من أنت: قارئ جيّد أم قارئ سيّء ..؟!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ليلى البلوشي

  نحن نقرأ .. كلنا يقرأ ..

هناك قراء، جيّدون وسيّئون، هل سبق وصنفّت نفسك أو موقفك من القراءة؟! بتّ على مستوى الشخصي كثيرا ما أهوّجس نفسي: هل أنا قارئة جيّدة أم سيّئة؟!

 وتطور هذا الأمر حتى غدا هاجسا حقيقيًّا، وموقفا تجاه كل ما يقع تحت يدي أو عيني من قراءات . بدأت الفكرة بشكل فعلي حين نبهتني صديقة كاتبة وقارئة في آن إلى غلطة لا أعرف كيف أصنّفها، لكنها بالنسبة لي كانت أقرب ما تكون “لفظ عقلي” أي ما يلفظه العقل دون إرادة منا في لحظة ما، وكانت تلك الغلطة دائرة حول اسم الكاتب الجزائري “ياسمينة خضرا “، وقد تخفى هذا الكاتب خلف اسم زوجته لظروف سياسية بالدرجة الأولى، وتناولت مبعث ذاك التخفي في حوار أجرته معي إحدى الصحف الجزائرية ولفظتها وقتئذ ” ياسمينة صالح “، و تكرر الخطأ اللفظي نفسه في مقالة حول موضوع شبيه وتصادف نشر الحوار والمقالة في برهة زمنية قريبة من الأسبوع نفسه . صديقتي القارئة “الجيدة” نبهتني إلى الخطأ وأشارت إلى تصحيح الاسم، فالمعني هو “ياسمينة خضرا ” وليست “ياسمينة صالح”، وكان مبعث الخطأ هو تعوّد اللسان على اسم “ياسمينة صالح ” رغم أن التي أجرت الحوار معي كانت صحفية جزائرية، ولكن انتباهها سقط على ما بدا!

كم أغبطني هذا التصحيح!

 إذن هناك قراء جيّدون يقرؤون ما تكتبه بعين وعي ويضيئون مصابيح انتباههم على كل لفظة تقولها أو تكتبها، وهذا يضعنا أمام : ” القارئ جيّد ” ..

فمن هو القارئ الجيّد ..؟!

القارئ الجيّد” هو قارئ يطالعنا بقلبه وعقله معا، يحفّز كافة حواسه إلى مادتنا القرائية، هو قارئ يستشعر أنه كاتب النص؛ فيربض أمام الحروف بمسؤولية حقيقية. هو قارئ يعي تماما أنه يقرأ نصًا أو قصة أو مسرحية أو رواية لكاتب هو ” إنسان ” في النهاية، يخطئ ويصيب، و الأخطاء أنواع كما الأفكار أشكال، الخطأ إما إملائي أو أسلوبي، و هي أخطاء واضحة، و ثمة أخطاء ضمنية لا يقتنصها سوى القارئ المطلّع كخطأ تاريخي أو سياسي أو ديني؛ هذه الأخطاء شاملة ذات تأثير جمّ على القراء ..

”  القارئ الجيّد” يخلق كُتابًا حريصين على كل لفظة تخرج من معين وجدانهم أو كل عبارة تمخضها بنات أفكارهم، فثمة قارئ جيّد سوف يحاسبني على إهمالي أو على أي خطأ وارد، وأعني هنا بالأخطاء الشائعة، أما الأساليب الكتابية ومطروح الأفكار وتفاصيل الحكايات، فهي أمور قابلة للتباين، التحاور، النقاش والصمت أيضا، قابلة لكل شيء، و القارئ الجيّد يؤمن أن كل نص إبداعي هو آلة مولدة للتأويلات ..

”  القارئ الجيّد” يترك مسافة بينه والنص، فضوله من نوع الآخر ينصب على خياله الخلاق، الذي يبغض التفاصيل الكاملة، هو قارئ دائمًا يرمّم الناقص ما تحت السطور وبينها بطريقته كخبير يجسدّ ملابسات قضية ما من معين أدواته، يكتفي ما يطرحه الكاتب من تفاصيل قليلة، يجد متعة كبيرة في التفاصيل المغيبة التي تعمّد الكاتب في طيّها، مؤمنا بوجود قارئ جيّد يتلصص على أفكاره ومرايا روحه مفسحاً له حرية تناول ما تخيّله من مطارح شتى، فالنص المطبوع يضع كاتبه في موقع ” المتفرج ” على قارئ يجس نبض كتابته، و يغدو في محل ” المتفرج عليه ” من قبل هذا القارئ الذي أصبح كاتبه مادة تلصصه  ..

القارئ الجيّد ” يجد نفسه في كل كتاب جيّد، ينتقي انفعاله الخاص من إحدى تلك السطور التي قد تمثّله شخصية مهمّشة أو بطل الحكاية في موقف بعينه، لكن لا يعتمد على أوصاف الكاتب وحديثه عنها، بل يسكب حدسه الفعّال لتبدو الشخصية أقرب ما تكون إلى نفسه أو ذات صلّة بواقعه أو جانب من خياله ..

القارئ الجيّد ” حين يغرم بكتاب يروّجه بين رفاقه، يضعّه على مقربة منه في مكان أنيق أو على رفٍّ مكشوف، فتبدو و كأنها دعوة سرية لانتشاله من قبل قارئ مثله متأهّب لكل ما هو ساحر، يتوق مشاطرته متعة الحكاية التي انغمس فيها بطلاقة ..

القارئ الجيّد ” حين ينوي قراءة كتاب يسقط اسم الكاتب وينغمس في النص، فلا يهمه مطلقًا إن كان ما يقرؤه لكاتب معروف أم مغمور، بل جُلّ همّه ينصب على المادة المكتوبة، على ما فوق و تحت السطور، على فكرة ملهمة أو عاطفة جيّاشة، على الكتاب بكل ما فيه و عنه و إليه من الغلاف إلى الغلاف ..

كل هذا وأكثر- بلا شك- لا يمكننا الإحاطة بكل ملامح “القارئ الجيّد”، الذي يغّذي النص وصاحبه، فكلما قرأ الإنسان أكثر كلما راكم خبرات شاملة عن عوالم الكتب والكتابة وآداب التلقي، والاكتساب، والنقد . أما ” القارئ السيىء ” سبق و تناوله بالتفصيل الروائي ” عاموس عوز ” صاحبة رواية ” قصة عن الحب والظلام ” ، فعوز في روايته الضخمة هذه توسعت رؤاه عن موقفه من القراءة والقراء، ومدى ارتباطه بالكتب في وقت قريب من حياته الأولية ..

ويبدو أن القراء السيئون أنواع شتى وأصناف متعددة، أما تحديدها، فسأضعها على عاتق الكاتب “عاموس عوز” عبر سطور روايته : “القارئ السيء يأتي ويطالبني بأن أقشر من أجله الكتاب الذي كتبته، يجئ إلي كي يطالبني بأن ألقي أنا بيدي ، من أجله ، إلى برميل النفايات عنبي وأن أقدم له النوى ” …

و”القارئ السيء” هو نموذج فضولي ككلب بوليسي يشمّم عن التفاصيل الدقيقة، الواضحة والشاملة، ولن يهدأ له بال قط حتى يعرف البيضة من باضها، و هذا ما يؤكده قول “عوز”: “القارئ السيء هو مثل العاشق المعتوه الذي يهجم على المرأة التي وقعت بين يديه ويمزق ملابسها وعندما تصبح عارية تماما يتابع سلخ جلدها ، وبهدوء وروية يضع جانبا جلدها ويبدأ في تفكيك هيكلها العظمي وفي النهاية وعندما “يجرم” عظمها وينهش لحمها يصل إلى ذروة متعته : هذه هي ، الآن أنا فعلا في الداخل ، لقد وصلت ” ..

في قاع كل “قارئ سيء” متعة تخريبية؛ فالنص مادة للتشريح والتشويه، الغمز، اللمز، والثرثرة ما وراء الأبواب المغلقة، مع الحرص على أن تكون النوافذ الكبيرة مفتوحة على مصراعيها، لتصل الهمهمات الوقحة إلى أصداء الريح : “القارئ السيء مثله مثل الصحفي اللاهث ، يتعامل دائما بنوع من الريبة العدائية ، بنوع من الكراهية المتزمتة دينيا – القويمة أخلاقيا ، مع الإبداع ، الاختلاق ، التحايل والمبالغة، وإلى ألعاب اللف والدوران ، إلى الكلمات ذات وجهين وإلى الموسيقى وإلى الإيحائي وإلى الخيال نفسه: قد يتكرم وينظر أحيانا في عمل أدبي مركب ولكن شريطة أن نضمن له مسبقا المتعة ” التخريبية ” الكامنة في ذبح بقرات مقدسة ، أو المتعة المحمضة – التي تنطوي على التقوى التي أدمن عليها كل مستهلكي الفضائح و” الاكتشافات ” على مختلف أنواعها بحسب قائمة الطعام التي تقدمها لهم الجرائد الصفراء ” ..

القارئ السيء ” لديه اعتقاد مفرط أنه كائن جبّار، و أن الكاتب المسكين لولا قراءته لكتابه، لكان في مكّب الإهمال! وفوق هذا هو متشكك، فكل رداءة في الأخلاق، و تجاوز في القيم، و كل الأفعال المشينة، فهي مرتبطة بالكاتب نفسه بل مرتكبها، وها هو يكفّر عن ذنبه في هيئة كتاب أشبه باعتراف : “متعة القارئ السيء تنطوي على أن يكون دوستويفسكي المبجل والمشهور ، هو نفسه متهما بشكل غامض ، بميل دنس لسرقة وقتل العجائز ، وليام فوكنر بكل تأكيد كان على هذا النحو أو ذاك ، متورطا قليلا بغشيان المحارم ، ونبوكوف بمضاجعة القاصرات ، وكافكا لا شك أنه متهم في الشرطة ” إذ لا دخان بلا نار “، وأ.ب . يهوشواع بحرق أحراش الكيرن كيمت ” يوجد دخان وتوجد نار ” ناهيك عما فعله سوفوكليس لوالده وعما فعله هو لأمه ، إذ لولا ذلك كيف نجح في وصف كل ذلك بشكل حيّ ، لا ليس حيًّا فحسب بل حيًّا أكثر مما يحدث في الحياة الواقعية .” …

القارئ السيء ” إذن هو القارئ الذي يغيّب عقله، ويقضي على خياله، وعلى حق حواسه في الحدس والتحليل، يطفو ولا يحبّذ فكرة الغوص في قاع الأفكار المطروحة في النص، و الودّ كل الودّ أن ينخر عقل الكاتب ليجس عين الحقيقة في داخلها ليس مبعث اندفاعه ذاك رغبة في خبرة وفيرة عن الحياة أو انتقاء تجربة ينطلق منها بل لرغبة معرفة ماذا حدث في الحقيقة ..؟!

فهو قارئ يحب لغة المكاشفة، أما الطلاسم، الشيفرات، و غوامض المعاني ترّبك ضآلة فهمه، و تضعه أمام اختبارات يهزم أمامها، و تكسر عزيمته الفارغة من الصبر..!

“القارئ السيء” ينبذ مبدأ ” حريتي وحرية الآخر ” بمعنى أدق كالفارق ما بين ” ديمقراطية شللية ” و”ديمقراطية أصيلة ” وهنا البون الشاسع ما بينه و” القارئ الجيّد ” ..!

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة عمانية ـ والكتاب صادر مؤخرًا عن دار مداد 

مقالات من نفس القسم