موت

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

التفت للمرة لا أدري كم، في الحقيقة لم أعد أتذكر كم مرة التفت منذ أن شاهدته، لا، لا ليس هو،  و لا يمكن أن يكون هو، لكن كيف يمكن أن تخفى علي ملامحه، صورته،هيأته.. أسرع في خطاي حتى لا يلحق بي، و صوته، لا يمكن أن أخطئ في صوته، إنه صوته بنبرته المعتادة، التي تُشنف أذن كل من سمع و أصغى إليه. و اسمي، كيف عرفه إن لم يكن هو. ردده مرتين أو ثلاث مرات، لم أعد أتذكر، ربما دهشتي، بل خوفي. تجاهلت نداءه، وباعدت بين خطاي، حتى ازداد بعداً عنه. أعرج على أول شارع و أميل نحو اليسار ثم الشارع الموالي و مرة ثانية نحو اليسار، لا أدري لماذا تقودني قدماي دائماً نحو اليسار؟. أجد زقاقاً، ألجه بسرعة، يصعب علي عبوره، ليس فقط لازدحامه المعتاد في مثل هذه الفترة من اليوم، حيث يتوافد القرويون من ضواحي المدينة لبيع ما تجود به عليهم الأرض، و ليقتنوا حاجياتهم مما تبخل عليهم به الأرض، بل لتواجد عدد غير قليل من الدواب التي تركت فضلاتها في الزقاق روائح تقرب الفرد من البادية. أتحاشى أن تطأ قدماي هذه الفضلات، أصل إلى آخر الزقاق، لا أجد مخرجاً، أزداد اضطراباً، أتظاهر أني أبتاع خضراً من امرأة قروية، أجلس القرفصاء، حتى أخفي نفسي عنه، و بين سيقان البهائم و أرجل المارة أراه يلتفت يمنة و يسرة بحثاً عني، تحدثني المرأة عن الجزر الطازجة، تحدد ثمناً، و تقترح خفض ثمنه ثم ربعه،

لا أبالي لما تقوله، أتصبب عرقاً و أزداد ارتعاشاً، تطلب مني المرأة أن أبتاع منها أو أتركها، أنهض و ألتفت مرة أخرى إلى المكان الذي وقف عنده برهة، لا أثر له، أحمد الله، و أعود من حيث بدأ مشوار عذابي، سعياً للخروج من هذا الزقاق الذي تحول إلى مصيدة بل سجن اعتقلت فيه لفترة شعرت بها دهراً. أسرعت في مشيتي، و تمهلت بعض حين، حتى لا أثير انتباه المارة، بل انتباهه هو. خرجت أخيراً من الزقاق إلى الشارع الكبير، اقتربت من واجهة أول مكتبة صادفت، بدأت أحذق في واجهتها، لم يكن في الحقيقة غرضي الاطلاع على ما تعرضه من عناوين، بل اتخذت واجهتها كمرآة أرى من خلالها ما آلت إليه حالي. أثار انتباهي عنوان كتاب   ” هل من حياة بعد الموت”. و أنا أحذق في العنوان، أحسست بيد قوية فوق كتفي. التفت بسرعة لأجده هو، أطلقت صرخة و هممت بالهرب و إذا بي أقع. تمتد يد لترفعني لتساعدني على النهوض،  و أسمع صوتاً يقول:”استغفر الله العظيم، انهض من الأرض، لقد وقعت من السرير، إنك تتصبب عرقاً، قد حان وقت المدرسة”.

أجيب أمي والعرق لا زال يتصبب من جسمي كله: ” خالد كان يريد أن يلحق بي”

–           لكن، يا ولدي، خلد مات منذ ما يزيد عن السنة، استغفر الله، انهض، توضأ وصل صلاة الصبح، تناول فطورك وأسرع إلى مدرستك. اليوم يوم الامتحان.

حمدت الله، قد كان حلماً مزعجاً بل كابوساً.

ودعت أمي عند باب المنزل، دعت لي بالنجاح، دخلت وأقفلت الباب خلفها. انتظرت قدوم الحافلة. كنت أول الصاعدين، أخذت تذكرتي، جلست إلى النافذة، بدأت أتلهى عما رأيت في منامي، وأتفرج على الراجلين. عند المحطة الموالية رأيت خالداً يصعد، إنه هو وليس حلماً. نزلت بسرعة وأطلقت ساقي للريح.

 

مقالات من نفس القسم