في المحطة التالية وكانت من الناحية الأخرى للباركنج وفي المنطقة الآهلة بالسكان صعد كثير من الركاب.. وعندما رأيت الرجل ذو الملامح الصينية العجوز يصعد ويقترب مني قمت من مكاني لأترك له الكرسي المريح وجلست في الكرسي الصغير المواجه له بعد أن وضعت أكياسي على الأرضية بجانبي.
كان العجوز الصيني القصير ممتلئاً قليلاً ويرتدي شورت وجاكت ضخم تحته تي شيرت ملتصق بكرشه الصغير وكان يبتسم لي وهو يشكرني على إخلاء المكان له. ابتسمت له ولاحظت أن حقيبة التسوق التي كان يجرها وتمتلئ عن آخرها يضع ثلاثة أعلام فوقها.. الفرنسي وعلم أحمر بنجمة كان منطقياً لي انه علم الصين ولكن العلم الثالث لم أعرف لمن، فسألته عنه.. قال لي: هذا علم كمبوديا أما العلم الصيني الأحمر ذو النجمة قال لي إنه علم فيتنام.
واستطرد موضحاً أنه من أصل كمبودي لكنه ولد وعاش في فيتنام… ثم سكت قليلاً وقال: لقد كنت في الفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي وأنا الآن فرنسي … قلت له: هل دخلت حرب الهند الصينية.. فأجاب أنه قضى سنوات الجيش في أفريقيا السوداء.. في السنغال ومالي وكل دول غرب أفريقيا… ثم سكت قليلا وعاد يقول وهو يهز راسه … كان شيئاً صعباً.. صعباً للغاية.
سكت الرجل وهو يهز راسه وردد أكثر من مرة: نعم كان شيئاً صعباً.. صعباً للغاية.
في موقف الأتوبيس التالي قام الرجل الكمبودي الذي ولد في فيتنام وأصبح الآن فرنسيا وقضى سنوات طويلة من حياته في أفريقيا وسحب عربة بضائعه ناحية باب النزول
صعد زحام كبير واحتل مكان الرجل أمرأة نحيفة متقدمة في العمر ذات ملامح شرقية وتغطي شعرها بإيشارب بني اللون، وعندما تحركت العربة أشارت بيدها لأحد ما فجاءت امرأة شابة أكثر نحافة منها لكنها تشبهها تماماً وترتدي نفس غطاء الرأس وجلست بجانبها على الكرسي العريض الذي إتسع لهما لنحافتهما الإثنين.. كانتا تتحدثان بلهجة مغربية ويتكلمان عن اللحاق باتوبيس آخر يحملهما لضواحي أخرى بعيدة، حيث حفل زفاف بعد عدة أيام وأن عليهما أن يساعدا نساء العائلة في أمور كثيرة.
بعد أن تحرك الأتوبيس عاد وتوقف وفتح الباب وصعدت امرأة عجوز ترتدي فستاناً باهت اللون وجاكتا من الصوف الرمادي ويبدو عليها المرض والوهن وتجر وراءها حقيبة تسوق ضخمة على عجلاتها.. كانت تتحدث مع من يفسحون الطريق لها عند الباب وكان الجميع يلتفت ناحيتها. عندما اقتربت ناحيتي قمت لكي أخلي مكاني لها.. رددت: لا أريد مكانك.. لايهمني مكانك.
كانت تقولها كما لوكانت تسبني. ثم أردفت: على أية حال إن مكان واحدة مثلي هو المقابر.. ثم أضافت شيئا ما لم أفهمه باللهجة الجزائرية وسألتني بعدها:على بالك؟ .. فلم أملك إلا أن أرد وأنا مازلت واقفاً بتسليم علي ماقالته ولم أفهمه .. على بالي.. على بالي.. ومضت تتقدم في عمق الأتوبيس… كان الجميع من حولي في دهشة وجمود وصمت مؤدب من كلمات المرأة.. وهمست المرأة المغربية لابنتها.. أن حالتها تزداد سوءا.. ويبدو أنها تعرفها ولم أفهم هل تقصد سوء مرضها أم حالة المرأة العقلية… ثم انطلقت المرأة المغربية وابنتها يتحدثان عن تفاصيل الزواج المغربي القادم وعن الملابس الحريرية والأطعمة والحمّام الذي ستذهب إليه العروس.
عندما وصل الأتوبيس للنهاية وقمت اكتشفت أن المرأة كانت تقف على حيلها خلف الكرسي الذي كنت أجلس عليه وتستند بذراعها على الحافة فوق رأسي ..اتجهت ناحية الباب وبحثت عن التليفون في جيبي.. كان كالعادة وكما أضعه دائما في حالة الصمت سايلانت… وكانت هناك عدة مكالمات ورسائل من زوجتي السابقة تسأل عن أشياء تخص الأولاد تبحث عني دون جدوى وأنني قد انطلقت في جولاتي التي لايجدني فيها أحد.
قبل أن انزل للرصيف كانت المرأة تتكلم وحدها بصوت يسمعه الجميع… هل انتم سعداء بالوصول؟ على أية حال سنذهب جميعاً للمقابر.
كتبت رسالة لزوجتي السابقة عما تسأل عنه، وأنه بخصوص جولاتي التي لايجدني فيها أحد قلت
إنه علينا قضاء الوقت بشكل أو بآخر حتى يمضي.
……………
*كاتب مصري يقيم في فرنسا