محمد الفخراني
تَعَرَّفْنا أمام فَرْشَة للكتب المُزَوَّرَة بوسط المدينة.
“هل تبحث عن كتاب مُعَيَّن؟”، سألْتُه.
“لا، فقط أتجوَّل”، مالَ علىَّ، وقال: “أنا لا أشترى كتبًا مُزَوَّرَة”.
مِلْتُ عليه، وقلت: “أنا أفعل”.
عاد إلى وضْعِه الطبيعى، ما جَعَلَه وضْعًا مُندَهشًا، كان يرتدى نظارة طبيَّة دائرية تَعْرِضُ عينين زرقاوين، بدا لى فى نهاية العشرينات من عمره.
قلتُ له: “لماذا أنت مندهش؟”.
قال: “وغاضب أيضًا، هذا إهدار لحقوق الكُتَّاب”.
“أنت كاتب؟”.
“لا”.
“إذن لماذا تغضب؟ الكثير من الكُتَّاب أنفسهم يشترون الكتب المُزَوَّرَة، أو يُحمِّلُونها بى دى إف من مواقع مجانية”.
“كيف تعرف هذا؟”.
“ليس سرًا”.
هَزَّ رأسه بأسف، وقال: “ما رأيك أن نتجوَّل فى بعض المكتبات”، مَدَّ يده ليصافحنى: “اسمى ظريف.. شيطان”، وقَبْل أن أُعرِّفه بنفسى قال: “لا داعى لتذكر اسمك”.
دخلنا مكتبة قريبة، بها بعض الزبائن، ارتطم أحدهم بصَفّ كتب، فسقط أحدها على الأرض، قفز “ظريف” والتقطه، مسحه بيده، وسأله: “أنت بخير؟”، قَبَّلَه وأعاده إلى مكانه، وقال له: “استرح”، نظر بتأنيب إلى الشاب الذى أَسْقَطَ الكتاب، فتأسَّفَ له، وابتعد.
قلت له: “أنت تبالغ، ظريف”.
“هذا أقل شىء”، قالها بجديَّة.
“أنت تُبالغ من جديد”.
خرجنا، سألنى: “هل تحب أن تشاهد مباراة لكرة القدم؟”.
“مَنْ سيلعب؟”.
“منتخب شياطين العالم ومنتخب شياطين أفريقيا”.
اشترى “ظريف” اثنين بسكويت بالتمر، أكلناهما بسرعة، أمسكَ بيدى، وقال: “استعد”.
طار بى فوق السحاب، وصلنا إلى استاد مُعَلَّق فى الهواء، المُدَرَّجات مليئة بالمُشَجِّعين، شياطين وبشر، يُغنُّون، ويصنعون بأيديهم وأجسادهم موجات مُلوَّنَة.
الفريقان يؤديان عمليات الإحماء.
موقعنا عند طرف أحد الصفوف الوسطى، سألنى “ظريف”: “مَنْ تُشَجِّع؟”، قلت: “أُشَجِّع اللعبة القذرة”، اندفعَ نصفه العلوى إلى الخلف كأنى زغَدْتُه فى صدره، وقال: “عجيب.. أنا أُشَجِّع منتخب أفريقيا يا جَدَع”.
منتخب أفريقيا يرتدى تى شيرت أصفر بخطَّيْن أخضر وأحمر على الصدر، وشورت أبيض، أشار “ظريف” إلى أحد اللاعبين، وقال: “هذا اللاعب، رقم 11، عجيب، كأنه معجون بماء بنى آدميين”، نظر إلىَّ: “لا أقصد إهانة”، “لا مشكلة”، قلتُ له.
بدأتْ المباراة، أحرز مهاجم منتخب شياطين العالم هدفًا بضربة رأس فى الدقائق العشر الأولى، تابَعْتُ اللاعب رقم 11 فى منتخب أفريقيا، سريع، ويحتفظ بالكرة لوقت طويل، ولا أحد يستطيع تخليصها منه، الجمهور يتفاعل مع ألعابه، حصل اللاعب على إنذار بعد أن قام بمراوغة مدافع من منتخب العالم، وجعله ينزلق على الأرض لمسافة طويلة حتى خرج من الملعب، ثم ترك الكرة ووقف يضحك منه، ضحك الجمهور، رفَعَ الحكم الكارت الأصفر وهو يحاول أن يكتم ضحكاته.
مِن خارج منطقة الجزاء بأقل من متر سدَّدَ اللاعب رقم 11 الكرة، اصطدَمَتْ بالقائم، وخرجَتْ، سمعتُ آهات الجمهور، بعدها بخمس دقائق، راوغ ثلاثة مدافعين، ومن زاوية أخرى سَدَّدَ الكرة، اصطدمتْ بالقائم، وخرجَتْ، آهات الجمهور، فَعَلَها للمرة الثالثة، سمعتُ بعض الجمهور يقول: “آهاااا، إنها إحدى ألعابه، إنه يلاعبنا”، اتجه اللاعب إلى المُدرَّجات، رفع يديه مفتوحتين، إشارة إلى أنه سيضرب الكرة بالقائم عشر مرات، قال ظريف: “عَشْر مرات.. ولن يُحرز أهدافًا، بمزاجه”، قلت: “هدف التعادل على الأقل”، “لن يفعل، هذا هو العَرْض الذى سيُقدِّمه لنا فى هذه المباراة”، “وبالطبع لا يستطيع المُدرِّب أن يُخرِجه من الملعب”، “لا يستطيع ولا يريد”، كان رقم 11 يُسدِّد من زاوية جديدة خارج منطقة الجزاء، وللمرة الرابعة فى القائم، هلَّلَ الجمهور، وهتفوا معًا: “أربعة”.
استراحة بين الشوطين، أَخرجَ “ظريف” حافظة نقود جلدية، عرَضَ لى صورة لطفلة ملفوفة فى قماط وردى، وقال: “طفلتى، عمرها إسبوع واحد”، عيناها مفتوحتان، لونهما بنفسجى فاتح، فم صغير، مبتسم، وشفتين ورديتين، “جميلة مبتسمة”، قلتُ له، “شكرًا، لم نَخَتْر اسمها حتى الآن، يمكنك أن تقترح واحدًا”.
وقف الجميع حولنا يُهَلِّلون وهم ينظرون إلى أرض الملعب، وقفْتُ و”ظريف”، رأيت شابة عارية تجرى هناك قادمة من الخط البعيد للملعب، وهى ترفع ذراعيها لتُحيِّى الجماهير، عضوها مُغَطَّىَ بعشبة ورديَّة مُدَوِّخة، ثدياها يتخبطان هناك بجنون ورصانة معًا، أسمع صوتهما، يتردَّدُ فى الاستاد، تمزَّقَتْ روحى بلذَّة عجيبة، الجميع يُصفِّرون، ويصفِّقون، لم يدخل أحد ليُخرجها، أىُّ مريض يريد إنهاء هذا المشهد؟! مَشَتْ فوق خط المنتصف باتجاهنا، وقبل أن تخرج من الملعب دارت حول نفسها تُحيِّى الجميع، مرَّتْ فى الفاصل بين مُدَرَّجنا والمُدَرَّج المقابل، سقَط البعض وهم يميلون بأجسادهم كى يروها حتى النهاية، كان مرورها قريب مِنّى و”ظريف” بشكل مرعب، رأيت حَبَّة عرق تلمع على فلقتها القريبة، شعرْتُ بانتصاب جعل العالم رائعًا، هتفْتُ لها متأثرًا: “شكرًا.. شكرًا”، ودَدْتُ لو أُخرجه لها ليشكرها بنفسه.
الشوط الثانى، اللاعب رقم 11 يراوغ اثنين معًا من لاعبى منتخب العالم، يُمرِّرُ الكرة بين قدَمَى الثالث ليصل إلى حدود منطقة الجزاء، ويُسَدِّد، نعم، فى القائم وإلى الخارج، “خمسة”، هتف الجمهور، بدأتُ أهتف معهم فى التسديدة السادسة، يمكنه بسهولة أن يُحرز هدف التعادل على الأقل، لكنه لا يفعل، راقبْتُ المُدرِّب، توقَّعْتُ أن يضرب رأسه فى عمود ما، أو يقضم قطعة من الأرض، لكنه كان يُهَلِّل، ويجرى فى التراك فرحًا مع كل تسديدة بالقائم، كأنه يفوز بكأس شياطين العالم.
الدقيقة الأخيرة من الوقت الضائع، تبقَّتْ لرقم 11 تسديدة واحدة كى يُكمِل العَشْرة، تسَلَّمَ الكرة فى منتصف الملعب، راوغَ لاعبًا، وثان، وثالث، مَوَّه بأنه سيُمرِّرها لزميله فانخدَع الرابع، كيف صدَّقَه؟ كلنا نعرف أنه لم يكن ليفعل، الثوان الأخيرة، الجمهور يقف، يشمل هذا مُشَجِّعى منتخب العالم، مُدرِّب منتخب أفريقيا والاحتياطى يقتربون من خط الملعب، يريدونها فى القائم طبعًا، زملاء اللاعب فى المَلْعَب يتوقفون بينما يتقدَّم بالكرة، يُمَرِّرُها من فوق أحد المدافعين بكعب قدمه، ويبتسم، الحَكَم يكتم ضحكته، يراوغ آخَر وفى الوقت نفسه يتفادى محاولة إعاقة مُتعمَّدة، يصل إلى حدود منطقة الجزاء، سهلة، هدف مؤكَّد، يُسَدِّد، الاستاد يَفْرُغ من الهواء والكرة فى طريقها إلى المرمى، تدور وتصنع قوسًا خفيفًا، هل هو هدف التعادل، حارس المرمى يتأهَّب للكرة الصعبة التى تتجه إلى أقصى نقطة من الزاوية 90، سريعة وبطيئة معًا، لكنها تنحرف، أو تُكمِل قوْسَها، لتضرب القائم فى أعلى نقطة منه، “طق”، سمعناها جميعًا، ورأينا الكرة تسقط على الأرض بجوار خط الملعب، توقفَتْ هناك لحظة لتُلقى نظرة أخيرة على اللاعبين، ثم لمَلَمَتْ نفسها وخرَجَتْ بهدوء، هتف الجميع وأنا معهم: “عشرة”، الجميع سعداء.
أثناء خروجنا من الاستاد، زحام، رأيت مؤخرتها الرياضية تلعب داخل بنطلون رياضى من قطن رمادى، كانت على بُعْد ثلاث خطوات، لم أستطع مَنْع نفسى، اقتربْتُ منها، ومرَّرْتُ إصبعى الوُسْطَىَ بين فلقتيها بخفَّة وعُمق، شعرْتُ بحرارتها، وعبَرْتُ بجوارها، فى اللحظة نفسها استدارت الفتاة وصفَعَتْ شيطانًا أو بشريًّا خمسينيًا، لا أعرف، كان هو مَنْ وجدَتْه خلفها مباشرة، لمَحْتُ المسكين وهو يترنَّح من المفاجأة وقوة اليد الشابة، سمعتُها تصرخ فيه: “أنتَ قليل الأدب”، صوتها سِكْسِى، المسكين يعتذر عن شىء لم يفعله، و”ظريف” لم يلاحظنى، ابتسمْتُ وحرارتها ما تزال عالقة بإصبعى.
الخطوات الأخيرة قبل خروجنا، انحنى “ظريف” للأرض والتقط محفظة نقود، قلتُ له: “رزقنا، نقتسمها”، أمسكَ ذراع نظَّارته ورفعها عن عينيه: “نقتسمها؟”، “لا تطمع ظريف”، أعاد نظَّارَتَه مكانها: “المحفظة لها صاحب”، “ماذا؟ صاحب؟”، رفع يده بها، وقال بصوت مرتفع: “وجدْتُ محفظة، مَنْ صاحب هذه المحفظة؟”، قلتُ له: “لن تعثر عليه”، “مَنْ صاحب هذه المحفظة؟”، “خَرَج، لا تُتْعِب نفسك”، “وجدْتُ محفظة هنا، مَنْ صاحبها؟”، ظهر شاب يهرول باتجاه “ظريف” وهو يتحسَّسُ جيوبه، ويقول: “أنا، محفظتى أنا”، قدَّمَها له “ظريف”، قلتُ له: “على الأقل تأكَّدْ أنه صاحبها”، قال الشاب: “أنا صاحبها، بداخلها..”، قاطَعَه “ظريف”: “أُصدِّقك يا صديقى، إذهب”، “شكرًا”، قال الشاب وانصرف، قلتُ وأنا أخطو خلفه: “مكافأة على الأقل”، أمسكَ ظريف بذراعى، وقال: “عيب، لا يصِحّ، لا تحرجنى”، أَدَرْتُ وجهى، وقلتُ: “مُغَفَّل”.
خرجنا من الاستاد، رأيتُ بين السحاب مَمرَّات من قماش، وسلالم خشبية عريضة، “مُخصَّصَة للبشريِّين كى يعودوا إلى الأرض”، قال “ظريف”، “بنفسج”، قلتُ له، سألنى: “ماذا تقصد؟”، قلتُ: “يمكن أن تُسمِّى ابنتك ‘بنفسج’، لون عينيها”، فكَّرَ لحظة، وقال: “يعجبنى الاسم، سأرسله إلى زوجتى، ونرى”، التقط لنا صورة selfie، وأرسلها مع “بنفسج”، مرَّتْ بجوارنا المؤخرة الرياضية، فكَّرْتُ أنها لو كانت بشريَّة لعرَفَتْ مَنْ فَعَلَها بها، “ردَّتْ” قال “ظريف” وفتح الرسالة، نظر إلىَّ بابتسامة: “أعجبها الاسم، وتدعوك للعشاء معنا”، “عشاء مجانى، رزق”، ضَمَّنى بذراعه، وقال: “شكرًا صديقى”.
طار بى بين سحاب أزرق وأخضر وأصفر، ممرَّات من قماش وقطن، سلالم خشبيَّة، وأخرى من حبال، جسور مُعَلَّقَة، حتى ظهر بالأسفل حَىُّ من بيوت بسيطة، وشوارع ملتوية ومتداخلة، هبط بى فى واحدٍ منها، قال: “شارع العشرين وثلاثة أرباع”، “ولماذا الثلاثة أرباع؟”، “كى يسأل عنها كل مَنْ يسمعها للمرة الأولى”، “ربما هناك سبب بالفعل”، “لكن لا أحد يعرف أحدًا يعرفه.. حتى الآن”، تطلَّعَ إلى نقطة فى عمق الشارع، وقال: “أسكن هناك، عند معصرة فواكه الجنة”، تَلفَّتُّ حولى، مقهى بلدى، محل ملابس حريمى، مطعم كشرى فرساتشى، مكتبة للأدوات المدرسية، فكهانى يبيع البطيخ فقط، قلت: “ربما سكنْتُ فى أحد البيوت هنا وقت دراستى بالجامعة”، “لا أعتقد”، قال “ظريف”.
وصلنا إلى البيت، فتَحَ لنا تمساح، تراجعْتُ، أمسك ظريف بذراعى، وقال “لا تخف”، انحنى يداعب أسفل فَكّ التمساح، ويقول: “كيف تخاف من هذا الجمال؟”، كان فم هذا الجمال نصف مفتوح ليكشف عن صفَّيْن طويلين من الأسنان الجميلة، نظر إلىَّ ظريف، وقال:” أُقدِّم لك الآنسة ‘نسمة’، نباتيَّة، وتفعل بذيلها العجائب”، نظرت إلىَّ “نسمة”، فتَحَتْ فمها أكثر ورفَعَتْ ذيلها قريبًا منى، قال لى ظريف: “تبتسم لك، وتُرَحِّب بك، إلمس ذيلها”، لمَسْتُ ذيلها وابتسمْتُ: “تشرَّفنا آنسة نسمة”، سمعْتُ صوتًا مرحًا قادمًا من داخل البيت: “ابتعدى ‘نسمة’ كى يدخل صديقنا الذى اختار اسم ابنتى”، شابة فى نهاية العشرينات ربما، فى ثوب أزرق مائى، رشيق، نصف كُمّ، شَعر مُتموِّج، لونه بين الأصفر والبرتقالى، عينان بين الأخضر والبنفسجى الفاتح، وابتسامة حقيقية، صافَحَتْنى وهى تقول: “أهلاً وسهلاً، ‘سلوى لطيف’، لا داعى لأن تذكر اسمك، تفضَّل”، “شكرًا”، ودَخَلْت، تَتْبَعُنا “نسمة”.
جلسنا فى مقاعد قطنيَّة، كلٌ منها بلون مختلف، بسيطة، ومريحة، رائحة البيت ورد خفيف، و”نسمة” بجوار مقعدى تداعب ساقى بذيلها، وتبتسم لى، أو تستعد لالتهامى، لم أتأكَّد بعد، “إنها تستلطفك، تبتسم لك”، قال لى “ظريف”، حسنًا، هذه ابتسامة وليست شيئًا آخر، أضاف “ظريف”: “يمكنكَ أن تُظهِر لها بعض الوِدّ وقتما تكون مستعدًا”، “نحن مَنْ يجب أن نُظهِر له الكثير من الوِدّ يا ظريف”، قالت “سلوى لطيف” بابتسامتها الحقيقية: “شكرًا لك على الاسم الجميل”، نظرَتْ بعيدًا بجانب عينيها، وقالت: “بنفسج، اممهمم”، نظرَتْ إلىَّ ونقلَتْ نفْسَها على طرف مقعدها: “قُل لى، هل تحب المَحْشى؟”، فكَّرْتُ لحظة وأومأتُ بابتسامة، قالت: “محشى كوسة؟”، قلت: “نعم”، تأمَّلَتْنى “سلوى لطيف” لحظة، وقالت: “لم تتحمَّس كفاية، هل تحب ورق العنب؟”، “جدًا”، “الآن أنت مُتحمِّس، هل تحب محشى الطماطم؟ والفلفل؟”، ضحكْتُ، وعدَتْنى “سلوى لطيف”: “صديقى، ستقضى معنا ليلة لذيذة”.
رنَّ جرس الباب، صوته موسيقى كمان، أسرَعَتْ “نسمة” وفتحَتْ بذيلها، ظهرَتْ شابة فى منتصف العشرينات، “هاى، نسمة”، واتجهت إلينا، توقفتْ بجوار أحد المقاعد، ترتدى قميص كاروه بالأخضر والبرتقالى، بنطلون جينز أسود، شعرها بُنِّى داكن مقصوص أسفل أذنيها، وعيناها واسعتان، ربما لونهما بُنِّى فاتح مع لمسة من الأخضر، مرَّرَتْهما علينا، وهى تقول: “ما الأخبار؟”، توقفَتْ بهما عندى، نظرَتْ إلىَّ من أعلى لأسفل، وقالت بنبرة ممطوطة: “أخبااااار مُتطفلة”، وغَلَّفَتْ جُملتها بشفتَيْن ممطوتَيْن، ارتبكَ صوت “ظريف” وهو يقول لى: “الآنسة جَنَّة، الأخت الصغرى لسلوى لطيف”، نظرْتُ إليها من أعلى لأسفل، وقلت: “جَنَّة؟ لا أعتقد”، “اِشرب من البحر”، قالت لى، قلت: “ماء البحر مشروبى المُفَضَّل”، ضحكَتْ “سلوى لطيف” وقالت: “أُحب البدايات المُتَنَمِّرَة”، شعرْتُ بذيل “نسمة” تحت بنطالى يتسلَّق ساقى، نظرْتُ إليها بجانب عينىَّ، فتَحَتْ فمها قليلاً، وسأعتبرها ابتسامة، جلسَتْ المُتَنَمِّرَة بمواجهتى، نظرَتْ فى عينىَّ مباشرة، ارتبكَ “ظريف” من جديد وهو يقول لها: “صديق جديد، تَعرَّفْتُ عليه اليوم فى..”، قاطَعَتْه لتقول وعينيها ما تزالا فى عينىّ: “إنها عادتك ‘ظريف’، الطيِّب، مع كل أَكْلَة جيِّدة تأتى لنا بمتشرِّد أو جائع ما”، قلتُ لها: “هل تأتين هنا مع كل أَكْلَة جيِّدة؟”، “إنه بيت أختى”، “بالضبط، بيت أختك”، تدَخَّلَتْ “سلوى لطيف” وقالت: “هل تعرفون ما تتحوَّل إليه البدايات المُتَنَمِّرَة؟ ها؟ قصة حب”، تبادَلْتُ والمُتنمِّرة النظرات من أعلى لأسفل، “بالضبط، هذ ما أتحدث عنه”، قالت “سلوى لطيف” وهى تنقل عينيها بيننا، قال “ظريف”: “لكننا لن نقضى الليلة كلها فى التنمُّر”، نهضَتْ “سلوى لطيف” وقالت لى: “سأُحضر صغيرتنا ‘بنفسج’ كى تراها، طبعًا، وبعدها نبدأ رائعة المحشى”، وقفَتْ المُتنمرِّة فى مكانها، وقالت: “ماذا تقصدين بصغيرتنا بنفسج؟ هل تسمُّونها بنفسج؟ بنفسج؟ مَنْ اختار هذا الاسم البشع؟”، “صديقنا اللطيف هذا”، قالت “سلوى لطيف” وهى تنظر إلىَّ وتبتسم، التفَتَتْ إلىَّ المُتَنَمِّرة، رأيت فى عينيها ضوءًا مشتعلاً: “هو؟”، قلتُ لها: “اهدأى آنسة جحيم.. أقصد جنة”، تقدَّمَتْ خطوتين باتجاهى، مَدَّتْ “نسمة” ذيلها لتمنعها عنى، نظرَتْ إليها المُتنمِّرة، وقالت: “بهذه السرعة؟”، صفَّقَتْ “سلوى لطيف” مرتين، وقالت: “نسمة فى المعركة، عرفتُ من البداية أنها ستكون ليلة رائعة”، وهرولَتْ إلى رواق داخلى: “سأُحضِر ‘بنفسج’ بسرعة”، نظرَتْ المُتنمِّرَة إلى “ظريف”، وقالت: “سنُغيِّر الاسم”، أمسكَ “ظريف” ذراع نظَّارتِه ورفَعَها عن عينيه: “بنفسج اسم جميل، لا تُفسدى فرحة ‘سلوى لطيف’ به”، أعاد نظَّارَتَه مكانها، وضعَتْ “نسمة” رأسها على ركبتى، وهى تنظر بعينيها جانبًا إلى المُتنمِّرة، مرَّرْتُ عينىَّ بتأنٍ على جسد “نسمة”، طولها متر ونصف تقريبًا، لها خطَّان متوازيان بطول ظهرها، وردى، وأخضر فاتح، وحراشف فضيَّة رقيقة بها درجة شفافة من الأزرق.
عادت “سلوى لطيف” وهى تحمل “بنفسج” فى قماطة بلون سماوى، وقفْتُ لأستقبلها، وضعَتْها فى حضنى وهى تقول: “انظر كم هى جميلة”، اقتربَتْ المُتنمِّرة أكثر، كادت تفعل شيئًا لولا أنَّ “سلوى لطيف” منَعَتْها بنظرة، قبَّلْتُ “بنفسج”، تأمَّلْتُ عينيها البنفسجيتين، وقلت: “اسمها يليق بعينيها”، “شكرًا لك مرة أخرى، الآن أستعيدها، ونستعد للعشاء”، قالت “سلوى لطيف”، ثم نظرَتْ إلى المُتنمِّرَة: “إما أن تساعدينى أو تجلسين فى مكانك هادئة”، نظرَتْ إلىَّ المُتنمِّرة، وقالت: “أنا لا أخدم المُتطفلين”.
جلسْتُ، انتفضْتُ على الفور فى مكانى بعدما نَبحَ كلب بجوار أذنى، التفَتُّ، لم يكن كلبًا، إنها “نسمة”، نًبحَتْ فى وجهى من جديد وهى تبتسم، ضحك “ظريف”، وقال: “نسمة ماهرة فى تقليد الأصوات”، انتقلَتْ “نسمة” بين ساقى، قلَّدَتْ مواء قطة صغيرة، وابتسَمَتْ، قلَّدَتْ صوت الرعد، المطر، الريح، العصافير، “إنها تحاول إثارة إعجابك”، قالت “سلوى لطيف” من عند منضدة الطعام، سمعْتُ نفسى أقول: “هذا رائع، نسمة أثارت إعجابى فعلاً”، لكنى فى الحقيقة لم أقُل شيئًا مِن هذا، كانت “نسمة”، قلَّدَتْ صوتى بالضبط، ابتسمْتُ، وقلتُ لها: “كيف فعلتِ هذا؟ إنه صوتى”، قال “ظريف”: “أعتقد أن الأمر بالنسبة لها أكثر من محاولة لإثارة إعجابك”، مسحْتُ على رأس “نسمة” بينما ذيلها يُدغدغ ساقى.
“تفضَّلوا”، قالت “سلوى لطيف” من عند منضدة الطعام، ثم جاءت وخَصَّتْنى، وهى تقول: “تفضَّل يا صديقنا العزيز، أنت نجمنا الليلة”، لمحتُها وهى تُرسل إلى المُتنمِّرة نظرة تحذيريَّة.
جلسنا إلى منضدة الطعام، “نسمة” إلى جوارى، تأكل بذيلها، قطعة بعد قطعة، دون أن تُسقِط حَبَّة أرز واحدة، ثبَّتَتْ واحدًا من ورق العنب على طرف ذيلها، قَرَّبَتْها من فمى، وقلَّدَتْ صوت عصفور صغير، ابتسمْتُ، أكلْتُها، وقلت: “شكرًا ‘نسمة’، لكن اهتمِّى بنفسك”، قالت “سلوى لطيف”: “لا تكسر خاطرها، دَعْها تفعل ما تريد”، ضربَتْ المُتنمِّرَة بيدها على سطح المنضد ضربة محسوبة، وقالت: “هل سنأكل هنا، أم نقضيها فى حركات سمجة”، نظرَتْ إليها “سلوى لطيف”، وقالت: “ركِّزى فى طبقك جنة”، ابتسمَتْ بتلميح، وأضافت: “أو ابحثى لنفسك عن تمساح يُدَلِّلك”، قلتُ وأنا أنظر فى عينى المُتنمِّرة: “التماسيح لا تتوائم مع الأناكوندا”، “لكنها تتوائم مع الذئاب”، قالت المُتنمِّرة وهى تشير إلىَّ بذقنها، قلت: “الذئب حيوانى المُفَضَّل، وبالمناسبة، الذئب أحد أروع العُشَّاق فى العالم”، “هذا صحيح جنة، ابحثى لنفسك عن رجل ذئب”، قالت “سلوى لطيف”، نظر “ظريف” إلى “جنة”، وقال: “جنَّتُنا الجميلة تستحق أن تعوى لأجلها كل الذئاب”، مَدَّ يده ليضغط على يد “سلوى لطيف” فوق المنضدة بجواره، نظرَتْ إليه المُتَنَمِّرة، هدأتْ، ابتسمَتْ، وعادت إلى طبقها.
لم تتوقف “نسمة” عن إطعامى، ولاحظْتُ أن لها ابتسامة لطيفة.
“كان عشاء لذيذًا”، شكرْتُ “سلوى لطيف”، قالت لى: “عليكَ أيضًا أن تشكر ‘نسمة’، اهتمَّتْ بك جيدًا”، ابتسمَتْ ومرَّرَتُ يدى على رأسها، انقلَبَتْ على ظهرها، انكشفَتْ بطنها المائلة إلى الحُمْرَة، نظرْتُ إلى “سلوى لطيف”، ابتسمَتْ وفتحَتْ يديها للهواء، حرَّكَتْ “نسمة” أقدامها الأربعة بشىء من العصبية، مرَّرْتُ يدى على بطنها، هدأتْ وصدَرَ عنها صوت غمغمة، وفى اللحظة التى شعرْتُ فيها بشىء غريب قالت لى المُتنمِّرة: “أراهن أنك تشعر بشىء تجاهها”، أَبعَدْتُ يدى عن “نسمة”، ضحكَتْ “سلوى لطيف”، وقالت: “لا تَلُمْ نفسك، اُنظر كم جميلة ومثيرة، أؤكد لك أنها لم تفعل هذا مع أحد من قبل، الفتاة جُنَّ جنونها”، نظرَتْ إلى المتنمِّرة: “وأنتِ؟ لن تفعلى شيئًا؟ ستبقين مكتوفة الأيدى؟”، ضحكَ “ظريف” وقال: “سلوى لطيف تضرب فى جميع الجهات”، نظر إلىَّ وقال ليُنقذ العالم: “ما رأيكَ أن نشرب القهوة فى المكتبة؟”، “طبعًا”، قلتُ ونهضْتُ، “كيف تُفضِّلها يا صديقى؟”، سألَتنى “سلوى لطيف”، قلت: “بدون سكر، شكرًا”.
دخلنا المكتبة، واسعة، أكبر من مجموع المساحة التى رأيتها فى البيت، مكتب خشبى فى زاوية، الجدران مُغطَّاة بأرفف تتراصّ بها الكتب، استاندات صغيرة تقف منفردة، فوانيس على شكل كُتب مفتوحة مُوزَّعة فى الأركان، ويصدر عنها نور ناعم، مقاعد بلون أزرق داكن، وهناك مساحات ستحتاج أن أقترب منها أكثر لأعرف ما بها، “هل كنتَ تحلم بدخول مكتبة مثل هذه؟”، قالت لى المُتنمِّرة وارتفَعَتْ عن الأرض مترًا، نَقَلْتُ عينىَّ إلى الكتب وقلت: “فى الحقيقة كنتُ أحلم”، “أهلاً بك فى حلمك”، قال “ظريف”، ونظر إلى المُتنمِّرة: “انزلى جنة، لا تتباهى”، قلتُ له: “هل تسمح لى؟”، وأشَرْتُ إلى الأرفف، أومأ بابتسامة، لمَحْتُ المُتنمِّرَة تعود إلى الأرض وأنا أتجه إلى الكتب، روايات، قصص، أشعار، علوم، تاريخ، فلسفة، سمعتُ “سلوى لطيف” من خلفى: “أعجبكَ شىء؟”، استدرْتُ إليها، قلت: “إنها مكتبة حلم”، مدَّتْ يدها لى بفنجان القهوة: “ظريف يقضى هنا معظم وقته”، “هذا طبيعى”، “عمله قارئ، هوايته ومهنته، أعنى أنه يكسب رزقه بالقراءة”، “كيف؟”، “يستعمل هذه القراءة ليجعل العالم أفضل”، نظرْتُ إلى “ظريف” أستفهم منه أكثر، سألتنى المتنمِّرة من مكانها، وبيدها قهوتها: “وماذا تفعل أنت لتكسب رزقك؟”، سدَّدَتْ إليها “سلوى لطيف” تلك النظرة، وقالت: “لا تسألى”، ولأول مرة أرى المتنمِّرة تسحب عينيها إلى الأرض، كان ذيل “نسمة” يتسلَّق ساقى بإصرار.
“سلوى لطيف شاعرة”، قال “ظريف”، نظرْتُ إليها مبتسمًا، أشاحت بيدها، وقالت: “لى ديوان واحد فقط، اسمه، الموسيقى تجلس على ركبة الشِّعر”، كَرَّرْتُ العنوان: “الموسيقى تجلس على ركبة الشِّعر، مختلف، هل يمكن أن أسمع منه شيئًا”، هَزَّتْ رأسها: “امم، ربما فى زيارة أخرى”، “من فضلك، أُحب أن أسمعكِ فعلاً”، سحبَ “ظريف” كتابًا من أحد الأرفف، اتجه به إلى “سلوى لطيف” وهو يقول: “لا تكونى خجول، اقرأى لنا شيئًا”، أَمْسَكَتْ بذراع نظارته، رفَعَتْها بطريقته عن عينيه، ونظرَتْ فيهما عن قُرْب: “أَعشق الأزرق”، “لا تُغيِّرى الموضوع”، قال “ظريف”، “أنت لا تستسلم يا أزرق العينين”، أعادت نظَّارَتَه مكانها، نظرَتْ إلى ديوانها، ابتسمَتْ، أومأتْ وأخذَتْه منه، فتَحَتْه، مرَّرَتْ عينيها بين صفحاته، قال لى “ظريف”: “يمكننا أن نجلس”، جلسنا متجاورَيْن على فوتيه قريب، لمحْتُ المتنمِّرة إلى الخلف فى زاوية خافتة الإضاءة، كانت “سلوى لطيف” واقفة على بُعْد خطوات، تنظر فى ديوانها، انتظرَتْ حتى سكَنَ كل شىء، قالت دون أن ترفع عينيها عن أشعارها: “قصيدة عنوانها ‘بقدَمَيْن وحزمة أجنحة’، وبدأتْ، تتحرك “سلوى لطيف” بخطوات هادئة، متوَحِّدة، كأنها تمشى داخل قصيدتها، أداء صوتى خفيف، بسيط، روحها تقرأ أمامنا، كلماتها تُعانق العالم، تحلم لنفسها معه، وتحلم له معها، عندما انتهت، ظلَّتْ تمشى كأنها داخل صدى قصيدتها، طلبْتُ منها قصيدة أخرى، نظرَتْ فى ديوانها، وقالت: “موسيقاى الحزينة”، رسَمَتْ بكلماتها كل الدرجات البينيَّة للَّون الأزرق، عندما انتهَتْ، أغلقَتْ الديوان، قلتُ لها: “من فضلك أَبْقِهِ مفتوحًا”، التفَتَ “ظريف” إلى المتنمَّرة فى زاويتها، وقال: “هل يمكن أن تعزفى على الكمان بمصاحبة سلوى لطيف؟”، وَجَّهَ كلامه إلىَّ: “جنَّة عازفة موهوبة فى فرقة مستقلة”، نظرْتُ إليها، رأيتُ عينيها تلمعان بخفوت، أظنُّ أنها اعتقدَتْ أن ما تراه فى عينىَّ دهشة، الحقيقة أنها كانت لمسة من سعادة أنا نفسى فوجِئتُ بها، قلتُ لها: “من فضلك”، مَدَّتْ يدها إلى منضدة دائرية من زجاج أزرق شفاف، فوقها كمان مسنود بطريقة فنيَّة، بدَتْ المنضدة مُخَصَّصَة له، التقطَتْه “جنة” وجاءت لتقف جانبًا على مسافة قريبة من “الموسيقى تجلس على ركبة الشِّعر”.
قرأتْ “سلوى لطيف” أكثر من نصف الديوان، كانت “جنة” تعزف بحساسية، كأنهما معًا قصيدة واحدة، تُتَرجم القصائد إلى موسيقى، أو تساعد القصيدة فى التعبير عن مشاعرها، أو أنه الشِّعر من يساعد الموسيقى، تتوقف عن العزف عند كلمات مُعَيَّنَة فى صياغات بذاتها، فتبقى المفردَة عارية، كأنها جزء من روح العالم مكشوفة، رأيت الموسيقى تجلس على ركبة الشِّعر لبعض الوقت، ثم ينام الشِّعر فى حضن الموسيقى لبعض الوقت، يتبادلان هنا كل مشاهد الحب.
تمنَّيْتُ ألا ينتهى الشِّعر وألا تنتهى الموسيقى.
قبل أن نغادر المكتبة، طلبْتُ من “سلوى لطيف”: “إذا كانت هناك فرصة لتهدينى نسخة من ديوانك”، ابتسمَتْ: “طبعًا”، جاءت بقلم من سطح المكتب، وعادت إلىَّ: “اسمح لى أن أكتب لك إهداء”، أهدتنى النسخة التى قرأتْ منها، وكتَبَتْ: “إلى معشوق التماسيح، هذه بعض موسيقى روحى، أتمنى أن تلمس روحك.. سلوى لطيف”.
كنا بعد منتصف الليل، وكانت “سلوى لطيف” تستأذن من وقت لآخر كى تُرْضِع “بنفسج”، قلتُ: “أنا أشعر بإحراج، لا أعرف كيف مضى كل هذا الوقت معكم؟”، قالت “سلوى لطيف: “نحن أيضًا لم نشعر بالوقت، صُحبتُك لطيفة”، قال “ظريف”: “وما زال الليل طويلاً”، كانت “جنة” فى مقعد بعيد، قلقة أو هادئة، لا أعرف، و”نسمة” تُمرِّر ذيلها على يدى.
طلبْتُ أن أُودِّع “بنفسج” قبل أن أغادر، صحبَتْنى “سلوى لطيف” إليها، كانت نائمة فى فراش أبيض، تغطيه سماء زرقاء بها عصافير مُلوَّنة، قبَّلْتُ “بنفسج” فى جبينها، مرَّرْتُ أصابعى على ذراعها ويدها، فأمسكَتْ بطرف سبابتى للحظة، ابتسمْتُ، وقلتُ لها: “حياة حلوة لكِ بنفسج”.
عند باب البيت، “سلوى لطيف”، “ظريف”، “نسمة”، وأنا، كانت “جنة” ما تزال فى مقعدها البعيد، تنظر فى اتجاه آخر، “أنت الآن واحد من أسرتنا الصغيرة، سنحب أن نراك ثانية، ‘بنفسج’ ستحب أن تراك”، قالت لى “سلوى لطيف”، “يُسعدنى أن أكون واحدًا من أسرتكم، سأحب أن أراكم جميعًا”، انتبهْتُ أنى لم أذكر اسمى، أو أىّ شئ عنى، قلت: “أنا لم أُعرِّفكم بنفسى، حتى اسمى..”، قاطَعنى “ظريف”: “لا تقُل شيئًا، من عادتنا ألا نسأل أحدًا عن أىّ شىء فى المقابلة الأولى”، ابتسمْتُ: “هذا مريح بطريقة ما”، ابتسم “ظريف”: “سنلتقى قريبًا يا صديقى”.
تبادلنا أرقام الهواتف.
“انتظر”، قالت لى “سلوى لطيف”، نظرَتْ إلى “جنة”، وقالت: “ألن تودِّعى صديقنا، يا عازفة الكمان الموهوبة”، نظَرَتْ “جنة” إليها، تمَلْمَلَتْ بمكانها، نهضَتْ، مشتْ إلينا بخطوات بطيئة، وقفَتْ بمواجهتى، وقالت: “تعرف؟”، زَمَّتْ شفتيها الرفيعتَيْن، نظرَتْ إلىَّ من أعلى لأسفل: “رغم هذا كله، فيكَ شىء يُعجبنى”، قلت: “تعرفين؟”، نظرْتُ إليها من أعلى لأسفل، لكن بطريقة الإعجاب: “رغم هذا كله، فيكِ شىء لا يعجبنى”، ابتسَمَتْ، وأشاحت بيدها، ابتسمْتُ، وقلت: “عَزْفُكِ فى المكتبة كان جميلاً”، تأمَّلَتْنى لحظة، وقالت: “بنفسج اسم جميل، أحببتُه بمجرد أن سمعته، غاظنى أنى لم أَخْتَرْه”، قلت: “ما رأيكِ أن نتقابل بوسط المدينة، ونحاول أن نكتشف الشيئين، الشىء الذى لا يعجبنى فيكِ، والشىء الذى يعجبكِ فىّ”، قالت: “لدىَّ حفلة غدًا، اِحضرها، ونرى ما يحدث”.
ضحكَتْ “سلوى لطيف”، وقالت: “هذا ما أتحدث عنه، البداية المُتَنَمِّرة تتحوَّل إلى قصة حب”، قالت لها “جنة”: “أىّ قصة تتحدثين عنها؟”، “القصة التى أراها تحدث الآن”، قالت “سلوى لطيف”، ضحكَتْ، وأضافت: “كنتُ أعرف أنها ستكون ليلة رائعة”، قلتُ وأنا أنقلُ عينىَّ بينهم: “فعلاً، كانت ليلة رائعة، أشكركم جميعًا”، نظرْتُ إلى “نسمة”، رأيتها تقف على ذيلها وتنظر إلىَّ، ابتسمْتُ لها، وقلتُ: “فرصة سعيدة ‘نسمة’، وشكرًا لك”، صَدَرَ عنها صوت رقيق كأنه فى مسافة بين الغناء والموسيقى.
“هذا صوتها الحقيقى، نادرًا ما تستعمله”، قالت “سلوى لطيف”.
فتَحْتُ ذراعىَّ لأجل “نسمة”، فتَحَتْ لى أذرعها الأربعة، حضنْتُها، وحضنَتْنى.
فتحَ لى “ظريف” الباب.
غادَرْتُ، التفَتُّ إليهم بعد عِدَّة خطوات.
رأيتهم جميعًا فى فتحة الباب: ظريف، سلوى لطيف، جَنَّة، ونسمة.
لوَّحْتُ لهم بديوان: الموسيقى تجلس على ركبة الشِّعر.
……………………
قصة من: “كتاب الشياطين”.