فكري عمر
يمضي وسط الناس بذاكرةٍ ممتلئة، لا تُسقِط شيئًا ولا تنساه. يضعه ذلك الفيضان الغامر للمشاهد والأصوات القديمة في مواقف خطرة. كان في إحداها مدعوًّا إلى حفل زِفاف، تقدم إلى «كوشة» العروسين، وأمام عينيه يتداخل مشهدان: شابٌ ألقٌ يضحك مِلء وجهه، والثاني للشاب نفسِه قبل عامين، وهو يبكي بمرارةٍ فقد والده، احتضنه مهنئًا، لكنه همس قرب أذنه لشدة ارتباكه: «قلبي عندك، شد حيلك». لولا أن أصوات الزغاريد والأغاني وتوقيع الراقصين بالأيدي والأقدام كان عاليًا، لعُد ما قاله فألًا سيئًا للعريس وعروسه الفَرِحة. هيأتها بالحي وهي صغيرة ماثلة أيضًا أمام عينيه: طفلة عنيدة، دائمة البكاء، والصراخ.
تراجع إلى مكانه مُشهرًا ابتسامة وديعة فوق ملامحه، ذلك سلاحه المضمون؛ للهرب مما أفلته اللسان من كلمات رغمًا عنه. هذه أقل حوادثه إزعاجًا، فهو يستطيع ممازحة العريس بعد ذلك، سيقول إنه نبهه إلى صدماتٍ وخيباتٍ للآمال تصاحب الزواج أحيانًا.
في مواقف أخرى كاد يُحتجز في السجن مدفوعًا باتهامات لا تخطر بباله، لكنه يحاول أن يزيحها قليلًا عن رأسه دون جدوى. كلما وقف عند أحدٍ يعرفه ولو لثوانٍ قليلة، فإنه يبصره اثنين على الأقل، وربما ثلاثة، أو خمسة من سنواته المتوالية.
كثيرًا ما تساءل بينه وبين نفسه: هل الأرق الدائم هو سبب ذلك الخلط؟ لقد سمع أكثر من مرة عن فضائل النوم الطبيعي: يُصفِّي العقل، فيستيقظ الواحد منا في الصباح نظيفًا من كل موقف، أو إزعاج هامشي. كان نومه مجرد ضيف خفيف يأتي بالقطارة: قليلًا، ومتقطعًا. مع ذلك كان يستيقظ شاعرًا بخلو البال، وبجسمٍ نال ما يحتاج إليه من الراحة، وعقلٍ تسلى بعدد كبير من الأحلام، لكن ذلك الإحساس الحلو بالانتعاش لا يستمر طويلًا، إذ ينقطع فجأة وبعد دقائق قليلة من اليقظة..
حينما يزيح غطاءه، ويضع قدميه على الأرض يعود إلى طبيعته. يشطف وجهه بالماء، ثم يتحرك بنشاط في شقته؛ ليطالع وجهه في المرآة، فتصدمه ككل مرة. إنها لا تكتفي بوجوهه المتعددة السابقة، بل تضيف له وجهًا جديدًا بداخلها مع هذا اليوم الجديد. يدق عليها بقبضتين هينتين؛ كي لا تنكسر. كيف يستوعب ذلك السطح الزجاجي الأملس هذا العدد الضخم من شخصٍ واحد؟! يفر نفوسه بعينيه كأنه يفر شاشة هاتفه المحمول. يشاهد نفسه طفلًا، وصبيًّا، ورجلًا. تفاجئه أيضًا صوره وسط آخرين كان بينهما ودٌّ ما، أو أخريات كان له معهن جولات من العاطفة، أو العلاقات الحميمة. إنها فضائح بلا شك، فهو لا يحب أن يطالع أسراره أحدٌ من الناس، لذا فالمرآة رفيقة خارقة للمألوف؛ تعكس ذاكرته من الداخل للخارج، وفي الآن ذاته تحفظ سِرّه المهول داخل حدود حجرته؛ لأنها صامتة، وهذا ضرر أخف مما لو كانت ذات معجزة مزدوجة: تراه، وتتحدث عنه من وراء ظهره.
الحقيقة أنها أكثر من سطح لامع بالنسبة إليه، هي رفيقة عُمر، أصر على الاحتفاظ بها من ميراث أبويه؛ لأنه طالع فيها حقيقة حياته منذ الطفولة. ربما لهذا السبب بالذات يتحاشى النظر إلى مرايا البيوت، والمحلات، والسيارات.. من يضمن له ألا ينقسم فيها إلى كثير من الصور أمام الناس بعدد أيامه التي عاشها، ووعى لها؟! من يضمن ألا يبصر أحدٌ حقيقة أمره، فينبه الآخرين متهمًا إياه بأنهم أمام شيطانٍ حقيقي، أو ساحرٍ شرير؟!
جرَّب النوم بالمهدئات، والنتيجة هي نفسها. جرَّب سؤال طبيب نفسي ذكر له أمراضًا عديدة تشبه ذلك، لكنها ليست بهذا القدر من الدقة والاستمرار. فحص عينيه عند طبيب كبير، فكانتا سليمتين بلا أي انحراف في المقلتين. لام نفسه في النهاية، على البوح للآخرين، ولو كانوا أطباء، بهذا الأمر بعد تأكده من سلامة أعضائه.. سِرّ ذاكرة نشطة أكثر مما ألفه أحد من البشر، وهذا عذاب فوق الاحتمال.
أخذ يُدوِّن مما بداخلها من مواقف على أوراقه، لكن تلك المشاهد أو غيرها لم تسقط بالكتابة، ثم تمزيق ما أفرغه والخلاص منه، عكس ما تخيل، شعر بأن الكلمات طرقات متوالية على عش دبابيرَ كامن، كلما جذب صورًا نشطت أخرى؛ حتى يُحاصر في ساعات التدوين بطنين لا يرحم من المشاعر والوجوه، ثم يسكن كل شيء مرة أخرى بالداخل دون أن يُمحى تمامًا، يظل محتفظًا بقوامه وحدوده أيضًا دون أن يمتزج بأخرى، فتنتج معرفة أو صورة جديدة تربط بين القديم والحديث.
يذكر تفاصيل بلدته والشوارع التي مشي بها طوال تاريخه الذي عاشه.. في طفولته كانت هادئة، بيوتها قصيرة، ووجوه أهلها ساكنة أليفة. في صباه صارت مزدحمة بآلات ومواد البناء، والوجوه المشرقة بالأمل. في رجولته غدت لا تحتمل بتلك الوجوه الجهمة، السارحة أحيانًا في أفكارها، والبيوت العالية، والمحلات الزجاجية الكاشفة لكل شيء.
أيُّ ألم هذا الذي يشتكي منه شخص واحد فقط على ظهر الأرض! ما سمع ولا قرأ شيئًا كهذا. يمضي بين الناس حذرًا من الحديث والتعليق أغلب الوقت، بعينين غائمتين من كثرة الأحداث، وعبء الذكريات الحية، بوجه يختلط فيه أحيانًا الابتسام والحزن دَرَّب نفسه عليه.
وظلت تسليته الأجمل، حين يجلس وحيدًا، أن يطالع السماء الهائلة طويلًا، تلك التي يُجلّها ويهابها الآخرون، فيما يسيطر عليه إزاءها إحساس مُربك ما بين الشفقة والتساؤل والانبهار من كثرة ما تخفيه، أو تحفظه بذاكرتها.
…………………..
*من مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.





