مشهد من حياة المحترمين

سوسن الشريف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سوسن الشريف

اضطرتني الظروف للمكوث مع بعضهن لأكثر من ساعة، كانت هي العذاب بعينه، سرحت واستمتعت بمراقبة السقف قبل أن يسقط علينا، وقد أوشك الهواء على النفاذ من تلك الغرفة الضيقة، التي احتجزنا بها الرجال إلى الانتهاء من باقي إجراءات الرحلة إلى وادي الحيتان بالفيوم.

 تنبأت منذ بداية ركوبنا الباص أن الأمر لن يكون يسيرًا على كلينا، لما عجزت عن مجاراة بعضهن في الخلاف الحاد حول أوقات التوقف لنيل استراحات في الطريق، أي استراحات وبين القاهرة والفيوم لا يتعدى الساعة ونصف!!!

 فترات ستتراوح ما بين عشرة إلى خمس عشر دقيقة لشرب السجائر، وقد قادت هذه الثورة سيدة ملونة بالكامل لحد يصعب معه تبين لونها الأصلي. فهي ذات شعر أصفر كشمس الصحراء، وبشرة مكسوة بكريم أساس وبودرة ناصعي البياض، وشفاه مطلوة بلون أحمر صارخ، ربما أنهت مخزونها من أحمر الشفاه، وأظافر طويلة صناعية بنفس بلون شفتيها، تبرز تفاصيل جسدها من مسمات ثوبها القطني الخفيف. رغبتُ بشدة سؤالها، متى استيقظت لتضع كل هذه الألوان، أم أنها لم تنم منذ أمس، فموعد تجمعنا اليوم كان في السادسة صباحًا!! انتهت الثورة وقد نالت الثائرات والثائرين مطالبهم، اتفقوا على التوقف كل ثلاثين دقيقة لمدة عشرة دقائق.

تحرك الباص أخيرًا في السابعة من مدينة نصر، صعد كوبري السادس من أكتوبر، بعد وقت قليل وقد أغمضت عينيّ محاولة الاسترخاء، سمعت صيحات رفيعة مستنكرة، فإذا بالسيدات الثائرات ينظرن بتركيز واهتمام بالغ إلى بعض البيوت كدس ساكنيها كل أنواع الكراكيب والمواد المستعملة وألواح خشبية وأشياء لا تتعرف عليها فوق أسطح المنازل. لم يستغرق المشهد دقائق، إلا إنه صار شاغلهن الأعظم، فراحت كل منهن تدلو بدلوها في إعادة ترتيب المنازل بما يليق بمشاعرهن الرقيقة، إلى أن توصلن لاتفاق بضرورة إزالة هذه المنطقة بالكامل لأنها تشوه المنظر، وتؤذي العين. كان بودي سؤالهن وماذا عن السكان؟! إلا إن الجالسة بجواري تطوعت وقالت “ويحطوا الناس اللي في المناطق دي مع بعض في أي مكان، المهم المنظر العام والواجهة”.

وصلنا إلى الفيوم بعد ثلاث ساعات، وقد طالت استراحات مكتسبات ثورة السجائر، تضمن برنامج الرحلة استقلال عربيات دفع رباعي وسبر أغوار الصحاري بالغة الجمال والسحر (سفاري)، وزيارة الجبل الملون، وديمة السباع والقصر، ومزارات لآثار فرعونية ورومانية، قبل الذهاب إلى وادي الحيتان، ثم تناول العشاء بقرية تونس. جلسنا في انتظار تصاريح أمنية، وقد وصلنا في وقت حرج صادف مرور أحد القيادات، فطلب منا الرجال عدم التحرك من هذه الغرفة الفسيحة التي ضاقت بالأنفاس المطلية بألوان صناعية، واختنق الهواء من احتلال دخان السجائر.

عن غير إرادة أخذت دور المشاهدة، لم أجد لدي حكايات عن سباق يوم “البلاك فرايدي”، ولم استطع نسج حكايات مصطنعة عن البالطو الفرو الجديد، وإن كنت أرغب في واحد. ضللت طريقي وسط كل حكاياتهن التي بان فيها الغث من السمين، النساء المترفات المرفهات بالوراثة، والأخريات ممن ظهر عليهن الثراء من .. لا تسأل من أين، لكن كل محاولاتهن للتشبه بالنوع الأول كانت فاشلة بفجاجة.

انشغلت بكتابة موضوع سأرسله للنشر في صحيفة ما، وفجأة التفتت إحداهن إلى حقيبتي وصاحت “شنطتك دي سينيه؟!!” اومأت بالموافقة والتلبس بالجرم، إذ لاحظن وجودي معهن بعد ساعة كاملة وأكثر من كوني لا أُرى بالعين المجردة. لم أفلح في التجاوب في أحاديثهن، حتى سألتني اخرى عن الخاتم الذي ارتديه، ابتسمت وقد وجدت الخلاص .. قلت “ده ب خمسة جنيه”، تعالت ضحكاتهن تعانق دخان السجائر الملونة، ومنحتني كل منهن تعليقًا ساخرًا، إلى أن اتفقن جميعًا أنني خفيفة الظل، بل شفافة إذ لم يلحظن وجودي من أول الرحلة. إلا إحداهن قالت إنها رأتني ومندهشة مما عكفت على كتابته بعد دقائق من احتباسنا، فقلت إنني أكتب مقالا لمجلة، نظرن إلي ببعض الاحترام “وااو إنتي كاتبة معروفة بقى”، رددت بأنني لست معروفة أو مشهورة فقط أهتم بالتصوير والكتابة. تحدثن لبرهة عن الصور، وأخرجت كل منهن هاتفها المحمول، لتبادل الصور التي التقطنها في الرحلة السابقة، في السوق وإحدى المناطق الشعبية.

حمدت الله لانصرافهن عني، إلى أن صاحت علي ذات الشعر الأصفر وطلاء الشفاء الأحمر، تطلب بلهجة آمرة أن أقص عليهن ما كتبت، بان على وجهي الانزعاج من طريقتها، فأطلقت ضحكة وصل صداها إلى كوكب المريخ، لأنها تمزح وقصدت إثارة فزعي للتسلية، وأكملت “يلا يا حلوة اقري لنا كتبتي إيه”، اومأت بالإيجاب وبدأت القراءة …

في مدينة نصر عند مدارس المنهل تحديدًا يوجد سوق للخضر والفاكهة ولحوم وأسماك وكل شيء، ما أن تتوقف للشراء، يأتي إليك أطفالًا صغار، يعرضون عليك حمل الحقائب وما اشتريته، بالمقابل الذي تجود به. على بُعد قليل يقع فندق “الفورسيزون”، حيث يقام بقاعاته الفخمة مؤتمرات وندوات لوضع استراتيجيات سنوية للقضاء على أسوأ أشكال استغلال الأطفال، وعمالة الأطفال، وأطفال الشوارع. وأثناء فترات الراحة بين الجلسات يتناول الحاضرون الشاي والقهوة والمقبلات من لحوم وسيمون فيميه، بجانب المشروبات الباردة، وفي نهاية اليوم بعد الجلسة الختامية وقد وضعوا قائمة بمقترحات للقضاء على عمالة الأطفال، يوجد غذاء دسم يليق بمجهود اليوم بين أحضان الهواء البارد من المكيف المركزي، وجهد التنقل من مقاعدهم إلى تلك الطاولات التي لم تفرغ من الشاي والقهوة والمقبلات.

في الطريق إلى منازلهن، وقد بلغت درجة الحرارة ذروتها، فتنال من الأجساد التي سبحت في برودة لطيفة لساعات، تمر المشاركات على السوق، ينادين على الأطفال ليحملوا عنهن الحقائب الثقيلة، ثم يذهب كلٌ إلى حاله. المشاركات في انتظار مؤتمر آخر، والأطفال إلى منطقة عزبة الهجانة والكيلو 4,5  مأوى المشردين والأسر الفقيرة، القريبة من السوق والفندق، لتناول ما تيسر من الطعام بما جادت به السيدات.

إلى مؤتمر جديد إذن في الفورسيزون، وأيام كثيرة من حمل الحقائب…

أنهيت القراءة، وسط صمت، وعيون حادة مصوبة نحوي، وملامح ضلت طريقها بين عمليات التجميل والمساحيق الملونة.

انطلق صوت إحداهن تسألني “هو في فندق فورسيزون في مدينة نصر قريب من عزبة الهجانة؟!” تعالت أصوات الباقيات يكررن نفس السؤال، وبعد نقاش اتضح أن اسم الفندق “انتركونتنتال سيتي ستارز”، لاحت على وجوههن ابتسامة تنم على الراحة للوصول إلى المعلومة الأكيدة، وقلن لي …

“هذا جيد عدلي اسم الفندق، وأرفقي مع المقال صور السوق، وممكن نُعيرك صورنا أيضًا”

سألتقط صورة بجوار بائع الفطائر

وأخرى مع بائعة الخضروات وقفصها المزين بحبات الليمون

سأصف ابتساماتهم البيضاء الطيبة

وأكتب كلمات عن الرضا

سأجني الكثير من علامات الإعجاب

ويتداول المعجبون الحكمة من الفقر

ستشتري الصور هيئات الإغاثة ومؤسسات الفقراء

يتسولون بها المزيد والمزيد

سيقول الأغنياء الرضا أهم من الغنا

ربما سأنال جائزة

وستبقى لهم حبات الليمون اللاذعة

وبقايا الفطائر اليابسة

 

مقالات من نفس القسم