د. نعيمة عبد الجواد
في مستهل القرن العشرين، زلزل الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر Jean-Paul Sartre (1905-1980) الساحة العالمية بأفكاره عن الوجودية Existentialism والظواهرية Phenomenology مما أحدث ثورة في التيارات الفكرية، جعلت منه رائدًا له مؤثرًا على الحياة الاجتماعية والآداب. ولم ينحصر تأثيره في حيِّز القارة الأوروبية فقط، بل امتد لجميع أنحاء العالم بوصفه فيلسوفًا ومفكِّرًا يعبِّر عما يموج بالنفس الإنسانية من تساؤلات ويضع للفرد تفسيرات لما قد يواجهه من خيبات من شأنها تقويض إرادته ورغبته في الحياة. وبالتنقيب عن أصول التيار الوجودي، أرجع الفلاسفة نشأته للفيلسوف الألماني فريدريك نيتتشه Friedrich Nietzsche بأفكاره الوجودية الثورية التي كان لها صدى واسع على الأراضي الألمانية في نهاية القرن التاسع عشر. وبالتنقيب، يعزو الباحثين نشوء التيار الوجودي إلى الفلاسفة والمفكرين الألمان في نهاية القرن الثامن عشر، إلا أن البعض الآخر يذهب لتوكيد نشأته في روسيا، وإن تأخَّر اكتشافه سواء في روسيا أو ألمانيا بسبب عائق اللغة.
وبالتنقيب الدقيق، فإن التيار الوجودي والظواهرية وقبلهم مبدأ الشَّك الذي أرسى قواعده الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes (1596-1650)، هي ناتج فكر عربي ناضج عبر حدود الزمان والمكان باحثًا عن الحرية. ولكي يستقيم الفكر فيبدع المرء، كان لابد من وجود بيئة فكرية ثرية تمنح للوجدان الفرصة للتفكير بدون وضع قيود على الأفكار أو مصادرة المخالفة منها لمجرَّد شذوذها عن التيار الفكري السائد. وبذكر الحرِّيات والأفكار الثورية والابتكارات في العالم العربي، يتبادر إلى الذهن العصر العبَّاسي الذي أثرت علومه وآدابه الساحة العربية والعالمية، وينطق بفضله الغرب، وإن كان من المحزن أن الكثير بعض أبناء العرب ينسبونه للغرب.
ويكفي القول فخرًا أن في العصر العبَّاسي، كانت حريَّة الفكر والتعبير هي الأساس؛ لإيمان حكَّام تلك الحقبة الزاهرة أن حريَّة الفكرة والتجريب هو الطريق إلى الابتكار. ولقد وصل التقدُّم الفكري ذروته عندما اشترط المفكِّرين عدم إقامة الدليل أو تقديم الذرائع بالارتكان إلى كتب المقدَّسة وتعاليمها؛ من أجل احترام الآخر و حرِّياته ودمجه في إطار المجتمع بغض النظر عن دينه أولونه أوجنسه؛ حيث كان تنوُّع الأجناس هو السمة السائدة خلال دولة الخلافة العبَّاسية، فالقلاقل الفكرية قد تسبب فتنة كبرى من شأنها فرط عقد الدولة وتفتتها – كما حدث في نهاية العصر العباسي عندما صار التشدد والتعصُّب هو السمة السائدة. وفي هذه البيئة الفكرية الصالحة أصبح التجريب Experimentalism والتجريب المعرفي empiricism واحترام نظرية المعرفة وقواعدها epistemology هم القواعد الأساسية للفكر والمناقشات وإقامة الدليل على ما يسوقه المفكِّر من نظريات وأفكار. ولعل أبرز مثال على ذلك المفكِّر والفيلسوف والشاعر والأديب والنحوي العربي “أبو العلاء المعري”.
أَبُو اَلْعَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْقُضَاعِي اَلتَّنُوخِي اَلْمَعَرِّي (973-1057م) ولد في نهاية العصر العباسي الثاني والذي يسمَّى بالعصر الذهبي، ولقد ولد في حقبة الفتن والثورات والحروب المسماه ب”عصر نفوذ الأتراك” بسبب ضعف الخلافة العباسية واستبداد الأتراك بالسلطة. ولقد أصيب أبو العلاء المعري بالجدري صغيرًا في الرابعة من عمره، مما أدي إلى فقد بصره وتشوّه وجهه، مما جعله فيما بعد يعتزل في منزله إلى نهاية عمره، فأطلق عليه لقي “رهين المحبسين”؛ ويقصد من ذلك محبس العمى ومحبس المكان بداخل المنزل. ولقد تلقَّى تعليمه في منزله الذي كان منزل ثراء ورياسة؛ فأهله من رجال الأدب والساسة. ولقد بلغ به العلم والحذق أنه نظم الشعر وهو في الحادية عشرة من عمره. ومن الجدير بالذكر، كان يختم القرآن بأكمله في منزل والديه كل أسبوع، فحفظ القرآن في العاشرة وأتقن النحو وفنونه. وذهب إلى حلب تلميذًا ناضجًا يبغى صقل معرفته لما يتوافر لديه من مخزون تعاليم وحوارات. وبعد ذلك ذهب إلى اللاذقية وطرطوس لاستقاء العلوم من أربابها؛ ولكونها موانئ يتوافد إليها الشعوب، اشتبك فكريًا مع مفكِّرين من أوروبا ودول العالم المختلفة ومع عامة الشعوب المتوافدة إلى لذاك المكان، فسبر غورهم ومنهاج فكرهم. وأقام في الأديرة، ففُتِحت له خزائن نفائس الكتب، فأتقن علوم الإغريق وفلسفتهم.
ولقد أتى “المعري” من العلم بما لم يستطع أن يدركه سابقيه. وبسبب عاهته صار متشائمًا، لكنه لم يعزل نفسه عن الفكر، بل صار متحدِّيًا لظروفه ومُفكِّرًا. ولما ذهب إلى عاصمة الحكمة “بغداد”، عاصمة الخلافة آنذاك كان قد بلغ الثلاثين، وكانت سيرته قد سبقته، وارتاد جميع مكتباتها. ولمًا رجع إلى موطنه بعد أن تشبَّع من العلوم، شعر أن مرحلة الانتاج الفكري بدأت، فاعتزل في منزله كمفكِّر كاتب غير طامعًا في المناصب والجاه لزهده الشديد فيها. ويلاحظ أن أشعار المدح القليلة التي نظمها كانت بغرض وجوب إجادته لهذا اللون -لأنه أحد متطلبات الشاعر القدير- وليس من أجل التكسُّب والتزلُّف. وبسبب براعته في المناقشات والمحاورات على أسس معرفية، اتهم بالزندقة؛ فلقد كان عصيًا على كل المذاهب ولم يحسب نفسه على تيَّار؛ فلقد آثر أن يكون مفكِّرًا حرًا بسبب اطلاعه على المذاهب المختلفه وعدم ارتكانه لمعلم في حد ذاته.
وفي فلسفته قدَّم الحياه كما هي؛ كتلة من المتناقضات، واتعكس ذلك على كتاباته، فقدَّم الأمر ونقيضه، بأسلوب متشكك، للتعبير عن الذات وللتوكيد على تفكُّره في جميع الأمور وذاك الدليل على حريته، وكأنه يرفع شعار: “أنا أفكر إذًا أنا موجود”. ولا يجب تفسير فكر أبي العلاء بمعزل عن عصره الذي يتَّسم بالعولمة الحقيقية التي تفوق عولمة العصر الحالي. ولقد أفضى ذلك إلى تأليفه كتاب “الفصول والغايات” فور اعتزاله في منزله الذي كان في محاذاة السور والآيات وليس معارضة لها، بل توكيدًا على تمسكه بدينه. وبعدها ألّف كتابة الشهير “رسالة الغفران” بالإضافة إلى مراجع أخرى نفيسة أضافت إلى المكتبة العربية، وبرز فيها ارتكانه للتفكير الوجودي في صورته الحديثة وتفسيره للظواهر تمامًا كما هو الحال في المدرسة الفلسفية الظواهرية؛ فتشاؤمه كان وسيلته لتأسيس منهاج الشك قبل ديكارت بنحو 600 عام، في حين أن فكره الوجودي نجم عن دفاعه عن الإرادة الإنسان الحرَّة والتفكُّر في جدوى وجوده على سطح هذه الأرض.
لقد كان أبو العلاء مبصرًا في جسد طمس بصره، لكنه فسر باقتدار أعمق الأفكار التي تدور في ذهن الإنسان مؤكدّا على أن في الشك حرية وفي التفكير في وجود الإنسان خلاص، أو كما يقول: “فأما اليقين، فلا يقين”.