حاورتها: سامية بكري
التأمل و الكتابة عن الماضي من اهم مميزات ابداعك كيف تطورت هذه المميزات وما تأثيرها في كتابتك؟
لم أبدأ بالكتابة عن الماضي في بداية التسعينيات، كان هاجسي الأول هو تثبيت اللحظة الحاضرة واستبقاء بعض الصور والمشاهد المكررة في سياق الحياة اليومية، وجاءت رواية دنيا زاد لترصد حالات الحزن والفقد ومحاولات الخروج منها بأقل خسائر ممكنة. أحتمي من الألم عادة بالذكريات، وربما تكون شخصية ميكي في رواية هليوبوليس خير دليل على ذلك. أردت أن أصف مصر الجديدة بين وفاتين، وفاة عبد الناصر واغتيال السادات، لكني في الواقع كنت أبحث عن ملاذ خارج مأساتي الشخصية حين فقدت ابنتي أثناء الولادة، وكان ماضي مصر الجديدة ملاذا سعيدا. عدت لاستحضار الماضي في مجموعتي الأخيرة، عين سحرية، وعدت مجددا لهليوبوليس لكي أفتح طاقة جديدة من الأمل في ظل الاغتراب والتوهة بعد الهجرة إلى كندا. في القصص القصيرة أعود دائما للحظات راهنة، أشبه بسكتش سينمائي، لكني في مجموعة عين سحرية أردت أن أربط بين حاضر الكتابة وتاريخ النظر سواء باستخدام عين الكاميرا، أو عين الخيال الذي لا يرى فرقا بين ميكي في سن العاشرة أو مي في سن الخمسين. أما في الرواية الثالثة، أكابيللا، فقد تعمدت أن أجرب الكتابة الأسبوعية على شكل رواية مسلسلة نشرت في روزاليوسف عام 2010. لم تكن ترتبط بمكان وماضي محدد بل بمدينة على ضفة نهر وحاضر خارج الزمن، يمكن أن يصف مشاعر امرأتين صديقتين، بينهما قدر من الغيرة والانجذاب والخلاف على تقييم الحياة وتثمين العلاقات الإنسانية.
قلت في حوار بعد ثورة يناير :لدى رواية جديدة، كنت انتهيت منها، وأراجعها حاليا، ورغما عنى وجدتنى أعيد كتابتها بالروح الجديدة، مع مراعاة أن الصوت الزاعق والثورى يفسد الأدب ؟ هل هي اكابيلا ام رواية اخرى لم تنشر بعد؟ وكيف اثرت روح الثورة في كتابتك؟
كنت قد نشرت أكابيللا في 14 حلقة مسلسلة في مجلة روزاليوسف عام 2010 ثم قامت الثورة، وعدت لمراجعة النص وإعادة كتابته من جديد بروح أكثر مغامرة وربما أكثر تقشفا بعد الثورة ونشرت الرواية عام 2012 عن دار شرقيات. البعض يقرأ الرواية ويعتبرها “ثقيلة” وفي رأيي أنها لا تستسلم لغواية الدراما والتسلية والقضايا الكبرى، لا يمكن أن نعتبرها رواية بيست سيلر. والمبيعات لم تكن يوما تهمني بقدر ما يهمني تطوير الكتابة في اتجاهات ربما ليست مطروقة بما يكفي. الرواية من ناحية أخرى لا تعد طويلة بمقاييس اليوم، لكنها تعطي مساحة وافية لوصف مشهد سرقة في محل أو قبلة بين عايدة وحبيبها أو مناجاة ماهي لزوجها وهي مفتونة به رغم رغبتها في إقامة علاقة مع كريم. تلك المساحات في اعتقادي تغلب الاختيار الفني على اختيار المبيعات. لكل كتابة قارئها المفترض على أيه حال، مساحة الثورة في الكتابة هي تلك المساحة التي يحتلها قارئ نهم لصوت الكاتب المميز لا لصوت مذيع برنامج التوك شو. لذلك أعتقد أن الخيار الثوري في الكتابة هو خيار أقلية بالضرورة ولا يعنيه اهتمام أو موافقة أو دعم الأغلبية.
نشاطك للتوعية بالدولة المدنية بعد الثورة كان بارزا فماهو تقييمك لهذه الفترة من حياتك وهل اثمر هذا النشاط بالشكل المرضي ؟
عدت إلى مصر ما يربو على تسعة أشهر في الفترة من مايو 2011 ليونيو 2012 للمشاركة في حلم التغيير السياسي لا من موقع حزبي، فلم أنتم يوما لحزب من الأحزاب، ولكن من موقع الجماهير على تنوعها واختلاف طموحاتها. كنت قد بدأت حملة مصر دولة مدنية من كندا في مارس عقب سقوط مبارك وحين وصلت إلى القاهرة في مايو كانت المظاهرات موجهة بشكل واضح ضد ممارسات المجلس العسكري القمعية وضد الإخوان والسلفيين الذين كانوا قد حصلوا على الأغلبية في انتخابات مجلس الشعب. في تلك الفترة، جاءت مبادرة دولة مدنية لتؤكد رفض التيار المدني للخيارين، العسكري والديني. وساهمت بشكل فعال في تنشيط الحوار لدعم الخيار الثالث، أي الخيار المدني. كان أهم نشاط بالنسبة لي هو التوعية بقيمة الخيار الثالث على الأرض، بين الناس، وأيضا من خلال وسائل الإعلام من صحافة وتلفزيون الخ. دعيني أقول أن ثمرة هذا النشاط كانت مرضية بالنسبة لي إلى حد بعيد، لأنها حركت المياه الراكدة فيما يخص قيم الدولة المدنية من حيث فصل الدين عن الدولة وتحقيق قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية على أسس حديثة ورفض استئثار مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة بالحكم، الخ. ربما لم نصل لتغيير حقيقي كما كنا نتمنى، لكن كلمة مدنية نفسها فضلا عن القيم التي ترتبط بها باتت مطلبا لا فكاك منه.
حين سئلت عن الدوائر الثقافية وعن ابتعادك عنها قلت: الدوائر نفسها سترفضنى لأنى سأكون أول من ينتقدها من الداخل. الترحال أصبح اختيارا لا فكاك منه، بإرادتى وعن عمد. هل مازلت تعتبرين الترحال اختيارا لافكاك منه؟ وكيف صارت علاقتك بتلك الدوائر في السنوات الاخيرة؟
نعم، استخدم الترحال مجازا لكلمة أخرى تهمني كثيرا، هي كلمة استقلال. أعتقد أني ككاتبة كائن مستقل عن الاحزاب كما قلت سابقا، ولكن أيضا عن مؤسسات الدولة وشللية المثقفين. لدي أصدقاء مقربين، ولكن ليست لدي شلة، أو جماعة تسير ورائي أو حتى قارئ مضمون. أعتقد أني أطفو قليلا وأغوص أكثر بسبب عيب في نفسي، انساني بحت فلا اعتذر عنه، يجعلني أحب البشر وأهرب منهم في الوقت نفسه. تلك الدوائر التي تتشكل حول الايديولوجيات والمصالح المشتركة والأنشطة الثقافية الخ لا تقبل النقد من الداخل ولا تقبل الاختلاف وتنفي عن نفسها استسلامها لتقييم الناس بمعايير الواقع الطبقي والفكري لذلك تجديني أفضل الاستقلال عن تلك الدوائر، أو لنقل الدخول والخروج منها بحرية اللا منتمي.
تتحركين مابين ثلاث لغات في الادب والعمل الاكاديمي كيف اثر ذلك على ابداعك ؟
لخبطة ما بعدها لخبطة! ولكن لدولوز إشارات أعتقد أنها تنطبق علي تقول ما معناه إن التلعثم سمة من سمات الأدب. في العموم أكتب بلغة عربية حديثة مقطرة خالية من المحسنات البديعية تستقي شعريتها من المشهد السينمائي والمشاعر المسكوت عنا، لكنها عربية ممتعة حتى وإن بدت روح الكتابة فرانكوفونية أحيانا. اللغة الانجليزية محلها العبارات اليومية البسيطة والبحث الأكاديمي والتدريس لا أعتقد أن لها تأثيرا على كتابتي الابداعية اللهم إلا في منحى من المناحي، مثلا في الاختزال والتقشف في الكتابة على طريقة الأدب الأمريكي.
ما الفارق الذي ترينه بين المتلقي او القارئ العربي لادبك والقارئ الغربي؟
القارئ العربي أكثر حرصا على متابعة ما أكتب وأكثر استمتاعا به على قدر تجربتي الخاصة. يمتعني الحديث مع هذا القارئ سواء كان من الأصدقاء أو من النقاد والباحثين الأكاديميين أو من القراء الذين ألتقي بهم في الندوات أو على صفحات الانترنيت. أما القارئ الغربي فقد أصابته حالة من الاحباط لأني لا أكتب عن النساء المستضعفات أو عن المشكلات السياسية والاقتصادية بشكل استشراقي. لكل قارئ توقعات مختلفة، لكن القارئ العربي لديه مساحة توقع أقل استشراقا، أكثر التصاقا بقيمة الفن على عكس ما هو متوقع ويستطيع أن يميز بين كاتب البست سيلر وكاتب المشروع الأدبي. ولكن في العموم رواج الكتابة الأدبية في ظل العولمة يخضع لشروط لا أعتقد أنها تتوفر لدي، فأنا أسوأ من يسوق لعمل من أعمالي، وفكرة التسويق الأدبي نفسها ملغزة بالنسبة لي.
الكتابة بلغة اجنبية كانت تجربة غير مكتملة هل مازال حلما يراودك؟
نعم، لدي رواية بالفرنسية لم تنشر. أخاف نشرها. وأعكف كل فترة على إعادة كتابة صفحات منها لكني لا أنتوي نشرها الآن. لا أدري لماذا أظل أقارن تلك الكتابة بأعمال عظماء قرأت لهم مثل فلوبير وبروست وسيلين وغيرهم وأجدني غير قادرة على فكرة المنافسة. باللغة العربية، أعتقد أن لدي سيطرة أكبر على النص.
الصورة في نصوصك وخاصة اكابيلا تلعب دورا كبيرا وقد تحولت الى فيلم سينمائي هل فكرت في كتابة السيناريو كما فعل مجيب محفوظ في مرحلة من حياته ؟
نعم، كتبت سيناريو فيلم واحد طويل مأخوذ عن رواية منتصر القفاش “تصريح بالغياب”، لكني فشلت في تسويقه أو انتاجه رغم أن طارق التلمساني كان متحمسا لصنع الفيلم منذ سنوات بعيدة. الآن تدريس السينما بجامعة أوتاوا ونشر أبحاثي في هذا المجال يحقق بعضا من الرضا.
قلت: ” انا امرأة بألف وجه” فكيف تتعامل مي الكاتبة مع الوجوه الالف لمي الانسانة؟
أعتبرها ثروة! ولأني متغيرة ومتقلبة المشاعر وأدرك تماما معنى الاختلاف ولدي حس عال بقيم العدل والمساواة تجديني أحيانا في صراع بين نفسي ونفسي، أحسمه وحدي دون أن يشعر بذلك أحد سوى المقربين. الكتابة عن تلك الوجوه في صورة شخصيات مختلفة مثلا في أكابيللا ساعدني كثيرا. أهم وجه او قناع أضعه في حضور جمهور هو قناع مي القوية J أفضل أن أحتفظ بأحزاني وبضعفي لنفسي وللكتابة، فكثيرون لا يقدرون الضعف الإنساني ويستغلونه ضد الضعيف في الواقع، ويفضلون أن يقرأوا عنه ولا يعيشونه. يدرك أصدقائي أني أختفي لأحل أزماتي وأعود عندما تكون الأزمة قد مرت فلا يرى من يعرفوني سوى الوجه المشرق والابتسامة التي يستحقونها مني.
في رواية اكابيلا ظهر اعتمادك على الثنائيات في شخصية عايدة وماهي او الراوية ثم اندماج الشخصيتين في واحدة في اخر الرواية وتداخلهما هل كان مخططا منذ بداية الرواية ؟ وماذا اردت ان تقولي بهذا الاندماج الاخير؟
لا لم أكن أعرف نهاية الرواية عندما بدأت كتابتها. كانت ماهي وعايدة واضحتان تماما بالنسبة لي، لكني لم أكن أعرف إلى أين ستسير علاقتهما بعد موت عايدة. ولأني لست مقتنعة بأن ماهي ضحية، أردت لها أن تختار التماهي والاندماج ليس مع عايدة، ولكن مع نسق حياتها المستقل بعيدا عن الزوج والابن والحماة. في نهاية الرواية تقوم ماهي بشراء شقة عايدة والذهاب إليها كأنها محل عملها الجديد، أو مكان اللقاء بالأصدقاء، وثمة وعد بأن تعود الحياة للشقة بعودة ماهي وكريم، وأن يظل شبح عايدة يرفرف على المكان. لكن على العكس من عايدة التي استسلمت لإشكالية الفنان المحبط وغير المتحقق، تحاول ماهي تحقيق مستقبل ما، مبهم، لكنه متخيل ومتوقع ويحمل نوعا من الأمل.
يبدو سؤال طقوس الكتابة معادا ومكررا لكن دعيني اسألك كيف تشعرين بتحرك جنين القصة او الرواية بداخلك قبل ان يخرج الى الورق؟
جملة أو مشهد أو شخصية. كل شيء يبدأ بسيطا، وملحا، ويظل يراودني أياما وأسابيع حتى أبدأ في الكتابة فعليا. لكني أسجل بعض تلك الجمل والمشاهد في كراس، وأعود إليها كل حين. أحيانا أكتشف أني أكتب عن نفس الشخصية منذ شهور وأبدأ في ربط خيوط النص حولها. وأحيانا لا تسفر الكتابة المتفرقة عن شيء ولكني أعود إليها أثناء كتابة الرواية لكي أسرق جملة من هنا أو مشهدا من هناك. أتلصص على كتابتي بمعنى ما حتى يكتمل النص.
النهل من السيرة الذاتية والكتابة عن الكتابة من ملامح جيل التسعينات فكيف ظهر ذلك في ابداعك وهل يستمر الكاتب في النهل من سيرته وكتابة ذاته ام لابد ان يتوقف في مرحلة ؟
ظهر ذلك منذ مجموعتي الأولى نحت متكرر واستمر في دنيازاد وهليوبوليس وعين سحرية كما أسلفت. لكنى أعتقد أن أكابيللا مختلفة، فيها من الذات ومن الخيال الكثير، كما أن فيها من ملامح كتابة التسعينيات شيء ومن كتابة احسان عبد القدوس شيء آخر، وهو كاتب يستحق أن نعود إليه بوصفه أحد أعمدة البوب كلتشر في الوطن العربي. لن أقول لك إننا نكتب ذواتنا، بل نكتب شذرات مما نتصور أنه يمثلنا في المشاعر والمشاهد والأحداث والأفكار. الكتابة هي خيال بحت حتى ونحن نتخيل أننا نكتب عن أنفسنا.
الكتابة هي المساحة الوحيدة الممكنة لي لممارسة حرياتي وبعض الجنون والنزق؟ هل مازالت؟
بالطبع، هذا ملمح لم يتغير بالنسبة لي بعد مرور كل هذه السنوات على ممارسة الكتابة الابداعية، من 1990 وحتى الآن. ربما تكون مجموعة “خيانات ذهنية” أصدق تعبير عن تلك الحرية المفترضة التي يتعذر على أي كاتب التخلي عنها، حرية التعبير والتفكير والشعور. هي حرية يفرضها الكاتب على القارئ ولو أن عموم القراء قد يخالفون الكاتب في الرأي القائل بضرورة اطلاق الحريات ويرون أن لديهم الحق في المنع والمصادرة سواء بدافع أخلاقي أو ديني أو أيديولوجي، فلديهم مطلق الحرية في رفض القراءة، أما المصادرة فهي عار على الإنسانية. الكتابة هي في الحقيقة بالنسبة لي المساحة الجماهيرية الوحيدة التي تسمح بلقاء حميم مع القارئ المفترض، بيني وبينه كتاب وكلمات وأفكار ولا شريك لنا فيها.
ككاتبة مغتربة او مهاجرة ماذا اضاف ذلك لابداعك وماذا سلب منك؟
الهجرة أضافت طاقة حرية بلا حدود، وثقة في المستقبل، وقدرا من الأمان اليومي لا يستهان به وبعدا كافيا يسمح بتأمل الواقع في مصر بعقل منفتح. وسلبت مني السياق اللازم للكتابة، فسحة الوقت والمرح والانخراط في جماعات كبيرة تأخذني من نفسي وتردني إليها. سلبت مني مصر الجديدة ووسط البلد وحلم التغيير الثوري.
القصة القصيرة عشقك الاول تنافسها الرواية فما مشروع الكتابة القادم؟
المشروع الحالي يقوم أيضا على شذرات من تاريخ الهجرة ومحاولات البحث عن مكان في هذا العالم. يقوم على قصص قصيرة وشخصيات هي امتداد لشخصيات أكابيللا وفيها تعليق ممتد عن فكرة الصداقة المستحيلة بين امرأتين. لكنه سيظهر في شكل رواية أتمنى الانتهاء منها قريبا.
…………
* نشر بمجلة معرض الكتاب 2019