلهك الخفي، الأمازيغي الأصل، المصور برأس كبش، آمون العظيم. لم يكونوا قد تخلوا بعد عن آلهتهم القديمة؛ رع إله الشمس، وأوزير إله الأرض والعوالم السفلية. لكن حكمة العيش أورثتهم قبولاً، خانعاً ماكراً، لكل ما ليس هنالك بد من قبوله، وعلمتهم أن يبشوا لغاصبهم ويضعوا فوق رأسه تيجانهم، ثم يفتكون به في أحلامهم وضمائرهم.
– أظنه كان برأس كبش، وخطم حلوف بري.
غرق في لجة الصمت متفكراً. مرة أخرى، كان يعرف أنها لم تجانب الحق في ملاحظتها الذكية، المتهكمة، المتألمة.

 

أخيراً، البر الغربي. أعلموه أن الفرعون، وكل كل فرعون، راح يمضي أمسياته وليله الطويل الطويل هناك، وأن الشمس تبيت هناك، بعيداً، فيما وراء التلال الجرداء المغلقة على كنوزها وأسرارها الرهيبة، وأن كبير كهنة آمون الكبش قد اختزن علم “هرمس” ومعارفه، التي لا تقدر بثمن، عميقاً، فيما بين الطبقات التكتونية للرمل والجمر والماء والرماد، وأن البعث والعود قريب، أقرب مما يحتمل الخيال، فالعود يومي، ومن ثم فإنه مدعو الليلة على مأدبة ملكية لترسيمه كاهناً أكبر بديلاً، أو فلنقل، بلغة العصر، افتراضياً. في الحافلة السياحية المكيفة، أراح رأسه إلى زجاج النافذة، ومد بصره إلى جانب الطريق. عند “القرنة” تتوسع الحقول المزروعة بقصب السكر، وتتكاثر مقطورات الجرارات الزراعية، المحملة بالعيدان، في طريقها لمصنع السكر القريب. وإلى جانب الطريق الضيق، وأمام الدور الطينية العتيقة التي لعلها بقيت على حالها لبضعة آلاف من السنين، وما تغير فيها شئ، اللهم أطباق الإرسال التليفزيوني، الصغيرة اللاقطة، المنصوبة فوق أسطحها الواطئة، يقف بعض الصبية، في مثل عمره الذي كان، لا يرجون الوصول لأثر النبي على الحجر، وإنما يتناوشون ويتشاكسون، يرمون الحافلات المارة بمصاصة القصب الناشفة، ويتواقح أحدهم مؤشراً بيده أسفل بطنه، تماماً، متفاخراً بكونه ولد الإله “سوبك” التمساح ذي الإحليل الساهر أبداً.
ابتسم للصبي الوقح، معرباً عن إعجابه بوقاحته الصافية الحرة، متأملاً في تلك القوة “السوبكية” القادرة على إغواء حتى الصبية الصغار لتقليدها وترسم خطوها، ومنشدهاً من ذلك التكرار والعود الأبدي، الذي لا يمل ولا يكل، لإرادة نفاذ الحياة في الحياة، اللحم في اللحم، والحلم في الحلم.
لم يشعر به إلا بعد أن استراح، كلية، على المقعد الشاغر إلى جواره. انتظر لبرهة حتى أدار رأسه من ناحية النافذة إلى الداخل، لتلتقي أعينهم، على نحوٍ مباشر، لأول مرة خلال الأيام الأربعة التي جمعتهما في رحلتهما المصرية. ابتسم له الآسيوي، هضيم الوجه، ابتسامة صغيرة، وحدجه بجانب عينيه، الضيقتين، من تحت نظارته، الرفيعة الإطار، بنظرة لطيفة ودود، قبل أن يحييه بضم الكفين، المنتصبين، إلى صدره، على نحو ما يفعل في صلاته وحجه. لم يجد مفراً من رد الابتسامة لذلك الآسيوي الغريب، ثم التشبث بالصمت والانتظار ليرى ما ستتمخض عنه الثواني والدقائق التالية. همس له، بلكنة آسيوية، وبكلمات عربية فصيحة، وبصوت، رفيع عميق معاً، يتزاوج فيه “السوبرانو بالتينور”:
– سيكونون بالانتظار الليلة، علينا ألا نتأخر.
– من؟ لا أفهم.
– عندما تأتي ستفهم. تذكر أنه ما عاد مسموحاً لك بالتأخير أكثر من ذلك.
همَ بقول شئ يسجل به اعتراضه، أو يبدي عبره استغرابه، أو يعبر فيه عن غضبه واستيائه لذاك الذي يتجاسر على اقتحام وحدته، بدعوى أنه وحيد هو الآخر مثله، لكن، ولدهشته البالغة، ألفاه قد غادره وذهب. جال ببصره في “الباص” يفتش عنه، فلم يعثر له على أثر. كان كدخان أبيض قد أذرته ريح الغرب، وتبدد. انهد بجسمه على مقعده، مهموماً ومتسائلاً إن كان سيلقاه ثانية، سيلقاه أبداً، هناك. كان نداء آذان الظهر يُرفع من فوق مآذن “القرنة” المزينة بعناقيد اللمبات، الخضراء، المرسومة على أقواس وسلاسل، حين قال لنفسه:
– لم يعد مسموحاً بالتأخير أكثر من ذلك.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون