حاورته: علا الساكت
لاتتسلل يوميات مصطفي ذكري “علي أطراف الاصابع” إلي قلب القارئ, بل تهرب منه كعادة كل كتابات ذكري التي تنفر من فكرة الجماهيرية. فذكري ابن جيل التسعينيات الأدبي, له ثلاث روايات هي “هراء متاهة قوطية” عام 1997 , و”الخوف يأكل الروح” في 1998 , ولمسة من عالم غريب في 2000 و “الرسائل” عام 2006 , بالاضافة لمجموعتين قصصيتين هما “تدريبات علي جملة اعتراضية” و “مرآة 202”. تخرج ذكري في المعهد العالي للسينما, وكتب سيناريو “جنة الشياطين” و “عفاريت الاسفلت”, هو ما أثر كثيرا في كتاباته الأدبية. وفي يومياته التي صدرت حديثا عن دار “العين” للنشر تحت عنوان علي أطراف الاصابع “قام بتصفية الكثير من حسابات الماضي, والحاضر وهاجم الكثير من الظواهر الأدبية الحالية. وفي حوارنا التالي معه استكمل ذكري هجومه علي من يري أنهم ظواهر أدبية تنتهي مع القراءة الأولي فإلي نص الحوار.
ـ انتقدت سحب الرواية إلي أرض الواقع وتورطها في مناقشة قضاياه, ألا تري للرواية دورا اجتماعيا؟
لا أري للأدب دورا اجتماعيا, لأنه بالنسبة لي متعة مرفهة لاعلاقة لها باللحظة الراهنة وما نعيشه من قضايا سياسية ومادية. وهذا التراجع جاء علي حساب ما يمكن تسميته “الأدب الجمالي” المعني بتقنيات الكتابة والاسلوب, فعلاء الأسواني نموذج يدل علي ان الذوق العام متدن, لأن الذي يدعي أنه صاحب دور اجتماعي ثوري وأيديولوجي صار هو الذي يعجب الناس ويلتقي مع حاجاتهم الوقتية.
ـ لكن ألم يجلب علاء الاسواني شريحة جديدة من القراء للأدب؟
ما فعله الاسواني وغيره من الكتاب الاكثر مبيعا ليس إيجابيا, فالأمر صار أشبه بالبحث عن تأمين اجتماعي للكتاب, لأن هذا الجمهور الجديد غير مدرب علي القراءة ولا علاقة له بالأدب أو جمالياته إنما له علاقة باللحظة التي نعيشها, كما صارت الروايات العربية الان غارقة في الواقعية, بسبب طموح الكاتب لأن يكون جماهيريا.
ـ وما العيب في ان تكون الرواية واقعية؟
رأيي أن جزءا من جمال الأدب في أنه مختلق بالكامل, وأنه مفارق للواقع بقضاياه ومشكلاته.
ـ ألا يبدو لك هذا الرأي متطرفا بعض الشيء؟
أعرف أن رأيي متطرف لكن هذا ما أنا عليه, فمثلما يهاجم الاخرون الادب الذي كتب للأدب ـ وهم أقوياء بعدد قرائهم ـ أدافع أنا عن القيمة الجمالية للأدب. فالكاتب مهنته أن يحسن أسلوبه الجمالي وليس له أي ألقاب أخري لا هو مثقف ولا هو معني بتغيير الدنيا.
ـ وفي رأيك ما هي الموضوعات التي يمكن ان تعنيه؟
يعنيه تلك الأشياء الصغيرة التي تفترض الكتابة الأخري أنه لا مشكلة فيها, التفاصيل الصغيرة التي تتكرر كل يوم, والتي يقوم بها البعض كتحصيل حاصل. هذه الأشياء لو تأملناها سنجدها الأكثر صدقية, لا تلك الكتابة التي تدعي أدوارا كبري وتتبني قضايا التغيير.
عادة ما تتهم كتاباتك بالتعالي علي القارئ, بما ترد؟
التدني الثقافي مشكلة القارئ, حين يقع نظر قارئ عادي علي كتاب لي سيقوم برد عدائي هو الاخر فسيترك الكتاب علي الرف متأففا مني, لذا أنا لا أخشي علي القارئ فهو ليس ضعيفا. ومن العبث أن يطلب مني أحد أن أرتقي بمستوي القراء, لأنه غالبا لا يكون هناك قارئ محترف دون أصحاب المهنة والمشغولين بجمالياتها, أما القارئ العادي فيكفيه كاتب غير محترف مثل الاسواني.
ـ في كتابك هاجمت فكرة أن يسوق الأديب نفسه, فما الذي يمكن أن يفعله البعض حيال طوفان النشر؟
أنا ضد أن يقوم الكاتب بتسويق نفسه, فهذا جارح لكرامة الكاتب ويستهلك جهدا من الكاتب كان من الأفضل أن يبذله في كتابة الكتاب لا توزيعه.
ـ هل هذا تابو لا تحبذ أن يكسره كتاب جيلك؟
أنا مع هذا التابو, وضد أي تابو آخر, فهناك أشياء كلاسيكية لا يجب أن تتغير, فالنجاح التجاري لا تجلبه حفلات التوقيع, علي سبيل المثال لم يسع علاء الاسواني لانجاح روايته عمارة يعقوبيان أو خالد الخميسي وكتابه “تاكسي”, فهذه أعمال نجاحها حقيقي وغير مختلق رغم كونها غير جيدة فقد باعت ملايين النسخ. بينما من يتعاملون مع الكتاب كسلعة, لا يمكن أن تتخطي طموحاتهم أن يصل الكتاب إلي طبعة ثانية.
ـ انت من الكتاب القليلين الذين لم ينخرطوا وسط الظواهر التي جلبتها السنوات الأخيرة للأدب, كيف تري المشهد وأنت خارجه؟
ابتعدت عن الوسط الادبي احتجاجا علي الكثير من الظواهر السلبية, فالترجمات والسفر والجوائز كلها أمور مبنية علي العلاقات وطريقة الكاتب البذيئة في تسويق نفسه. وفضلت التركيز في الكتابة لأنها وحدها تحقق لي متعة, في هذا الكتاب أشياء كثيرة كان من الممكن الضغط عليها لتصير رواية أو قصة لكني أحببت أن أكتبه هكذا.
ـ لكن هل كانت اليوميات استجابة لممارسة الكتابة الصحفية علي مدي طويل؟
من يقرأ كتابي يدرك علي الفور أن هذه ليست كتابة صحفية, فهي مادة ثقيلة جدا علي أن توصف بكونها صحفية. كان مثيرا لي أن أكتب بانتظام في صحيفة كتابة ليست صحفية, والفيصل بيني وبين من يدعي غير ذلك هي الكتابة نفسها.
ـ لماذا اخترت اذا صيغة اليوميات؟
لدي شعور بالنفور من الرواية, فأنا أكره الشعبويات, وكل الناس صارت تكتب روايات الان, أما اليوميات فهي صيغة كلاسيكية جدا, ولينة لدرجة تسمح بكل شيء, فقد تكون اليوميات مزيجا من السيرة الذاتية والروائية وأدب الرحلات وأي شيء وكان ذلك مريحا بالنسبة لي.
ـ لكن البعض يري لجوء روائي لصيغة اليوميات إعلانا للافلاس الروائي..؟
قد يكون هذا صحيحا, وبشكل ما قد تكون استراحة, لكن كتابتي الروائية بها هذا الخليط من السينما والتأملات مع فارق النسبة.أحيانا ينتابك العجز أمام نوع الكتابة الذي تنتجه طوال الوقت.
ـ في تصريح أخير لك قلت انك تتعالي علي القارئ.
أنا مجهول بالنسبة لهذا القارئ وكذلك هو مجهول بالنسبة لي فأنا لا أعيره جزءا من تفكيري وأنا أكتب, الازمة تكمن في الوسطاء الذين يحاولون إيجاد تلك العلاقة غير الموجودة بيني وبين الشريحة الاكبر من القراء.
ـ يحتل جزء كبير من كتابك مخزونك السينمائي, وهو ما جعل الكتاب متخما بهذه الافلام والمشاهد التي من الصعب أن تجتمع في ذاكرة معظم قراء الكتاب, ألا تخاف نفور القراء؟
في النهاية حاولت أن أبذل جهدا أسلوبيا في حكي هذه المشاهدة, فمن لم ير هذه الأفلام يستمتع بالاسلوب.
ـ لكن ألا يبدو ذلك استعراضا في مواجهة القارئ؟
بالفعل هذا استعراض لأن مخزوني المعرفي قوي في هذه المنطقة, ولابد أن تخرج هذه القوة باستعراض. لكني في الوقت نفسه أعيد تأويل هذه المشاهد بطريقتي, وهذه التأويلات هي مبرر لاعادة الكتابة مرة أخري. وقد واجهت تحديا أن أعيد سرد مشهد مع التعليق عليه بشكل مكثف.
ـ عادة ما توحي كلمة يوميات بمساحة من التلصص علي حياة الكاتب, يسمح بها لقرائه, فلماذا لم تسمح أنت بتلك المساحة من حياتك؟
ما بين دفتي الكتاب لحظات خاصة جدا, فهذه حياتي, أنا أحب اللحظات الخالية من الفعل.
في مقالك عن ادوار الخراط وصفت أدبه بالمتوسط القيمة, رغم أنه هو الذي قدمك في بداياتك.. فهل يمكن أن نسمي ذلك قتلا للاباء؟
أنا قمت بتصفية حسابي مع ذوق أدبي قديم, فقد كنت أحب كتابته حتي بداية الستعينيات, والان اتساءل لماذا انخدعت فيها. أنا مع قتل الاباء وأكره هذا النوع من العلاقة, فالأدب ليس فيه اعتراف بالجميل. وهذه الروح الثورية في النهاية تنتج نماذج جديدة وحيوية. ومن جهة أخري بدأت ألمس في الجيل الاصغر مني بعض من استقبلوا كتاباتي بشيء من التتلمذ وحاولوا أن أكون أبا لهم, لكني لا أحبذ هذه التلمذة وأعرف مصير علاقة من ذلك النوع, ولا أتمني أن أكون قيدا علي أحد.