فما السر في سحر هذه المقالات؟ ولماذا كانت حافزا من حوافز إقبال أجيال عديدة وقطاعات مختلفة من القراء على قراءة الأدب وتذوقه؟ وما هي آليات القراءة التي وظفها العميد في كتاباته النقدية/الأدبية وما سماتها الجمالية؟
إن استراتيجية القراءة الأدبية عند طه حسين تتحدد من خلال عناصر ثلاثة سنتناولها بالترتيب في هذه المقاربة وهي: الوسائل النقدية، الأهداف/الغايات من النقد، دينامية النقد وسماته الجمالية.
1/الوسائل النقدية:
ما الوسائل النقدية التي استند إليها طه حسين في تقديم النص القصصي/الروائي إلى المتلقي؟وما استراتيجيته النقدية التي اتبعها في هذا العرض؟
إن قارئ نقد طه حسين يلاحظ أن وسائل عرض النصوص السردية عنده تخضع لخط واحد لا يكاد يتغير سواء كان بصدد تقديم نص عربي أو نص من النصوص الغربية التي يطلع عليها ويحاول إشراك المتلقي في التمتع بها.والاختلاف في هذه الكتابة يكمن في الاقتصار عند تقديم النص الغربي على العرض والتقديم والتعليق على الشكل الفني بينما يتجاوزه إلى النقد الصريح والتعليق على اللغة عندما يتعلق الأمر بالنصوص المصرية/العربية المعاصرة. وتقوم استراتيجية القراءة على الخطوات النقدية الآتية:
– تلخيص النص وتكثيفه.2
– تبسيط معانيه أو عرض وقائعه وأحداثه السردية.3
– الإشارة إلى أهم ميزاته الفنية.4
– التعليق على طبيعة لغته وأسلوبه أو كشف مغزاه وإبراز دلالاته.5
وتقوم هذه الاستراتيجية على نموذج نقدي لا شك أن الناقد ابتدعه وسعى عن طريقه إلى تعليم القارئ وإمتاعه في نفس الآن دون السقوط في مطب التعالم والتعالي عليه. ومن هنا كان القارئ العربي مغرما بنقد العميد وما زال القراء يقبلون على مقالاته بشغف كبير.
وبوقوفنا عند ملامح هذه الاستراتيجية في القراءة النقدية يتبين لنا أن طه حسين كان يرمي- إلى جانب ما ذكرناه- إلى تبسيط الأدب وتحبيبه إلى المتلقي عبر وسيلة أخرى أساس تتمثل في سلاسة لغته وخلوها نهائيا من الاصطلاحات الأدبية وغير الأدبية(المنتقلة من العلوم الحية أو العلوم الإنسانية) على الرغم من غرام الناقد المعروف بالمناهج النقدية الغربية:التاريخية والاجتماعية وحرصه على غرسها في تربة النقد الأكاديمي العربي الحديث. ويتساوى في نظرنا تقديمه للنص العربي في هذه السمة مع تقديم النص الغربي. وتبعا لذلك تبرز سمة أخرى قامت عليها استراتيجية الناقد في تقديم النص السردي وهي اختيار الإطار القصصي/السردي لعرض نماذجه النقدية وتعريف القارئ بها.6
وسنقف في هذا الحيز على نصوص نقدية لطه حسين نستخلص منها القسمات الكبرى لاستراتيجيته النقدية المتميزة. يقول مقدما رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ:
«قد يثقل هذا العنوان على لسان الناطق وأذن السامع، ولكنك لا تكاد تسمعه وتنطق به حتى تتبين أنك مقبل على كتاب يصور جوا شعبيا قاهريا خالصا. فهذا العنوان يوشك أن يحدد موضوع القصة وبيئتها، وقد ذكرت القصة ومن قبل ذلك ذكرت الكتاب لأن لهذا السفر قيمتين خطيرتين حقا، إحداهما أنه قصة متقنة رائقة لا تكاد تأخذ في قراءتها حتى تستأثر بك استئثارا كاملا وتشغلك عن كل شئ غيرها(…) أما القيمة الثانية الخطيرة لهذا السفر الضخم فهي أنه بحث اجتماعي متقن كأحسن ما يبحث أصحاب الاجتماع عن بعض البيئات يصورونها تصويرا دقيقا ويستقصون أمورها من جميع نواحيها. وما أكثر ما خطر لي وأنا أقرأ هذا الكتاب أنه لم يوجه إلى الكثرة من القراء ليجدوا فيه ما يطلبون من المتعة الفنية الخالصة التي تشوق وتروق، وإنما وجه أيضا إلى الباحثين الاجتماعيين الذين يبحثون ليصلحوا…»7
هكذا يشرع طه حسين في قراءته النقدية بالانطلاق من عنوان رواية نجيب محفوظ ليبين أن النص يصور الجو الشعبي في مدينة القاهرة، وبذلك يحدد العنوان موضوع القصة وبيئتها. ولا ينسى العميد أن يلتفت إلى المتلقي طالبا منه نسيان ثقل عنوان الكتاب ليقرأ القصة المتقنة الرائقة، مؤكدا له أنها ستأخذ بلبه وتشغله عن كل شئ غيرها. بهذه المقدمة المشوقة يفتتح طه حسين مقالاته النقدية الأدبية ليغري المتلقي بالقراءة ويحثه على العودة إلى النصوص الأصلية.وهذه الآلية نعثر عليها في جل مقالاته التي تقدم الأعمال الروائية والقصصية.
وبعد التمهيد المشوق ينتقل إلى تلخيص النص وتكثيفه، وعادة لا يتجاوز التلخيص عند طه حسين أكثر من ثلاث صفحات، ثم يمضي الناقد محللا القصة مبينا مكامن جمالها وأبعادها الدلالية، باسطا معانيها أو عارضا وقائعها وأحداثها السردية. ثم ينتقل إلى التعليق على طبيعة لغة الكتاب وأسلوبه أو يعمل على كشف مغزاه. يقول في نفس المقال المتعلق برواية “زقاق المدق”:
«ولم ألخص لك القصة، لأن تلخيصها عسير جدا.. وإنما لخصت لك منها أطرافا قليلة جدا. وما أشك في أن ما تركته من أطراف القصة، عظيم الخطر بالقياس إلى ما لخصته منها. عظيم من الناحية الاجتماعية أولا، لأنه يشخص الزقاق ويشيع فيه روحا خاصا، ويعرض عليك هذا الروح الحلو المر الذي يسر قليلا، ويسوء كثيرا ويدعو أشد الدعاء وأقواه إلى الإصلاح العاجل.. وعظيم الخطر من الناحية النفسية لأن الكاتب يحلل لك حياة الرجال والنساء والفتيان والفتيات تحليلا دقيقا رائعا ويعرض عليك خباياها عرضا قلما، يحسنه البارعون في علم النفس. وعظيم الخطر من الناحية الفنية لأن الكاتب يصور لك هذه الحياة الساذجة المعقدة السعيدة البائسة تصويرا يروعك بدقته وصدقه حتى كأنك تعيش بين هؤلاء الناس..»8
يكشف الناقد في هذا النص عن مراكز القوة في رواية “زقاق المدق” مؤكدا أنها عظيمة من ثلاث نواحي:من الناحية الاجتماعية- والنفسية- والفنية. فهي رواية شخصت حياة الزقاق وأشاعت فيه روحا حلوا مرا جسد السرور القليل والسوء الكثير. ولا ينسى الناقد في هذا الحيز أن يربط الأدب بالحياة كما تعود في نقده وأن يدعو المصلحين إلى الالتفات إلى المساوئ التي نبهت إليها الرواية قصد إصلاحها. ويبين بعد ذلك البعد النفسي في الرواية التي استطاعت تحليل نفوس الشخصيات الروائية تحليلا دقيقا عرض خباياها. أما قوة البعد الفني في الرواية فتتمثل في صدقها ودقتها في تصوير حياة الناس. بهذه الكيفية التي تنطلق من تلخيص محتوى النص الحكائي مرورا بأبعاده الاجتماعية والنفسية والجمالية يستطيع الناقد، من جهة تحليل العمل الأدبي الذي يعرضه للقارئ تحليلا مختزلا ودقيقا، ويتمكن من جهة ثانية من توجيه القارئ إلى مكامن المتعة والفائدة فيه معا. ولطالما زاوج طه حسين في نقده للنصوص الأدبية بين إبراز أبعادها الفنية التي ترمي إلى الإمتاع، وبين إبراز دلالاتها الاجتماعية والنفسية والمعرفية التي يراد بها الفائدة. وقد تنبه طه حسين مبكرا إلى أن النص الإبداعي لا يخلو من قدرة على تقديم المعرفة لمتلقيه لأن التخييل يتشكل من خلال مقاصد يرومها المبدع.
وبعد الوقوف على هذه النواحي القوية في الكتاب ينتقل طه حسين إلى التقويم اللغوي أو التقويم الفني للعمل. يقول معلقا على لغة رواية “زقاق المدق”:
«وما أعرف كتابا يذود عن قارئه الملل كهذا الكتاب. وهو مكتوب في لغة فصيحة سهلة قد برئت من التكلف وامتازت بالإسماح، تتخلها بين حين وحين عبارات شعبية تقرأها فلا تضيق بها، ولا تحس تنافرا بينها وبين ما حولها من هذه اللغة السمحة المستقيمة على هنات قليلة فيها لا تستحق أن تذكر. فهو مثلا يثني “ذات” فيقول: “ذاتا نبقتين من اللؤلؤ” والخير أن يقول: ذواتا.. ولكن هذه هنات يسيرة، وهي بعد ذلك قليلة في هذا الكتاب الطويل»9
يعرض طه حسين نقده في جمل قليلة تلم بموضوع التقويم إلماما سريعا بعدما بين أن لغة الكتاب على العموم فصيحة سمحة لا تشوبها في استقامتها سوى هنات يسيرة. ثم يورد مثالا أو مثالين يؤكد بهما ملاحظاته اللغوية ويُقوِّم بذلك ما وقع فيه المبدع من خطأ. ولم يكن هذا النوع من التعامل بين الناقد والأديب مرفوضا من قبل الأديب. وكان الطرفان يحرصان عليه.وقد يشتط الناقد في غضبه على المبدع ويتحول نقده إلى لوم وتقريع كما نجد عند طه حسين نفسه وهو ينتقد عملين روائيين من أعمال يوسف السباعي. ويعد هذا النوع من التقويم من شروط استمرار التفاعل الثقافي وتطوره، كما كان يعد من مقومات العملية الإبداعية. يقول طه حسين منتقدا رواية “إني راحلة”:
«هناك أشياء تنكرها كتمزيق الخيط وتمزيق الشعر وتذكير المؤنث وتثنية ما حقه أن يكون جمعا. وهناك أشياء لا يسيغها الذوق وما أكثر ما يتورط الشباب من كتابنا فيما لا يسيغه الذوق. فهذان العاشقان يتحدثان في موطن من مواطن الحب العنيف الذي يريد أن يخفي نفسه فلا يستطيع، وإذا هما ينتهيان في بعض حديثهما هذا، الذي كان يجب أن يخلص من المادة، عن المسطردة والعدس والكوشري والدقة وأسخف ما يمكن أن يتحدث عنه أصحاب الشره والنهم في موطن من مواطن الجوع والازدراد والالتهام. وهناك أشياء لا يسيغها الفن نفسه وإنما هي متكلفة مصطنعة.. وهناك عيب في القصة يوشك أن يفسدها لولا أنه يقع في آخرها..»10
يعلق الناقد على لغة الرواية مشيرا إلى بعض هناتها ثم ينتقل إلى التعليق على جوانب فنية تتصل بسياق أحداث الرواية اتصالا كبيرا. يشير طه حسين إلى عيب في مشهد تصويري لبطلي الرواية يعبران فيه عن هواهما وإذا بهما يتحدثان عن الطعام وأنواعه. يرى طه حسين في هذا الاستطراد حشوا يخل بالمشهد التصويري الذي ينبغي أن يركز بدرجة أولى على صدق العاطفة وحرارة المشاعر. بهذه الشاكلة ينتقد طه حسين شباب المبدعين وشيوخهم على السواء دون حساسيات ولا عقد.
ويقول معلقا على لغة الكاتب نفسه تعليقا عاما أثناء قراءته رواية “رد قلبي”:
«..خيل إلي حين أخذت في قراءة القصة أن الكاتب قد عاد إلى الحق ورجع إلى الصواب وآمن باللغة العربية الفصحى وإعرابها. ولكني لم أكد أمضي في قراءة القصة مائتي صفحة حتى راعني ما فيها من استخفاف بالفصحى وازدراء للإعراب وإعراض عن أيسر أولياته وتورط في فنون من الهجن لا تخطر لكاتب ولا لقارئ على بال، وكأن القصة طالت على الكاتب نفسه فعني باللغة في أولها ثم أدركه السأم فأرسل قلمه بغير حساب… ولكني أؤكد له ناصحا أن هذا الإهمال يشين قصته حقا ويسئ إليها في غير استحقاق منها لهذه الإساءة»11
ثم ينتقل للتعليق على البعد الفني للقصة مركزا على اضطراب نهايتها:
«فهذه الأحداث الكثيرة العنيفة التي يتبع بعضها بعضا في سرعة خاطفة، وهذا الدم الذي يسفك، وهذا العاشق الذي يجرح في ظهره، والعاشقة التي تجرح في قدمها، والرصاص الذي ينطلق بحساب أو بغير حساب، كل هذا يهبط بالقصة من منزلة كانت رفيعة إلى منزلة لا أحبها لكاتب مجيد كالأستاذ السباعي.
فمتى يتاح لكتابنا أن يراقبوا أقلامهم وأن يمتلكوا أنفسهم وألا يستجيبوا لهذه الدعوة الخطيرة التي تدعوهم إليها السينما والتمثيل الرخيص؟
هذه قصة بدأت كأحسن ما تبدأ القصص وانتهت كأسوأ ما تنتهي واضطربت بين بدايتها ونهايتها في ألوان من الإجادة الرائعة والتهافت المؤلم»12
لا يختلف النقد الموجه إلى يوسف السباعي في النصين أعلاه عما رأيناه في نقد طه حسين لرواية “إني راحلة” إذ يقف الناقد عند اللغة ثم ينتقل إلى الكشف عن بعض النواقص الفنية والاختلالات التي تمس جمالية الرواية. وهو بهذه الطريقة يجمع بين توجيه المبدع وبين تبصير القارئ بحقيقة الإبداع بعد الكشف عن جماليته.
بهذه الشاكلة يصبح النقد مستندا في الأساس إلى التلخيص والتحليل والتفسير والتوضيح والتعليق مركزا على مخاطبة القارئ عامة، وفي نفس الآن يؤدي وظيفة التقويم والتوجيه للمبدع. وعبر هذه الاستراتيجية كان النقد ناجحا في عملية التواصل الإنساني يخاطب القارئ والمبدع معا، ويسهم في التفاعل الثقافي بشكل عام، ومن هنا كان للنقد الجاد الفاعل حضورا مميزا في المجتمعات العربية قبل أن ينكفئ على ذاته ويحصر دائرة خطابه في أسوار المفاهيم العويصة والمهاترات الكلامية القائمة على الدجل والمحاباة.
2/الأهداف/الغايات من النقد:
ترتبط بالاستراتيجية النقدية التي اتبعها طه حسين لتقديم النصوص السردية (القصصية والروائية) العربية والغربية مجموعة من الأهداف أو الغايات تعد مدار نقد الكاتب وإبداعه الأدبي بحيث شكلت ثوابت أدبية في كل كتاباته. هكذا يقرأ طه حسين الأدب السردي انطلاقا من رغبة النقد في تقديم معارف محددة للقارئ أو السعي إلى تعويد القارئ على التأمل والتذوق الفنيين. ويمكن إجمال الأهداف أو الغايات في العناصر الآتية:
– دفعُ القارئ إلى معرفة الحياة إذ يرمي التعليق على الدلالة أو الكشف عن المغزى إلى الارتباط بتصور أساس طالما دافع عنه طه حسين في نقده وإبداعه يتمثل في ربط الأدب بالحياة وخدمته للإنسان؛ فغرس الأمل في النفوس ورفض التشاؤم غاية أدبية طالما ألح عليها الناقد في كتاباته على سبيل المثال.13
– دفعه القارئ إلى معرفة أسرار النفس الإنسانية.14
– دفعه أيضا إلى معرفة واقع المجتمع.15
– توجيهه والتأثير فيه وربط الألفة به.16
– تحفيزه على التأمل والتفكير.17
في ضوء هذه الغايات التي يرومها طه حسين من النقد الأدبي نلمس بعده الإنساني الشامل الذي يتغيا جعل وظيفة النقد لا تقتصر على تحليل النصوص الأدبية وتبيان مكامن قوتها ومناحي ضعفها. إن النقد الأدبي يتصل بوظائف الأدب التي ترمي إلى حفز القارئ على تشكيل رؤية واضحة لذاته وللعالم من حوله بغية بناء ذاته وتمكنه من التفاعل الإيجابي مع العالم. من هنا رأى طه حسين أن النقد لا يقل أهمية عن الأدب من حيث قدرته على كشف حقائق الحياة أمام المتلقي ودفعه إلى التعرف على حقائق النفس الإنسانية وأسرارها واكتشاف الواقع الاجتماعي وخفاياه إلى جانب دفعه إلى التأمل والتفكير والتخييل. وبهذه الشاكلة يضع الناقد الكتابة النقدية في بؤرة المشهد الثقافي نظرا إلى أهميتها الفنية والفكرية ونظرا إلى قدرتها على الجمع بين الإمتاع والإفادة. ولعل هذه الرؤية الجذرية لدور النقد في المجتمع والوسط الثقافي معا هي التي جعلت من نقد العميد وجيله نقدا مميزا مقروءا لدى مختلف فئات المجتمع وطبقاته. ولعل هذه المميزات هي التي أتاحت لرواد الحركة الأدبية والنقدية تفعيل المجتمع والإسهام في حراكه الثقافي والسياسي والاجتماعي بشكل واضح ومميز. ولولا ما أصاب النقد من ارتكاس نحو الذات واقتصار على تحليل النصوص وخدمة المنهج لكان للنقد الأدبي في العالم العربي شأنا كبيرا وقدرة لا تضاهى في توجيه الرأي العام.
وإذا عدنا إلى الغايات التي رسمها طه حسين للأدب ومهامه لرأينا أن النقد الأدبي لم يكن بمعزل عن المجتمع وقضاياه. ومن ثم، فإن كل نقد لا يقف إلا عند حدود النص الأدبي أو الحقل المفاهيمي الأدبي يظل نقدا فجا لا يؤدي وظائفه الحقيقية كما يرسمها العميد. إن النقد الأدبي السليم يتفاعل مع النص ويقدم المعرفة والمتعة للمتلقي وفي نفس الآن يوجه المبدع نحو نقائص عمله الإبداعي ليصلحها أو ينتبه إليها في أعمال لاحقة حتى يتمكن من تداركها. وإلى جانب ذلك يسهم النص النقدي ذاته باعتباره ينتمي إلى مجال الأدب في تطوير الأدب والرقي بذوق المتلقي باعتباره نصا يجمع بين بلاغة الإمتاع والإقناع، ولعل هذا ما ميز نقد طه حسين كما سنرى في العنصر اللاحق.
3/دينامية النقد وسماته الجمالية:
حينما يقرأ طه حسين النصوص المصرية يركز على النقد الذي يتميز بحيوية واسعة ونهج منفتح لا يحدد بالنزوع الانطباعي أو الخضوع لقواعد المناهج التي استعملها الناقد في دراساته الأكاديمية المحضة مثل المنهج الاجتماعي أو غيره من المناهج، ولكن تحليله في هذه الحالة يتسم بالوضوح والبساطة وتقريب الدلالات والأبعاد إلى القارئ. ولا يغفل الناقد مخاطبة الكاتب ذاته قصد توجيهه أو تنبيهه إلى بعض النقائص في فنه أو لغته كما لمسنا سابقا.
وعلى الرغم من وعي طه حسين بحدود الأجناس الأدبية إلا أنه كان يعتبر أن النقد لا يضع القواعد الصارمة على الإبداع، فللشاعر والروائي الحرية المطلقة في تشكيل نصيهما. وبذلك كانت رؤية طه حسين منفتحة على فكرة تلاقح الأجناس الأدبية وتكاملها.18
ومن هنا نلمس-في نصوصه النقدية- نزوعا إلى عرض النصوص الأدبية ونقدها في قالب سردي مشوق وفي بناء لغوي لا يخلو من استطراد وتكرار وتلوين أسلوبي. وبهذه السمات الفنية التي حرص الناقد على توفيرها في كتابته النقدية تمكن من جعل النص النقدي قطعة أدبية تجذب القارئ وتثير شهيته للقراءة بقدرتها على إمتاعه بخصائصها الجمالية وبلاغتها المتنوعة. ولعل سمة السرد التي طبعت نقد العميد هي التي مكنت لنقده ومتابعاته للقصة والرواية في الأدبين العربي والغربي الحضور المميز في الصحافة العربية مما أتاح له الانتشار، ومن ثم القدرة على التأثير في المتلقي وتوجيه ذائقته الأدبية نحو السرد الأدبي.
وعلى العموم يتسم نقد العميد بالحيوية والحركية ويقدم قراءة عاشقة للأدبين القصصي والروائي الغربي والعربي على السواء دون السقوط في الجعجعة اللفظية والتقسيمات الشكلية والأشكال المفتعلة التي تحول النص النقدي الأدبي-الذي يروم الإمتاع والفائدة- إلى طلاسم تنفر المتلقي. ومن هنا نجح ذلك النقد في توجيه الناس نحو حب الأدب وعشقه.
وقد سار على هذا النهج الذي ابتدعه العميد-إلى جانب نقاد آخرين من جيله- عدد من نقاد الأجيال اللاحقة في تناولهم الأدبين العربي والغربي فكان أثرهم جليا في توجيه أذواق القراء وأذهانهم نحو الجيد من الإبداع. فمن خلال طه حسين ومحمود عباس العقاد وعز الدين إسماعيل ونبيل راغب وشكري عياد وعيسى الناعوري وجابر عصفور وجورج طرابيشي وغيرهم تمكن القارئ العربي الشغوف بالأدب من الاطلاع على رؤية بانورامية عن الجديد في الإبداعين القصصي والروائي. ويرجع الفضل إلى طه حسين وإلى هذه الكوكبة من النقاد ومن لف لفهم في تغيير ذائقة القراء العرب وتوجيههم نحو فني القصة والرواية بعدما كان الشعر يحتل بؤرة اهتمام غالبية المتلقين.
وما أحوج النقد العربي في القرن الحادي والعشرين إلى تطوير أدواته بما يناسب القراء وبما يخدم الأدب والثقافة خاصة أن انحسار القراءة في البلاد العربية ينبئ بكارثة عظمى تتهدد كيان المجتمعات وثوابتها الحضارية.
هوامش ومراجع:
1– طه حسين،نقد وإصلاح،دار العلم للملايين،بيروت،ط.10،مارس 1985.
2– نقد وإصلاح،ص.65 وص.81 على سبيل المثال.
3– نفسه،ص.79 إلى ص.81 مثلا.
4– نفسه،ص.34-35.
5– نفسه،ص.60 وص.106 على سبيل المثال.
6– حول هذا الجانب انظر:أحمد بوحسن،الخطاب النقدي عند طه حسين،دار التنوير/المركز الثقافي العربي،بيروت/الدار البيضاء،1985،ص.95،ويتحدث الباحث بصفة خاصة عن تقديم النص الغربي في إطار حديثه عن الدورة النقدية النموذجية عند طه حسين،وفي رأينا أن هذا النموذج لا يقتصر على قراءة النص الغربي،بل يشمل النص السردي العربي أيضا كما تبينه كتابات طه حسين التي قدمت نماذج جديدة من الأدب العربي إلى القارئ المعاصر.
7– نقد وإصلاح،ص.115-116.
8– نفسه،122-123.
9– نفسه،ص.123.
10– نفسه،ص.94-95.
11– نفسه،105-106.
12– نفسه،ص.106-107.
13– انظر المرجع نفسه،ص.33.وص.45.
14– نفسه،ص.126.
15– نفسه،ص.63.
16– نفسه،ص.78.وص.98.
17– نفسه،ص.69.
18– أحمد بوحسن،مرجع مذكور،ص.150-152.
خاص الكتابة