وجهان يبكيان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ميمون حِــرش

استفاق هذا الصياح متأخراً كعادته، شكا من صداع مرير أحس بسببه بغثيان أثقل رأسه، وحول جوفَه كأساً مترعة من أصوات، غرغرتها تشي ببطن طاوٍ، عاصبٍ من إملاق..الأمور لم تسِرْ معه كما يجب منذ مدة، أشياء غريبة تأسره في الصحو، أما النوم فهو، بالنسبة إليه، كوجبة لحم يشتهيها دون أن يطالها، غَرْسُ تمنيه لم يثمر يوماً، ولا ليلُ حظه أقمر..واقعٌ مرير، رتيب اعتاده، بات يملي عليه أن يكون أحياناً فريسة لأفكار سوداء في كل وقت.. تلك حاله مذ صار يبحث عن عمل دون جدوى، المسكين يريد أن يظفر بما يبتغي كما ينبغي، لكن! من هو هذا المحظوظ غيره الذي حظي بهذا الشرف في زمن حقوق الحيوان؟ !.

    لا يحب الخروج في الصباح أبداً، لذلك لا يشغل باله به، وحيد في غرفته، يستمرئ وحدته، متناثر ككتب طالب جامعي عاطل من العمل، الجرائد من حوله مركونة كيفما اتفق، يبدو بينها مجرد شِلْو، عنوان وسطها ليس إلا.. متى قرأ كل هذا الشلال من الكلمات؟ بل متى كبر بهذا الشكل دون أن ينبهه أحد إلى أن الأيام كانت تتنخل من بين أصابعه دون أن يشعر ؟ من سماه؟.

    صورة قديمة لجده من أمه أمامه مباشرة، علقها في غرفته، على حائط مهترئ ومتصدع كما زمنه، وإذا كان لغرفته نفَس ما، فمن هذه الصورة، كانت أمه قد أوصته بها، فحفظ الوصية، وزاد على تعليقها عادةَ تقبيلها من بعيد إكراماً لذكرى أمه.

    هذا الصباح بدت له الصورة مائلة، وأن شيئاً ما فيها غير عادٍ، أمعن النظر فيها، حملق وحملق ثم رفع صوته قلد فيه تحريك فم عادل إمام وقال لجده:

حين تحس بأنك وحيد ومستوحش- مستشعرا المرارة- تعلم كيف تنصت لذاتك.. هه“.

سمع هذا الكلام من جده، وهو مراهق بعد..وهو الآن يكرره له، هل كان جده يحزر نهايته؟ وهل كان يملك فراسة ذلك الزمن الجميل التي يعدمها شيوخ اليوم ؟.. لو عاش جده وعرف خاتمته لقال مضيفاً:

في غياب الأهل، والأصدقاء، والأولاد تعلم كيف تنضج مع ظلك وحدك“.

الآن،هو، وحيد فعلا لكنه لا يستشعر المرارة التي تحدث عنها جده إلا حين تلفظه الأفواه كتنخيم، والأمكنة كمنديل “تييمبو” بعد الاستعمال، والأهل كشخص أجرب لمجرد أنه رجل جيوبه خاوية، رجل عاطل من هذا الزمن، ومن العمل أيضاً.

   داخل غرفته لا يعتبر نفسه وحيداً.. هناك هرته.. حسبه هرته تملأ عليه غرفته، حين ترسل نفسها على سجيتها بمواء يعتبره طقساً لا بد منه ويستسيغه يحس براحة داخلية تمنحه طاقة هو في حاجة إليها، قد يستغني عن السيجارة، لكن المواء لا بد منه، لو صرخ، لو أسمع صوته لمن لا يسمع، لو احتج لن يترجم كل ذلك سوى بمواء ؛ فكر:

  “لمِ لا يستعير الناس صوت القطط، وبدل الشعارات يخرجون إلى الشوارع وهم يموءون كقطط ضالة ،علهم يسمعون صوتهم في زمنٍ الصوتُ فيه صنفان إما يُشترى أو يُخرس..

 ما أكثر الذين يرفعون أصواتهم المزعجة، وهم ليسوا على حق دائماً، ما أكثر الأصوات في مملكة الصمت!.. بعضها لو استعارت بدل الألفاظ والشتيمة المواء لتغيرت أشياء كثيرة ربما.. من يدري…”.

 في غرفته يستمرئ مواء هرته، وحين تخرس هي الأخرى، ينقر على زر نفسه الحَرّى لتنساب منها بُرحاء وتنهداتٌ داخلية تطلع من الأعماق مرات بصوت، وأخرى على شكل تمتمات ثمَلة تبح في حلقه، وحين تحط على شفتيه تجف على فمه من فرط الترنح.

 في صغره طالما تحسس صدره ليسمع نبضات من قلب يأمل، ويشتهي. ولم يكن المسكين يعرف أن نهايته ستغير من حاله ليصبح مجرد قلب يشتكي..

سمع من جده وهو حد َث :

”  حين  تكبر تعلم كيف تنصت لذاتك “.

 لقد كبر الآن، ولم يعد يجيد غير رياضة تأمل هذه الذات، والإنصات لها، دأب عليها كمن يمارس رياضة ليلية كغسل الأسنان عند الأثرياء قبل النوم، أسنانه لا يكترث بغسلها، فهي أصلاً لا يعلق بها شيء مادام لا يأكل  أصلاً.

 في كبره حفظ وصية جده ، لكن عادة الإنصات لذاته لم تتقرر لديه إلا حين كرسته الهرة بشكل أفضلَ.

كانت الهرة قبالته ترمقه ساكنة..فيما كان هو لا يزال يتأمل صورة جده حين قال  بصوت عالٍ لكن بانفعال :

حين ينصت المرء  المسكين لذاته يصبح تعِساً بشكل أفضل يا جدي “.

 لم يتعلم هذا الكلام في المدرسة، ولم يقرأه في كتاب، و لم يرضعه من ثدي أمه، لكنه تعلمه من هرته التي تموء عنه كلما تمددت قبالته فيما يشبه لوحة لا ينقصها سوى إطارها، هو يدرك أنه جزء منها لذلك يعلقها في داخله دوماً، والناس، بالنسبة إليه، ما عادوا يرون، لذلك لا جدوى من تعليق اللوحات في الصالونات، ولم يعد أحد منهم يجيد السمع، لذلك اختار الصمت طقساً، وترك الهرة تموء عنه… تمنى: “لو كنتُ قطاً لأكثرت المواء، ولصالحت كل فئران العالم“.

ضحك من فكرته، وهزأ منها، لكنه حين التفت إلى هرته مسد على شعرها. كان يعتذر لها عن مجرد التفكير في انتحال صفة القطط.

الوحدة قاتلتُه، لا يشكو همها مع ذلك، لكن البطالة همه الحقيقي، أما الوحدة فمجرد مضادات حيوية لألم اسمه “تبخيس الذات”. هو وحيد ..لكن هل هو قوي؟!

إن الرجل الوحيد هو الرجل القوي”، سمع هذا الكلام مراراً، لكن ليس من جده هذه المرة، لكن ما أكثر ما قيل، ثم ماذا يملك المرء غير القول؟، وحتى حين يصمت كثيراً، فلو يـدرون كم يتحـدث مع نفسه في مونولوج داخـلي فيه إرسال لنفسه – كما هرته- على سجيتها.         

الرجل الوحيد هو الرجل القوي” لم يعد يتذكر أين قرأ مثل هذا الكلام، ولا أي غبي نقله عنه.. فقط ما يعرفه هو أنه هو وحيد ولكنه ليس قوياً، يداه واهنتان، لم تعدا صالحتين حتى أن تربتا على كتف حبيب..ثم أين هو هذا الحبيب؟ إذ لم يعد له في هذه الدنيا سوى اسمه الذي يظل أياماً طوالاً ولا أحد يناديه به.. ما جدوى الأسماء حين نعدم من يستعملها، في النداء على الأقل.هو وهرته وجهان يبكيان، هي تتمسد به، وهو يحدثها ويبثها شكواه، ويرتاح تماماً حين يفعل، يشبه في ذلك النجم الأمريكي روبير ريدفير في فيلم ” الرجل الذي يوشوش في آذان الأحصنة“.

 في غرفته حيث يضيع بين أشيائه القليلة وحين تخرس هرته لا ينقذه من التيه سوى تلفزة صغيرة من نوع فليبس بالأبيض والأسود (حتى التجهيزات أصبحت لها أسماء، وبسببها هي غالية جدا إذا ما قورنت بإنسان اليوم، فلو يدركون كم هو رخيص)..

 جهاز التحكم عن بعد في يده ينافس السيجارة التي يصبح شكلها في فمه مثل إشالة فوق حرف الظاء يرسمها طفل أعسر يتعلم الكتابة، وحين عليه أن يتنقل بين القنوات بنوع من الروتين ليس إلا- كمن يبحث عن شيء ما- السيجارة في دمه تقوم بالدور نفسه، في صدره تمور وتمور، ثم تخرج دخاناً يملأ الغرفة..  ويصبح لرائحتها الممزوجة من عرقه، وثيابه الوسخة، وبطانيته العطنة.. تلك الرائحة التي لا تعني سواه، بها يعرف نفسه، ولا أحد يعرفه لا باسمه، ولا برائحته.

 قيل له يوماً:

لم لا تتزوج، وتكمل دينك؟

أجابهم:

أحمق من يتزوج في زمن العولمة، وأكثر حمقاً من ينجب أولاداً“.

……….

*كاتب من المغرب

 

                                          

مقالات من نفس القسم