ناصر الحلواني
الشمس في كبد السماء ناصعة، تمتد خيوط نورها الفاره إلى جنبات الأرض، تسكب حرارتها الصيفية على أجساد ماضية إلى رزقها، يلوذون ببقايا ظلال ذابت على وهج الأرصفة الضيقة، يخوضون في كثافة الغبار الراكد على أنفاسهم، يحمله الصهد الصاعد من الطرقات، ويمرون إلى جوار السور الحديدي المطرَّز بتشاكيل أرابيسك صلبة، يرون الحديقة الشاسعة خلفه، منظومة في أبهة ملكية، وفي صدرها ينهض المبنى الفخم، تكسو واجهته ألواح من زجاج داكن يحول بين النهار الناصع وحرارة الشمس الفائرة وبين التسلل إلى فضاء الداخل، فيسيلا على ملاسته اللامعة، مزاج من صهد ونور، يسقطان إلى أرضية المدخل الفخم، تردهما بلاطات الرخام الصقيلة، ببرودة حجرية، عن المدخل الفسيح، تزين جنباته نخلات عقيم، لا يطولها الغبار المتسكع، وصفين من أعلام هامدة من حر اليوم، لا هواء يرفعها، ولا تقدر على الرفرفة، فسكنت أنسجتها الملونة مستسلمة، كل على ساريته، المنتصبة إلى السماء، كرمح خشبي مصقول القناة، لا نصل له.
وفي الداخل، كانت الستائر القطيفية الرهيفة، تنسدل خلف الزجاج المنصوب للشمس، تحول بين ما تسرب من نور أو حرارة وبين المروق إلى فضاء القاعة الدائرية الشاسعة، كقبة سماوية، تتماوج الستائر متمتعة بطراوة الهواء المبرد، ينساب عليها من فتحات دقيقة مستورة في جنبات القاعة العالية، وبضوء المصابيح الصاخبة، المنثورة في الأنحاء، فلا يعود في المكان ظل.
وعلى المقاعد المخملية الوثيرة، المرصوصة بعناية خلف المنصة الدائرية، كانت وجوه ناصعة، ناعمة الوجنات، لبشر خرجوا توا من غرف راحتهم الباردة، يمدون أكفا رقيقة الحركة بأسلوب دبلوماسي رائق، يتصافحون بأناقة تعلموها، ويلتقطون حبات الفاكهة الشهية الألوان، وزجاجات المياه المعدنية، وأوراقا مسوَّدة بتقارير عن أرض وبشر، وحصار، وحطام بيوت، وأطفال صرعى، وجدار، يقلبونها بتأن ملحوظ ويتبادلون التحايا بابتسامات منمقة.
وأمام كل منهم كانت سارية قزمة، تحمل علمه المصنوع من معدن جامد، لا يحركه شيء، وباقة زهور مقطوفة توا، منسقة بعناية فائقة، تنثر ورداتها الزاهية آخر لحظات حياتها في وجوههم الشمعية، وتسكن محتضرة في جمال يغري بعضهم بالالتفات إليها ولا يلبث أن ينصرف عنها لتزين بموتها الصامت مقام حضورهم.
ويكونون إلى كلامهم، وحماسهم الإيقاعي، وتنديدهم الأبدي وتصفيق عابر، لخطاب ثائر عن أرض هناك، لا تجد من يرفع عن وجعها الألم.
وهناك، في الأرض غير البعيدة، تحت حرارة شمس اليوم ذاته، يهرول صبي يافع، متنفسا الغبار الساخن، يتعثر فوق حطام البيوت المفرودة في الطرقات، يركض، لا تُدهشه آثار الدم على الحيطان والأبواب وتراب الطريق، يهرع، إلى الخوذات المتترسة بخوفها، يقعد تحت جدار منقوش بآثار طلقات، يُخرج مقلاعه، يضع في قلبه قطعة حجر يجيش بالقوة، وينتصب كنصل رمح حاد، يرفع المقلاع فوق رأسه، يحوم به سريعا، ويطلقه، صارما.
وينطلق تصفيق حار، في القاعة المخملية المبردة، لا يحرك غبارا فلا غبار، ولا تأبه له الستائر المنسدلة على خمولها، ولا الوردات الذاهبة في موتها.
ويخرج الجميع هادئا، في وقار. وعبر الباب الفخم، يمرق كل منهم سريعا إلى رحم سيارته الداكنة، يحاذر أن تدركه لفحة من قيظ النهار، أو يدركه الغبار السابح في النور الحار لشمس اليوم.
…………….
* اللوحة “أمهات في الانتظار” للفنان الفلسطيني نبيل عناني