جهة أخرى بين المدينة والريف. مثلاً يؤرخ ياسر عبد اللطيف في روايته “قانون الوراثة” لهجرة من حي عابدين ـ وسط العاصمة ـ إلى ضاحية المعادي دون إهتزازات طبقية عنيفة، فيما ينشغل مثلاً عدد لابأس به من هذا الجيل بتأريخ الجيل الثاني لمهاجري أسر الستينات الشهيرة؛ لدينا منصورة عز الدين تتأرجح في إغتراب بنت القرى في إكتشافها المدينة تحت أعباء الوراثة العالية الثقيلة لأسرة ريفية برجوازية قديمة، ويؤرخ أبراهيم فرغلي لمدينة وسيطة في مدن الدلتا الغنية، فيما يستمر متحف اكتشاف الجذور مفتوحا على مصراعيه في أعمال خالد إسماعيل وأحمد والي، بمعنى آخر لبثت القاهرة في نسخها المتحولة بدءاً من التسعينات خاصا في أحياء الطبقة العاملة التقليدية (حلوان ـ شبرا الخيمة) بعيدة عن مرمى الرواية الجديدة، بعيداً عن رصد تلك التحولات العنيفة لانهيار دراماتيكي أصاب أجيال جديدة تنتمي لحراك طبقي نازل من جلجة التركة الضخمة لانهيار القطاع العام الحكومي، حيث تنازلت الدولة في إطار تكيفها الهيكلي مع متطلبات السوق والانفتاح عما تبقي لها من نموذج دولة الرفاه الستينية؛ ويأتي عمل “وقوف متكرر” ليقدم عالم هذا الحراك النازل ممثلاً في أسرة بسيطة تتجول عبر عين الراوي، الشاب المراهق، بين نموذجين للتمدد الديموغرافي للقاهرة، بين حي شبرا الخيمة العمالي ذي التركيبة المنتمية لقاع الطبقة العاملة، وحي مدينة النهضة الصحراوي الذي صممته الدولة على هيئة مساكن شعبية فقيرة في أقصى صحراء شرق القاهرة لاستيعاب تدهور البنى التحتية في أحياء الطبقة العاملة القديمة، من الجحيم إلى الصحراء الكوزموشعبية، من هدأة نمط القيم المستقرة إلى وحشة إكتشاف الخليط المنهار الذي يتداعي في صحراء معزولة، و تقاطعات تلك الانتقالات تجد ذروتها الأولى في محاولة الراوي المراهق الانفصال عن منزل العائلة عائداً للسكن في حجرة كئيبة بالحي القديم، هذا الخيار كان يراهن مثلاً على إبتعاد حقيقي حين بدأ الشاب جولة بحثه من قلب وسط البلد، لكن تواضع قدراته المالية يعيده إلى نقطة الإنطلاق الأولي (منطقة أحمد حلمي الشعبية بحيه القديم، حي شبرا)، منذ اللحظة الأولى يدخلنا العزب في أزمة شاب مراهق يبحث عن مكان خاص يصلح لتحويل فنتازياه الايروتيكية إلى واقع ولو للحظات مع إمرأة تعاني من إحباط الزواج الفقير، هذا التأرجح بين جغرافيا الحي القديم خروجاً، والحي الجديد إغتراباً والعودة إلى الحي القديم هروباً، هو ركن الزاوية المكانية التي يصبح الوقوف المتكرر عبرها وقوفاً إلزامياً، دوران في فراغ تؤسطره محاولة البطل التمرد على هذه الجغرافيا بشراء سيارة فيات 128 خربة، علّها تساعده في تمرده على سياقه الاجتماعي. سيارة ربما تصلح للحظات مختلسة من المتعة البورنوغرافية مع داعرات يمارسن أعمالهن في شوارع مدينة نصر ـ الحي الراقي غير البعيد جغرافياً، وتبدو ضفاف السرد محكومة بتلك الإقامة الجديدة ووسيلة الارتحال الخربة، كلما حاول البطل الابتعاد بسيارته التي إشترك مع صديق له فيها، بعد مشاريع كثيرة مجهضة يعيده مرض والده أو العلاقة العاطفية الطفولية مع إبنة خالته إلى مساكن النهضة، يحاول هو التنصل دائما من تلك الإرتباطات القديمة مفضلا البحث عن مصير جديد دون أي مقدّرات اقتصادية أو اجتماعية تخرجه من مسار الارتباط العالي، حيث العائلة تهوي في قيعان الحكمة المصرية التقليدية بالصبر على البلاء حتى الموت المجاني، تاريخ هذا المنحى الاستقلالي الطائش يتوازى مع الانهيار الأخير لوالد البطل وهو يصارع موتاً مؤكداً، هذا الأب المتعاطف مع تمردات ابنه يبدو وحده الدعامة الرئيسية لهذا العالم الجديد، بتواطئه الشفيف وتشجيعه الصامت علّه ينقذ ابنه من تكرار المصير السيزيفي. الابن يتشكل مسار تجواله الهذياني من شذرات قاع المدينة، مدينة جديدة لم تقدم من قبل، سمسار يمارس سطوة غير مبررة على الشابين الباحثين عن غرفة، يتحولان تحت وطأة البحث عن الغرفة إلى تابعين منومين ينفذان مشيئته، صاحبة الغرفة بذيئة اللسان والمغوية بتهتك عنيف، ميكانيكي السيارة الذي يعيش في حكاية طويلة عن غزواته الجنسية المتخيلة لبنات الطبقة العليا، فيما البطل بين نصف مصدّق ومتمنٍّ لصدقية الحكاية علها في لحظة تكون حكايته الحقيقية، داعرتان من حطام المدينة إحداهما طالبة جامعية تمارس الدعارة بزي وكشكول المحاضرات المضموم للصدر، بشرط الحفاظ على غشاء بكارة يبقى وسيلتها الوحيدة للتفاوض مع عريس مستقبلي مشته، والأخرى تستعير أداءها من أفلام السبعينات، أكثر حرفية وقد قطعت المشوار إلى آخره. إمرأة المترو التي خاض البطل معها نضالات واسعة لمجرد أن يصطحبها إلى غرفته أخيرا، دراما عنيفة لتسكع طويل بحثاً عن العمل وأحلام خائبة بإمكانية الثراء فجأة، إنها مرثية طويلة لجيوش عاطلة ستراها تهيم على وجوهها في فضاء وسط العاصمة أو على مقاه الأحياء الشعبية، يمارسون ذلك النضال المحموم اليومي للتعلق بقشة الحياة، محاولات محمومة للنجاة من مصير محتوم هو السقوط في فراغ طاحونة المدينة التي لا ترحم؛ مسيرة البطل أقرب لتلك المسيرات التي توشك في كل لحظة على السقوط، لكنها تستمر فقط بمصادفة لا تخضع لأي قانون. كان الراوي إذا أقرب إلى إستكمال هذا التيه لكنه استطاع إحكام تأطيره لهذا الفاصل القصير في حياة البطل حين دفع بقدره إلى لحظة مفصلية تتقاطع فيها الأحلام مع الواقع؛ إقترابه أخيراً من تجربة جنسية حقيقية، تنهيها بغرابة زيارة خطيبة المستقبل وموت الأب يعيدانه لحمل صخرة الحبل السري. مشاهد خفيفة من تتابع إجراءات الوفاة يحولها الراوي إلى متتالية ساخرة من المفارقات. غزله للممرضة ومعركة امه مع جارة قديمة كانت تغار منها وقد إلتصقت بركب الأسرة في المستشفى إثر إحتجازها لعمل عملية البواسير، تفاصيل نقل جثة الأب وقد أصاب الأبن لمسة من الطيران فوق تداعي عالمه، تنهار قصة السيارة بعد أن يبلغه صديقه بنيته في إتمام خطوبة مفاجئة ومن ثم ضرورة فض الشراكة في العربة، جلسته في العزاء وهو يراقب في نهاية الرواية طفل يدلي لعبة مربوطة بخيط من بلكونة مواجهة، وكأن جلسته تلك ستدوم إلى الأبد. نهاية تشبه إلى حد كبير لقطة الختام البديعة لفيلم “الوعد” لشون بين، حيث يجلس جاك نيكلسون يهذي فوق أرجوحة طفلة منتظرا قدوم الشبح الذي طارده طوال الفيلم.
محمد صلاح العزب في عمله القصير البديع ـ (97 صفحة) ـ يقدم صفحة جديدة في سرد مدينة وعالم القاهرة التي ربما لا زال الحديث عنها حكراً على تحقيقات صحافية أو أبحاث إجتماعية. قاهرة مجهولة وبعيدة تحتاج إلى جيل كتابي جديد، والعزب سيكون بعمله ذلك مكتشفها الأول.