ملاك الضجيج

ملاك الضجيج
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رغـــدة مصطــفى

ضجيج برأسي، يُعد ترتيبات سفر فُجائي للعمل، أعبر به زحام شارع "السويقة". تنتشر محال الملوحة والجزارة هنا وهناك، بقع الدم متناثرة بأرجائها، أفخاذ اللحوم مسلوخة الجلد معلقة. باعة الأسماك يفترشون الأرض بآنية الألمونيوم الواسعة، تحفظ الماء القليل للأسماك تتلوى بها على حافة الموت، تغرى حركتها المارة بالشراء.

على أقفاص الجَرِيد تُرص أعواد الجرجير والفجل، الأكثر اخضرارا تخفى أسفلها الباهت من الخضرة. ماكينات الخياطة كالدليل تقف خارج محال الأقمشة، تستجدي الزبائن لترقيع ثقوب ملابسهم على أبوابها.وباعة يتجولون بعرباتهم لعرض منتجات صغيرة الحجم، لشتى الاستخدامات وبمختلف الأشكال والألوان، وحده السعر ثابت، ثلاثة جنيهات لكل قطعة. امتداد الشارع يقطعه أفقيًا شريط السكة الحديد، تعبر عليه القطارات مسرعة لوجهتها، دون التفات لعشوائية الزحام على أحدى جانبيها. ساعاتِ وستأخذني إحدى قطاراتها بعيدًا عن مدينتي الصعيدية دشنا لعشوائية أكثر تشابكاً ونفوراً بالقاهرة.

وسط كل هذا الضجيج، أتاني صوتها الطفولي المرتعش، لا أعرف كيف اهتدت إليه مسامعى، كيف اجتذبته أو اجتذبني من عالم الجنون حولي وداخلي: “أبله.. يا أبله.. ” التَفِتُ إليها.. ، كان بجوارها صديقتها، وعيناها الحائرتان تنظران بخجل إليَّ، ولا تنبس بكلمة. ابتسم لها مشجعة، ولا كلمات تخرج. تضغط رفيقتها على أطراف يدها برفق من أسفل علّنى لا ألاحظها، لتدفعها للحديث, وعيناها بضيق تعاتبها على الحرج الذى أوقَعَتهُما فيه بصمتها. تتسع ابتسامتي وأومئ برأسي لها أن تتحدث، تزم شفتيها وعيناها زائغتان كمن يبحث عن كلمات اجتهدت طويلا في حفظ ترتيبها، وفى خضم توترها أضاعتها. “قوليلى عادى عايزة إيه؟” بادرت.. ، لم أستطع الصبر أكثر، أرهقني جهادها للحديث، وأشفقت عليها من خجلها وحيرتها أمامى. تساءلت: “هو إيه الدعاء اللى يقوله المريض لربنا علشان يخف؟”

يا الله، كيف عرف قلب الصغيرة الهيبة منك! ليتساءل عن آداب الحديث معك، وقواعد الشكوى إليكَ، وأنت الحبيب وهم أحبابك. أخفيتُ دهشتي من سؤالها بسؤال: “هو حد فيكم تعبان ولا حد ف البيت؟” فلم تشِ ملامحهما لي بتعب، باستثناء شعورهما بالحرج في الحديث مع غريب، أجابت صديقتها: هي اللى تعبانة.

ـ تعبانه من إيه؟؟

ـ بطنى وجعانى.

ـ أكلتى أى حاجة من الشارع؟

ـ  لا، بسكوته عادية اكلناها سوا

ـ البيت قريب، مروحين؟

ـ قريب بس هنشترى حاجات للبيت الأول بعدين نروح

ـ هتقدرى تروحى وأنتى تعبانة؟

ـ أنا مش تعبانة قوى بس عايزه أعرف أدعى إزاي ربنا علشان أخف

“يارب اشفينى”. هل كان يجب أن أصر على ابقاء إجابتى بهذا الوضوح وتلك السلاسة المفرطة، بحيث ترى الإجابة في ذات السؤال؟ ، خشيت للحظة أن ترى في بساطة ردى سذاجة فى تساؤلها، فيزداد حرجها. ولكن خوفي الأكبر كان من أن أضيف “رتوشاً” لفظية، قد تمثل حاجزاً ما بينها وبين الله فى التعبير معه وله عما بها، رغبت بأن تحفظ علاقتها معه بسيطة، لتكن أقرب إليه مع صغرها. لكنها وبتشكيك فى عينيها وصوتها أردفت “بس كده!”.

اتضح أن بساطة الرد شككتها بي لا بذاتها، وأربكنى تشكيك الصغيرة بى، رغبت فى الضحك بشدة وأنا ألملم ابتسامتى. ورحت أتلو عليها صيغاً أخرى لأدعية طلب الشفاء مصحوبة بآيات قرآنية، يَصعُب عليها ترديدها ورائى دون تجزئة. مع اتساع عينيها بسماع ما لا يُمكنها إدراكه، فرحت لاستعادة ثقتها، وبعقلية طفل شرير جزء منى أسعده ضياعها وسط الجمل الطويلة، المعقدة الصياغة بالنسبة لها، بدا الأمر وكأنه انتقام من تشكيكها.

“الأدعية كتير، اختاري الأسهل ليكى وادعى ربنا بيه، قوليله اللى انتى عايزاه براحتك هو بيحبك” أكملت حديثى وأنا أمسح بخفة على رأسها، كنت بهذا أعتذر لها عما خالج نفسى من حماقة لا تدرى بها، ابتسمت لي فاطمأنت روحى، ها قد غفر لي الملاك، أقنعت نفسى.

كانت فى طريقها للرحيل تدير ظهرها لى، أوقفتها بأسئلة مشتتة عن ماهية ما تريد شراءه لمنزلها، أو إمكانية أن أرافقها لصيدلية قريبة لشراء دواء مسكن، وإن كانت بحاجة لأي مساعدة منى. وفى الحقيقة أنا من كنت بحاجة إليها، رغبت بشدة أن تُطيل بقائها معي. شعرت بنسمات البركة والطمأنينة تحيطنى بوجودها، لم أرد لها أن تذهب برحيلها عنى، كانت تعزلنى عن ضجيج الشارع وقسوته، وضجيج نفسى وحيرتها. كانت ملاكا صغيرا يتلمس وصلا مع الله، وسط كل هذا الضجيج من حولنا، واختارتنى لأكون سبيلها. سألتها اسمها، احتجت أن أقبض على اللحظة كحقيقة، لا خيالاً مر بى، لأظل أتذكر هذا: “حدثني ملاك اسمه مريم”.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصة مصرية

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم