محمود عبد الشكور
لم أستطع أن أترك هذه الرواية قبل إكمالها، رغم أن لى ملاحظات ثلاث عليها، منعتها فى رأيى من أن تضع العمل، فى المكان الرفيع الذى يناسب الجهد الكبير الواضح فى كتابته. “مقام التخلّى” لمؤلفتها سهام بدوى، والصادرة عن الكتب خان للنشر والتوزيع، تنجح بامتياز فى أن تدخلك الى عالم ثلاث شخصيات مأزومة نفسيا واجتماعيا. الكاتبة لا تستسهل لا المعانى ولا البناء ولا الأفكار، إنها تمتلك ناصية لغة ثرية للغاية بمفرداتها ومجازها، كما تعبر باقتدار فى معظم الصفحات عن سارد مضطرب ومشوش لأسباب معقدة، ولكن الرواية أيضا لا تأخذ من عالم التصوف، ولا من عبارات الحلاج وابن الرومى التى تظهر على صفحاتها، إلا زينتها الشكلية، فلا الأحداث ولا الشخصيات ولا الأجواء ترتبط عضويا بالتصوف بمعناه العميق، كما أن مصطلح “التخلّى” فى الرواية أبعد ما يكون عن معنى “التخلى” وفقا للرؤية الصوفية، لذلك فإن ملاحظتى الأولى هى أن تجربة الرواية وشخوصها ليست صوفية بالتأكيد، ولكنها تعبر عن أزمة نفسية واجتماعية وربما وجودية أيضا. نحن إذن أمام إيحاء غير صحيح عن المعنى، سواء من خلال العنوان، أو من خلال بعض الإقتباسات القليلة سواء من أشعار العارفين، أو من مصطلحات التصوف.
ملاحظتى الثانية التى أثرت على النتائج رغم طموح الكاتبة، وامتلاكها الرائع لناصية السرد، هو الحديث عن ثورة يناير وما بعدها من إحباطات ودماء ارتباطا بمأساة بطل الرواية الشاب، بينما تبدو مشكلة بطلنا صحية ونفسية واجتماعية بالأساس. كان يمكن أن يقودنا ظهور خط الثورة الى افتراض صراع أجيال حقيقى، وخذلان جيل كامل من الشباب، مما يثرى الفكرة ويعمقها، ولكن ما يعانيه البطل (كما سنشرح حالا) هو أزمة خاصة جدا لا يمكن تعميمها، وبالتالى فإن إجهاض حلم يناير ليس سر المأساة. مرة أخرى نحن أمام إيحاء خادع بدا كما لو كان خطا إضافيا لتراجيديا لأسرة من نوع خاص، ستعانى من التفسخ والإحباط، سواء وقعت ثورة يناير أو لم تقع.
أما الملاحظة الثالثة فهى أنه رغم أننا نقرأ فعليا ثلاثة أصوات مختلفة، هى صوت الابن، وصوت الأم ( مذكراتها)، ثم صوت الأب (فى النهاية)، إلا أن الثلاثة يستخدمون نفس اللغة المجازية. إذا كان ذلك مقبولا من أم تعمل كأستاذة جامعية، فإنه ليس مفهوما من ابن مدمن، وأب يعمل مهندسا. فطنت سهام بدوى الى ذلك أحيانا، فتركت الابن يسرد بالعامية، وبكلمات سوقية أحيانا، فكان ذلك أقرب الى صوت الشخصية، ولكنها سرعان ما عادت لتترك للابن نفس المساحة من التشبيهات والإستعارات والتأملات، التى تذكرنا بكتابات الأم. الى حد ما لم يكن تنوع الأصوات متلونا بتلون الشخوص، و لم يكن متغيرا بين من تحترف البوح للورق، ومن يفضل الرسم على الجدران.
فى مقابل هذه الملاحظات الأساسية، فإننا أمام نص مختلف، تتمثل صعوبته الأساسية فى أن السارد المحورى فيه شاب مدمن (لكل أنواع المخدرات تقريبا)، كما أنه يعانى الكثير من الإضطرابات بحسب تشخيص الأطباء (وسواس قهرى، رهاب اجتماعى، نوبات هوس .. الخ). كان اختيارا صائبا تقسيم النص الى فقرات سردية معنونة، كل عنوان يحمل جزءا من حكاية الشاب نادر أحمد عبد الظاهر مع أمه أستاذة الجامعة سعاد فهمى، ووالده أحمد عبد الظاهر المهندس الناجح، الذى تحول فيما بعد الى وكيل لإحدى شركات السيارات الألمانية الشهيرة. وحتى لا تتحول الرواية بأكملها الى محض ثرثرة لا معنى لها لشاب مدمن ومريض، فإن نادر يثرثر (أو يكتب) تعليقا على أوراق تركتها أمه بعد وفاتها، إثر حادث لسيارتها التى أهداها والده إليها، عنوان هذه الأوراق التى عثر عليها أحمد فى مكتب أمه هو “مقام التخلّى”، ومن خلالها أيضا سنعرف وجهة نظر الأب، وحكاية إدمان نادر، وسر معاناته.
نحن إذن أمام ابن مأزوم يعيد قراءة وكتابة ما كتبته أمه التى لا نعرف بالضبط تخصصها الجامعى، ولا نعرف بالضبط هل اقتباساتها الصوفية جزء من اهتمامها بحكم الدراسة والتدريس، أم أنها محاولة منها لاكتشاف التصوف، بعد أن أصابها ورم فى المخ، تحتاج إزالته الى عملية خطيرة، قد تودى الى الشلل، أو فقدان الرؤية، أو فقدان الذاكرة.
الشخوص التى قدمتها سهام بدوى تمثل حالة خاصة: الأم تسيطر على حياة ابنها، فيكاد يتحرر بموتها، والأب يخون الأم مع جارتها، ومع كثير من النساء، وهو يريد أن يبتر علاقته مع والدة نادر. أما نادر نفسه فهو شخصية ممزقة تقريبا، أشلاء إنسان، يعرف الخمور والمخدرات فى وقت مبكر، ويجبر على دراسة الهندسة التى لا يحبها، ولايجد نفسه إلا فى رسم الجرافيتى، وبالذات وجوه شهداء ما بعد أحداث ثورة يناير. مشكلته معقدة للغاية من النواحى الإجتماعية والنفسية والصحية، وتبدو عملية كتابته لرواية من واقع أوراق أمه الراحلة، أقرب ما تكون الى نوع من العبث والإنتقام: من الواضح أنه ينتقم من أب وام لم يفهماه، عاش معهما وكأن كل طرف فى جزيرة منعزلة، بل إن سعاد كانت تتبادل المراسلات فى العالم الإفتراضى تحت اسم مستعار هو كارميلا مع زوجها أحمد الذى اختار أيضا اسما مستعارا هو عزيز، الاثنان فى نفس الشقة، بينهما جدار، وكلاهما يتقمص شخصية أخرى، ولايعرفان الحقيقة. حالة تراجيدية من الوحدة والعزلة وعدم التواصل، التى سرعان ما ستدمر حياة ابنهما الوحيد نادر، الذى تنقله المخدرات الى عالم آخر بعيد عن البيت، وبعيد أيضا عن الحياة.
التخلّى فى مفهوم سعاد هو الإبتعاد قسريا بالتأكيد عن دورها كأم أو كزوجة، ثم التحرر من الحياة وآلامها بالموت، إنها أقرب ما تكون الى صديقة تنصح ابنها فقط بالذهاب الى مصحة، بينما يبدو الأب غير مبال، ومدعيا أن الابن كبر ويستحق أن يفعل ما يريد. التخلّى فى قصة سعاد، وفى ما كتبته من اوراق، أبعد ما يكون عن المعنى الصوفى المعروف بالتخلى “إراديا” عن كل ما هو سىء وذميم. سعاد فقدت تقريبا كل شىء: الابن، والزوج الخائن، وتعانى من مرض عضال، وهناك ما يوحى بأن حادثة مصرعها أثناء قيادة السيارة نوع من الإنتحار المتعمد، ولا أعرف بالضبط موقع عبارات التصوف ومصطلحاته من هذه المأساة، اللهم إلا إذا اعتبرناها مجرد اقتباسات فى أوراق عشوائية، عثر عليها ابن مدمن ومريض!
انعكست حالة نادر المضطربة على ما يكتبه تعليقا على أوراق أمه، وهو يخبرنا فى النهاية أن الأب سيشاركه أيضا فى كتابة روايتهما عن حياتهما مع الأم. لا نستطيع أن نصف التجربة سوى بأنها تعبير عن شخصيات خاصة تتخبط فى وحدتها، وتشعر أحيانا بحالة من الخواء الوجودى، وكأنهم يفتقدون معنى لكل ما يفعلونه، وكأن ثمرة فشل علاقة سعاد بأحمد (رغم أنه زواج عن حب) ابن بائس لا يستطيع أن يتكيف مع مجتمعه، و لايجيد التعبير، ولا يمارس حريته، إلا من خلال رسوم الجرافيتى على الجدران.
مشكلة رواية “مقام التخلّى” فى أن معاناة الشخصيات النفسية والإجتماعية، لم تتح الاستفادة من شذرات التصوف، أو حكايات الثورة. مأساة سعاد ونادر وأحمد مستعصية وعميقة، وخاصة نتيجة تركيب شخصياتهم، وربما غرابة أطوارهم، ولذلك ظل موضوع جرافيتى الثورة كخط إضافى يظهر ويختفى، تماما مثل بعض عبارات التصوف.
مفتاح الرواية هو أن أبطالها الثلاثة يعيشون الحياة ويرونها من “خرم إبرة”، ولعل هذا التعبير الذى ذكره نادر مخاطبا القارئ المتحير مما يقرأ، هو العنوان الأصلح للرواية، بدلا من عنوان “مقام التخلّى”، الذى يوحى بمعان بعيدة عن معنى رواية، كتبت باجتهاد عظيم، وبحساسية عالية، وبطموح هائل، ولكن دون ضبط الفكرة، ودون تحميلها أكثر مما تحتمل.