بثينة الدسوقي
الآن أنا كالريشة أو أخف، الآن أنا أملك كل وقتي وكل جهدي وصحتي ومالي.
الآن أنا أحيا.
امرأة في الخمسين ستحيا وستفرح!
صرخت بهذا قائلة بعد أن تفحصت جسده جيداً وأدركت أنه الموت.
صرخت لأعاقب نفسي على اللحظة الباهتة في الزمن، ثم ضحكت، ضحكت كثيراً
…
جمعن المرآة المحطمة وداوين وجهي الجريح.كُسرت المرآة وأنا أقذف وجهي فيها بكأس ماء، أما النسوة فقد ذهبن للإتيان بطبيب، ولإعداد القهوة، تشع أسنانهن البيضاء في لجة السواد
….
مات طفلي، مات عن خمس وعشرين عاماً، كنت أحممه كالمعتاد عندما لاحظت اصفرار وجهه، أنا وحدي، أزن خمسين كيلو جراماً وعمري خمسون عاماً، حملت طفلي الرجل إلى كرسيه ثم إلى فراشه، أفعلها كل يوم، أو كل يومين على الأكثر إن لم يسكب طعاماً على ثيابه، إن لم يحتلم، ولكن هذه المرة كان ثقيلاً، ثقيلاً.
صار وجهه أحمر وعلت حرارته وظللت جواره حتى لاحظت تلك العلامات.
في لحظة عدت إلى الذكرى الدميمة، الذكرى التي ظننت فيها أنها النهاية، عندما رأيته قطعة من اللحم البشري القليلة جداً انتهى حلمي في أشياء كثيرة ووددت لو أن الطبيب أخبرني أن هناك خطأ ما!
لم يأت الطبيب أبداً إلا لمواساتي، وعندما أخبرني أنه قد يقضي نحبه في أي وقت لضعفه الشديد تنفست الصعداء.
..
جاء الطبيب الآن.
قالتها الجارة وهي تلملم أشيائي الكثيرة التي تناثرت بفعل صراعي لأرفعه على الفراش، كان قد وقع بينما أضع على جسده القميص، انزلق إلى الأرض وصار أثقل من أي مرة سابقة، وكأنه لا يريد أن يبتعد عنها، شممت رائحة الموت وهنا خارت قواي.
أفسحت طريقاً للطبيب وأنا أتسائل هامسة: ما زال حياً، أليس كذلك؟ كنت أعرف الجواب جيداً ولكني كنت أحاول الخداع! فتح الطبيب عينيه وأعاد غلقهما وجس نبضه الساكن- فعلت ذلك كثيراً قبل مجيئه- وانتظرت العبارة الخالدة، البقاء لله.
..
ضحكت في وجه زيوس/نبيل/ زوجي وقلت له إنني باعتباري كبيرة الآلهة لن أسمح له بأن يغازل أخرى، سأسلط عليه عائلتي وإخوتي ليقتصوا لي منه إن فعل، كان نبيل يحبني كثيراً ولم يكن ليخرق ثقتي فيه أبداً، ولم أسعد بذلك غير عاماً ونصف العام منذ زواجي، حتى جاءني المخاض، وعندما رأيت الطفل جزعت وصرخت وضحكت، قلت لنبيل بهيستيريا: لقد أتى هيفاستوس أيها الخائن، لقد سقط ابني من السماء إلى قاع بركان.
لم يفهم أحد صراخي، وحار نبيل ماذا يفعل معي وبي، ماذا يفعل بذلك الطفل!
تغير كل شيء منذ أن بدأت إرضاعه وتحولت إلى أم تجزع وتهرع لبكائه، لم أكن أماً حتى تلقفه صدري! ولكني قلت لنبيل بعد أيام قليلة كان نفاسي فيها حاداً كأنني أنزف مياه محيط قانية الإحمرار: عليك أن تذهب.
لم يفهم في باديء الأمر لكني قلت في برود غريب: مادامت المزحة قد انقلبت إلى حقيقة فلا أظن أنها لم تكتمل؛ أنت خنتني وهذا لا أشك فيه أبداً، ولابد أن وجود الطفل هو عقاب إلهي، أدرك ذلك كما أدرك وجودك أمامي وأدرك وجود الطفل في صدري.
الغريب أن نبيل انسحب في هدوء من كل شيء حولي، تبخّر كأنه لم يكن، صار مجرد مظروف يأتيني حاملاً قدراً من المال كل شهر، اختفى، وكأنه كان ينتظر مواربة الباب ليفر كهر مذعور.
..
هيفاستوس كسر قيدي، لم يكن أبوه من القوة ليعلقني بقيد بين السماء والأرض، لكني كنت معلقة على أية حال، معلقة بأوهام الحب والجمال والكمال، ولكنه كسر القيد ومنحني الحرية، طفلي الحبيب منحني خمسة وعشرين عاماً من الحب والحرية، ولكنه ذهب الآن.
أليس البقاء دائماً وأبداً لله؟
…………..
* هيفاستوس هو ابن زيوس أبو الآلهة والبشر عند الإغريق، وابن لهيرا ربة الزواج، وقد سطرت الأسطورة عن هيفاستوس أنه هوى من السماء عند ولادته إلى قعر بركان فتشوه جسده وصار الإله الأعرج وأقبح الآلهة هيئة على عكس أخيه الذي كان وسيماً، فنبذته أمه وقامت بتربيته الحوريات وصار فيما بعد إله النار، ويقال أن هيرا نبذته لأنه جاء شاحباً وقبيحاً وقد كانت تنتظر ولداً جميلاً ليتوقف زيوس عن خيانتها.
** من المجموعة القصصية ” إثم مُركَّب” الصادرة أخيراً عن المكتبة العربية للنشر