ياسر عبد اللطيف كاتب حر، وأقصد بالحرية العزوف عن ضرورة التخصص الأدبي المُتعارف عليه، فقد أصدر ديوانين ينتميان إلي قصيدة النثر الفصحي، ورواية وحيدة جيدة هي “قانون الوراثة” مطلعَ هذه الألفية. وها هو يدخل للمرة الأولي مدينة القصة دخول المُطمئن العارف بمسالكها وشعابها، ولا أستبعد أن يصدر كتاباً يجمع فيه مقالاته الجميلة المُوزعة علي إصدارات مختلفة، مقالات تميزها نغمة سرد واضحة، كما أن لمسة السيرة الذاتية واضحة فيها، كما هو الحال في هذه القصص وفي روايته الوحيدة كذلك. جرّب ياسر أعمالاً تتصل بالفن من قريبٍ أو من بعيد، مثل العمل في الأفلام التسجيلية والقصيرة، وله فيلم تسجيلي قصير بعنوان “مواطن صالح من المعادي” وقاريء ياسر سيعرف جيداً أهمية حي المعادي في أعماله، ليس فقط كمكان للنشأة والتكوين، بل أيضاً كفكرة، فكرة الضواحي الناعسة بعيداً عن ضجيج وصخب المركز والمدينة، الضواحي التي تتحول إلي هامش للحرية يمكن للإنسان فيه والمبدع بالطبع أن يكتشف خصوصيته وصوته، عبر التجريب مع الأشكال الأدبية المختلفة والأنساق المتحررة من التصورات المسبقة.
يأتي الإحساس بالسيرة الذاتية في قصص الكتاب من إشارات واضحة، إلي اسم الكاتب نفسه مثلاً، في تدليل الأب له طفلاً: “أبو اليُسر اللي بيظهر ساعة العُسر”، ومن إشارات غيرها. كما تؤكده نبرة السارد الحميمة، بضمير المتكلم أغلب الوقت، ومن الخيوط المتعاقبة التي يمكن رصدها عبر القصص للدلالة علي تجربة شخصية ذات حدود وملامح محددة، رغم وثبات الزمان والمكان. ومع ذلك فثمة ستار كثيف يحجب الأفق الضيق للسيرة لصالح التجربة المباشرة، بل لصالح تفنيد هذه التجربة وتأملها ومحاولة ردها لسياق إنساني أكثر رحابة بطبيعة الحال. محاولة دائمة لترتيب الأرفف، وفقاً لعنوان آخر قصص الكتاب، بمعني وضع الذكريات في نصابها وربما إعادة تشكيلها واستكناه مغزاها، بما أن الماضي يعيش وينمو في التجربة الراهنة، ويفعل فعله فيها، من هنا كان حضور الحلم بين صحفات الكتاب، الحلم الذي يهمس بالسر أو يفضحه صراحةً، الحلم ومشتقاته من شوارد الخاطر وتجليات الشراب والمخدرات ومقامات الكشف والتخاطب مع أرواح الموتي.
إلي جانب الإحساس الخافت بالسيرة الذاتية، قد نستشعر أيضاً ميلاً للتوثيق، ورغبة في تثبيت الحقائق الموضوعية بدبابيس اللغة علي ورق السرد. خير نموذج علي هذا مشهد إدوار الخراط في اسكندرية أثناء تصوير السارد فيلماً تسجيلياً عنه، وكذلك حكي جريمة القتل العائلية الوحيدة في تاريخ الأسرة النوبية، والرغبة في تفحصها واستكشاف أبعادها ليس بدافعٍ جمالي أو من قبيل التسلية، بقدر ما هي إرادة معرفة، ومن جديد وضع الأمور في نصابها وفي سياقها، ومن ثم إعادة اكتشافها حتي جمالياً.
حكاية الجريمة العائلية تلك ترد بين قوسي السرد في قصة مدينة “التلال والنهرين”، مما يعيدنا للعبة الدمي الروسية الخاصة بالعم النوبلييوسا، لأن بعض الحوار في القصة يدور حول كتابة السيرة الذاتية وما ينجم عنها من مشكلات عائلية، وما تسببت فيه الرواية الأولي لرواي القصة من مشكلات، لاحظوا الملفات الصغيرة التي تؤدي إلي بعضها البعض دون انحرافات حادة، تنصحه سامية مضيفتهم السودانية الشابة في جنوب فرنسا أن يكتب حكاية الجريمة هذه ولا يخشي شيئاً، فهل كتبها الرواي حقاً؟ يظل سؤالاً معلقاً.
الإحالات الثقافية والمعرفية عموماً بين سطور القصص، من قبيل أسماء المطربين والأغنيات والأفلام والمخرجين والكتاب، قد تثقل بعض القراء، وقد يجدها البعض غير مبررة، غير أنني شعرت في هذه القصة مثلا (مدينة التلال والنهرين) أن الإحالات جزء من النسيج العضوي للعمل، وهي ملفّات أخري صغيرة تدور حول نفسها لتلتحم بالنص، فالمطرب السوداني “مصطفي سيد أحمد” ليس مجرد اسم لأن المضيفة سودانية، بل هو وفقاً لنص القصة ذاتها مطرب الحزب الشيوعي السوداني، كما أنه مات في منفاه بالقاهرة، كما أنه مغني “الحزن النبيل”. ومثال آخر أوضح هو أغنية فايزة أحمد “خليكوا شاهدين” التي يُفاجَأ بها الرواي قرب نهاية القصة، في سيارة تجوب شوارع ليون، وبين الأقارب والأصدقاء من العرب، تحمل كلماتها إحالة واضحة لعالم القصة نفسه،”عدينا بحورهم عدينا.. وحدفنا الموج ولا حسينا، ولا رحنا معاهم ولا جينا، وسيرتهم (سيرة الأهل، جرائم العائلة التاريخية، السودان، إلخ) مش عايزة تسيبنا..” الجملة الأخيرة في هذه القصة: “وتركتُ نفسي للطفو فوق المكان والزمان” يتردد صداها في أغلب قصص الكتاب، وهي ليست مرتبطة بالضرورة بالسفر الفعلي للخارج، بقدر ما قد يكون السفر داخلياً تماماً، فقد تتحقق بأقراص مخدرة، أو بلقاءات مع أشخاص منسيين من زمن، أو بجهاز افتراضي يحاكي فعل الغوص في الأعماق. حالة الطفو هذه مكّنت ياسر عبد اللطيف من رؤية أوسع نطاقاً، لكنها أدق وأصفي، كأنه أمام شاشة حُلمية هائلة وعالية الجودة، يرتّب عليه المشاهد والذكريات ترتيباً محكماً، خاضعاً لتصورات وهواجس خاصة للغاية، كما هو المونتاج في آخر قصص الكتاب.
عدا قصتيّ “حلم ليلة حرب”، و”الرسل”، قد لا نجد أثراً لياسر عبد اللطيف شاعر قصيدة النثر في قصص الكتاب، ولعلها ليست مصادفة أنهما أقصر قصتين في الكتاب، فالكثافة ارتبطت بالشعرية وارتبط السرد للأسف بالإفاضة، ولكن هذه قصة أخري. ومع ذلك فمن مناطق قوة السرد في الكتاب هو استطرادات الكاتب التي تبدو جانبية تماماً، ولنرجع لقصة أمثولة الكلب الأبيض، وحديثه المطوّل عن الكلاب وحياتها بين المناطق المختلفة، لكن هذا الاستطراد يظهر أنه – ومع تقدم القصة – لا غني عنه بالمرة، بل وجزء عضوي منها. ناهيك بالطبع عن ذكاء صيغة الكلام ذاته، والتي لا تملك أمامها إلا أن تعطي أذنك لمحدثك حتي النهاية.
في قصة من أحلي قصص نجيب محفوظ، لونابارك، بمجموعة “بيت سيء السمعة”، يدخل البطل إلي مدينة الملاهي ويمارس كل ألعابها طوال نهارٍ كامل، متنقلاً، ب”حرفنة” سارد قادر، بين مراحل الحياة المختلفة، فيلهو لهو الأطفال، ثم يلتقي بفتاته أثناء صراع المركبات الكهربائية، ويقاتل لينالها، ثم تأخذهما ألعاب الحياة حتي بيت جحا الذي يتوهان بداخله (سنوات؟) قبل إنقاذهما في اللحظة الأخيرة، وقبل السطر الأخير يتأهب بطلنا لركوب اللعبة الخطرة، وهي موتوسيكلات الموت. تذكرت هذه القصة الأمثولة بينما أقرأ القصة التي تعطي اسمها لمجموعة ياسر، واندهشت للمسافة الكبيرة التي تفصل قصة كتبها رجلنا الكبير في منتصف الستينيات وبين قصة صديقنا الرائق هنا، حيث يدخل بطله في الألفية الثالثة داخل جهاز افتراضي ليحاكي الغوص في أعماق المحيطات، التجربة افتراضية لكنها أقرب إلي الواقع الملموس، بحيث يكون الخطر من انتهاء الأكسجين في نهاية اللعبة خطراً حقيقياً. دائماً ما ينشق الديكور الواقعي لقصص ياسر عن شقوق وصدوع يتسرب منها بعدٌ آخر، لعله البعد الرابع للمجهول، وكما في بعض قصص إيهاب عبد الحميد وهيثم الورداني، يتحول الواقع إلي نوعٍ غامض من التجربة، لا هو بالحلم ولا هو باليقظة، وحده الوعي الصافي يمكنه أن يقبض عليه ويفنده ويصنع منه شيئاً يتجاوز التجربة، دون أن يحاول تلخيصها في أمثولة عن الحياة علي طريقة اللونابارك.