خالد البقالي القاسمي
يقول أنطون تشيخوف عن طفولته: في طفولتي لم تكن لدي طفولة.
طفولة عنتر تشبه إلى حد كبير طفولة أنطون تشيخوف، إنها مزيج من الألم، والحزن، والقهر…
طفولة تشيخوف طبعها دكان العائلة… وطفولة عنتر بصمها بيت العائلة، كذلك…
يقول محمد شكري في كتابه وجوه: لم تكن لدينا مرآة في الدار، لأن لا أحد منا كان يريد أن يرى وجهه فيها.
يستمر المبدع الطيب الوزاني في رسم معالم سيرته الإبداعية عبر إصدارات مسرحية متتابعة. حيث ما زال يصر على التعامل مع المونودراما، عن طريق إصدار نص جديد. كأنه يخبرنا بأنه لم يستنفذ بعد طاقته الإبداعية في مجال التعامل مع المونودراما، ولذلك قام بتشغيل معينه فأصدر مسرحيته الجديدة هاته، هادفا إلى تخصيب التراكم الكمي والنوعي الذي دأب على تغذيته باستمرار منذ شرع في ممارسة الإبداع المسرحي.
في مسرحيته المونودرامية مرآة تنظر إلى الخلف التي أصدرها في طبعتها الأولى مؤخرا بمدينة تطوان المغربية عن مطبعة الحمامة، في ثمان وسبعين صفحة من القطع الصغير، وقام بتصميم غلافها بنفسه، أشار في صدر الغلاف إلى أن النص الذي بين أيدينا هو عبارة عن مونودراما. وذلك لكي نكون على بينة من الأمر منذ البداية، تجنبا لاختلاط الأمور لدينا. ثم، لكي نكون على استعداد لتشغيل الآليات، والأدوات الضرورية لقراءة وتحليل النص، عبر الشروط الخاصة التي تؤطر وتنظم هذا النوع من النصوص المسرحية. لقد قام المبدع الطيب الوزاني بكتابة مسرحيته المونودرامية مرآة تنظر إلى الخلف، وكأنه يبحث عن مخلص من ضغط طاقة إبداعية فائضة، أو كأنه كان في حاجة ماسة للبحث عمن يستمع، وينصت إليه. ولذلك عمد إلى إصدار نصه المسرحي مستندا إلى المكونات الأساسية التي اعتمدها الفيلسوف اليوناني أرسطو لتحديد أجزاء التراجيديا. ونحن عندما نتمعن جيدا في المونودراما فإننا نجدها قريبة جدا من التراجيديا في صيغتها الأرسطية، بمعنى آخر فإن جميع الأعمال التي تميل نحو الدراما لا تستطيع بتاتا أن تفلت من ربقة التراجيديا الأرسطية. المبدع الألماني المتميز برتولد بريخت الذي بذل كثيرا من الجهود، مجاهرا بسعيه الحثيث نحو تأسيس مسرح ثوري ملحمي، ونحو الخروج من أسر مكونات بناء الدراما الأرسطية التي كان يعتبرها من قبيل المسرح التقليدي ذات المكونات الجمالية الثابتة، والمواضيع المحافظة التي تكرس الوضع القائم، ظل رغم أنفه أرسطيا، حتى وهو يؤكد في كثير من مسرحياته على إبراز التناقضات التي يعيشها المجتمع، والتي تعمل الفئات البورجوازية على محاولة طمسها وإخفائها، مثل مسرحية حفل زفاف البورجوازيين الصغار، ومسرحية جان دارك قديسة المسالخ… المبدع الطيب الوزاني في نصه المسرحي هذا، هو كذلك لم يستطع الإفلات من هذا الطرح الكلاسيكي الأرسطي، ولذلك نجد في عمله الحضور البارز لعناصر الحبكة، والشخصية، واللغة، والفكر، والصور المسرحية، والغناء…
والسؤال الذي علينا أن نثيره هنا هو لماذا كتابة المونودراما؟ لماذا يصر المبدع الطيب الوزاني وغيره من المبدعين المسرحيين على الانحياز إلى عالم المونودراما دون غيرها من أنواع الفنون المسرحية؟ لماذا يلجأ المبدع المسرحي لاختيار المونودراما؟ لماذا يصر على الانحياز إلى الفردانية، والركون إلى اعتقاد التميز؟ يعتبر هذا السؤال وجيها جدا، لأن الاختيار لا يكون دائما وليد الحرية، بقدر ما يكون أحيانا وليد هاتف خفي ذي نزعة مضمرة، وعلى هذا الأساس نفترض أننا جميعا في توقنا إلى الفن والإبداع، نقوم بكتابة المونودراما:
ــ لأن الغالب في الأمر هو رغبة هروب الشخصيات المسرحية في نصوص المونودراما من المواجهة المباشرة.
ــ لأن في الأمر نكوصا إلى الوراء، واختيارا للعزلة، وبحثا عن الهدوء والدعة.
ــ لأن في الأمر بحثا عن تعويض مقابل للمجتمع المهجور، والحياة المتخلى عنها.
ــ لأن في الأمر استكشافا لعرينا الرمزي، حتى يساعدنا في نزع الحجاب عن عري هذا العالم الموحش، والعنيد.
ــ لأننا نريد أن نكون حراسا على الجانب المتلاشي من مشاعرنا، ونفسياتنا.
ــ لأننا نرمي لضرب نطاق رقابة على مشاعر وآلام غيرنا من الشخصيات المادية، والشخصيات الافتراضية.
ــ لأننا نسعى لكي نصل إلى أعمق نقطة موحشة في أشد جوانب أنفسنا حلكة وظلاما.
ــ لأننا نسعى لتكسير الجدار الرابع بالمعنى البريختي لنفسح الفرصة الكافية لظلال الشخصيات المنغمسة في أزيائنا ومعاطفنا، والمشاركة في عروضنا كي تصطف جنبا إلى جنب مع جمهور المشاهدين، حتى تتمكن من شهود حفل فنائها، وتحللها الطقوسي.
ــ لأننا مدفوعون بالانفراد، أو التفرد من أجل إشباع نرجسيتنا.
مونودراما المبدع الطيب الوزاني التي وظف لها مرآة خاصة، لكي يقدمها لنا في قالبها المحدد والمميز، هي مونودراما ترمي لكي تقترح علينا مادة فرجوية ممتعة. ومتعة النص تنبع أساسا من المرآة الخاصة التي اعتمدها المبدع لتمرير مادة مسرحيته. حيث يبدو أن هذه المرآة فريدة في صنف المرايا. فهي ليست كمثيلاتها من المرايا المختلفة والمتعددة، بل هي مرآة تتميز بأنها أولا تحس، عن طريق الرؤية والنظر، وبأنها ثانيا لا تنظر مثل غيرها من المرايا إلى الأمام فقط، بل هي تنظر كذلك إلى الخلف. وبهذا المعنى فإن مرآة المبدع الطيب الوزاني مرآة ذات طبيعة يانوسية، نسبة إلى يانوس، وهو إله البوابات، والمداخل، والانتقالات، والطرق، والممرات، والمخارج في الميثولوجيا الرومانية. هذا الإله يمتلك وجهين، وجه ينظر إلى الأمام مخترقا حجب المستقبل، ووجه ينظر إلى الخلف، مرتميا كلية في أحضان الماضي. ولذلك تتيح هذه المرآة اليانوسية للممثل المفرد في النص المسرحي الذي بين أيدينا الإمكانية التامة ليتطلع إلى ذاته بعيون الآخرين جميعا، المتابعين، والمشاركين في العرض المسرحي، من الأمام ومن الخلف، ومن جميع الزوايا. إن هذا النوع من المرايا هو الذي يمكن أن يهب للممثل المسرحي القدرة على امتلاك حقيقة الوعي بالذات.
إن الفهم العميق للذات الذي يمتلكه الممثل المسرحي عن طريق علاقته الدؤوبة بالمرآة ينتج ما يمكن أن نسميه بتجربة الأنا ـ الآخر، ويتحقق هذا الامتلاك بواسطة المرآة التي تنظر إلى الخلف، لأنها توجه الأنا نحو الآخر، بمعنى أن المرآة تعمل في صورتها العادية وهي تنظر إلى الأمام على توجيه الأنا للتعرف على ذاته، ومن ثمة عندما تغير موقعها وتشرع في النظر إلى الخلف تدعو الأنا لتعقل ذاته من خلال التعرف على الآخر. فتكون هذه المرآة وسيلة عبور زمني إلى الماضي، لتعرف الممثل المسرحي أي الأنا في ذاته الحالية على ذاته الآخر في صورتها الماضوية. ويمكن أن نستنتج في هذا المجال بأن المرآة التي تنظر إلى الخلف هي التي سوف تصبح بداهة قائمة بمهمة الحكي، إذ تتحول بصيغة زمنية مرتدة إلى الماضي، إلى الوراء، هي الذات الراوية، والذات المروية في نفس الوقت، القائمة مقام المروي عنه الذي هو الأنا ـ الآخر، وعندئذ يتحقق ما يمكن أن نسميه بالهوية المتشظية للذات المسرحية. وتظل الذات متشظية، معلقة بين الماضي وبين الحاضر، نظرتها إلى الوراء مثقلة بكثير من الألم والحسرة على الماضي الذي تولى، وبقي الحاضر الذي لا يوشي إلا بالكثير من السراب والخواء، ويستعصي على الحركة والتقدم إلى الأمام، فيظل حاضرا معطلا، جامدا، فاقدا لكل رغبة أو طموح.
بمعنى أن المبدع اختار أن يسجل المفارقة، وعنصر الإدهاش، مباشرة منذ البداية، بل قبل البداية، أي انطلاقا من عنوان النص. إذ إن المرآة التي لا تكتفي بالنظر فقط، بل تتعداه إلى النظر إلى الخلف، هي مرآة سوف يعتقد البعض بأنها حتما ينبغي أن تكون مرآة سحرية، والحقيقة أن هذه المرآة هي فعلا أداة سحرية. إنها أداة للقراءة والتحليل الفينومينولوجي من حيث إنها ترقى للإفصاح عن الدلالة الظاهرة، بالإضافة إلى الإفصاح عن تلك الدلالة التي لا تتبدى إلا بواسطة تفعيل تأويلي صائب، يتوفر على طاقة متوثبة للتسلل ضمن البياضات، التي توحي بلمعانها إلى المعاني الكامنة في أعماق النص، وأعماق الرؤية المرآوية المجهرية الموجهة إلى الخلف.
يعتبر موضوع توظيف المرآة في المونودراما من طرف المبدعين أمرا شائعا للغاية، قصد تفعيل دورها كشخصية مشاركة ومسهمة في بناء الفعل المسرحي الدرامي. بحيث لا نجد ممثلا مبدعا يستطيع تحمل القيام بأداء المونودراما بمفرده، إذ يبدو الأمر متجاوزا لطاقة ممثل مفرد. لأن قوة الشحن التي تختزنها المونودراما، وقدر الطاقة التي تستضمرها تجعلان من الصعوبة بمكان تحملهما من طرف ممثل مبدع مفرد، حتى ولو كان يتوفر على تجربة طويلة، وخبرة واسعة، ولذلك كانت المرآة واحدة من الشخصيات المادية التي نجدها حاضرة بقوة في جل النصوص المونودرامية، العربية، والغربية…
المبدع الطيب الوزاني هو كذلك وكغيره من المسرحيين عمل على توظيف المرآة التي سوف تساعده في كتابة وإبداع نصه. وهو لم يكتف بتوظيف المرآة فقط، بل اعتمدها كأداة تتبوأ صدارة نصه المونودرامي. ثم عمل المبدع لكي يبرهن لنا على تمكنه من أدواته المسرحية على بناء، وكتابة، وإبداع نص يتشكل من دراما الشخص الواحد الذي هو عنتر في النص المسرحي. والمقصود بدراما الشخص الواحد هو المسرحية التي يقوم بأدائها ممثل مفرد، ويشرك معه في الأداء بعض الشخصيات التي يستدعي حضورها من الماضي، أو من الحاضر، أو من المستقبل، ويقوم هو نفسه بتجسيد أدوارها عن طريق التقمص، بمعنى أنه ينجز الفعل المسرحي بواسطة أداء عدة أدوار في دور مفرد. وفي عمق هذا الأداء بهذا الشكل تنبثق الفنية والجمالية عندما يفلح الممثل المفرد في تنشيط تدافع الشخصيات ضمن ذاته، عن طريق التصادم الذي يولد الصراع، ويشعل الدراما، وينميها، ويحركها بتسلسل مقبول نحو الوصول إلى نشدان حل إنساني مريح، وهذا بالضبط ما أبرزه المبدع الطيب الوزاني في مسرحيته وهو يقوم بتفعيل الدور الموكول إلى عنتر. وفي المقابل وعندما يقوم ممثل مفرد بأداء دور شخصية واحدة، دون اللجوء إلى استحضار شخصيات افتراضية، ويكتفي بذاته التي يسخرها لإنتاج الصراع والتصادم مع نفسها ومع ذاتها، فإن ذلك يسمى دراما مسرحية الشخصية الواحدة، تمييزا لها عن دراما مسرحية الشخص الواحد.
وعندما نتحدث عن الممثل المبدع المفرد فإننا نقصد دلالة العبارة بالفعل الذي يعكس مفهوم الفردانية في مجال المونودراما، من أجل تمييزها عن مفهوم الوحدانية. إذ الفردانية هنا ذات طابع مادي، فهي فردانية مادية للممثل المسرحي، تتحقق في حضوره، ولعبه للدور بل الأدوار الأساسية لتشكيل المونودراما. وإذا ركزنا التفكير بعمق أكثر سوف نكتشف بأن هذه الفردانية مخيفة، بل ومرعبة، إنها ورطة فنية جمالية بامتياز خاصة بالمونودراما. هي عبارة عن تحد للذات، وللقدرات التعبيرية المختلفة، لأنه في اللحظة التي يجد فيها الممثل نفسه واقفا على خشبة المسرح في مواجهة عيون وآذان جمهور غفير من المتتبعين، حتما سوف ينتابه إحساس بغربة موحشة، الشيء الذي يدفعه للإسراع بالبحث عن منقذ مساعد يكمن في شكل شخصية افتراضية متخيلة، أو ذات موتورة، أو مرآة، أو هاتف… من أجل اختراق فردانيته. ولكي نكون أكثر دقة علينا أن نؤكد بأن الرهان الفني والجمالي لمونودراما المبدع الطيب الوزاني لا يكمن في فردانية الأداء، بل يكمن جوهريا في صلابة طاقة الممثل المسرحي عنتر، وقدرته على حمل العبء الثقيل المتمثل في إنتاج الأزمة والصراع، وتوظيفهما، وتوجيههما نحو الوصول إلى نتائج ذات بعد منطقي معقول. وعلى هذا الأساس فإننا نعتبر بأن الأداء في مجال المونودراما هو أداء مرتبط بالممثل المفرد، بمعنى الحضور البدهي للفردانية في مقابل الوحدانية التي لا تعتبر مكونا في المونودراما، لأن الذات المسرحية لعنتر عندما تشظت، فذلك إنما لكي تواجه صيغا عدة من صيغ الشخصيات الافتراضية التي كانت تسجل حضورها وجوبا في دعم الفعل المسرحي، ولا تتيح الوحدانية بتاتا مثل هذا التصور الفني، لأن الوحدانية من منظور فلسفي بحت لا تنحت وجودها القسري إلا ضمن واجهتين تتميزان بسريان الغياب المطلق، وهما حالة الموت، وحالة الجنون. ولم تكن أي من هاتين الحالتين تسري على عنتر وهو في كامل لياقته المسرحية، بعيدا عن أي نزوع نحو الوحدانية.
بناء على ما أشرنا إليه أعلاه، أثبت المبدع الطيب الوزاني وكعادته دائما في كتابة مسرحياته كثيرا من التفاصيل التي تعتبر مقدمة تمهيدية لتوجيه العمل المسرحي على مستوى الإخراج. ويعتمدها المبدع غالبا من أجل الاستئناس، لتنظيم كتابته لنصوصه، وإلا فإن الأمر يظل مفتوحا بالنسبة لقراءة المخرج أو السينوغراف عند مباشرة القيام بلعب النص المسرحي فوق الركح. ثم إن لهذه التفاصيل المذكورة فائدة بالغة، تجعل القارئ الشغوف يتتبع النص وهو مطمئن لمساره القرائي الواعي…
وهكذا نجد في الصفحة الثالثة والعشرين ثبتا بأسماء الشخصيات المشاركة في لعب دراما الشخص الواحد ضمن هذا النص، وهذه الشخصيات تتحدد أولا في الحضور اللافت والمتميز لعنتر، وهو الممثل المفرد الذي سوف يحمل على كاهله ثقل قول، وإلقاء النص المونودرامي بكامله، وهو في هذا النص يشار إليه بشخصية عنتر في مراحل مختلفة، يكون طفلا، وشابا، وكهلا، وفي نفس الوقت هو الراوي والمروي عنه، فهو شخصية مركبة مسندة لنفسها بذاتها، واسم عنتر يثير تساؤلا طبيعيا يحيل على الشخصية التاريخية التي تحولت إلى أسطورة مبهرة، من حيث إمكانية الوقوف على حدود التشابه، ونقط الالتقاء بين الشخصيتين؟ وتحول هذه الشخصية حسب مدارج العمر يتم دائما عن طريق المرور من وراء حاجز، وانتقاء ما يناسب الدور من زي وإكسسوارات. ثم تأتي حسب الترتيب الشخصيات الافتراضية التي سوف يحاورها الممثل المفرد…، بمعنى يفتح معها حوارا… الأم، الأب، الجارة، بنت الجيران، مسؤول عن الحفاظ على التراث المعماري للأحياء العتيقة بالمدينة، الحاج وهو من السكان الجدد الوافدين على المدينة العتيقة.
في الافتتاحية نجد تناظرا بين حالة الظلام التام، وبين صرير باب حديدي حاد يفتح… إنارة خفيفة في مقدمة الركح من جهة يمين الجمهور حيث يوجد عنتر واقفا، أو متنقلا وهو يلهث من أثر الصعود. في مؤخرة الركح يوجد مسرح الأحداث، حيث نشاهد خلال العرض تعاقب مراحل عمر عنتر. بين المنطقتين فاصل خشبي جانبي يمر من خلفه عنتر / الراوي كلما دعت الضرورة ليتحول إلى طفل أو شاب أو كهل. الفاصل عبارة عن خزانة بواجهتين، واجهة مغلقة جهة الجمهور، وواجهة مفتوحة من الخلف، بها رفوف، حيث توضع الإكسسوارات الضرورية لتقمص شخصية كل مرحلة. الحاجز يستعمل وينقل خلال العرض دائما أفقيا من اليسار إلى اليمين، والعكس، وقد يوظف كضريح لولي صالح. في عمق الركح بهو يتوسطه بابان، أحدهما لغرفة نوم، والآخر لمطبخ، وكلاهما وهميان، تتوسطهما نافذة مطلة على الخارج، وتوجد بالبهو أريكتان، وطاولة، ومرآة كبيرة محمولة بإطار يسمح بتغيير درجة ميلانها، وشمعدان بشمعة واحدة. وجميع قطع الأثاث قديمة ورثة.
يعتبر هذا التأثيث البسيط ملاذا متواضعا للممثل الذي يؤدي الدور في دراما الشخص الواحد، وعلينا أن نركز الاهتمام لتتبع الصيغة المثلى التي سوف يعتمدها هذا الممثل لكي يستجمع قواه بمعية هذه الرؤية السينوغرافية المتواضعة التي تتشكل في معظمها من أدوات وصور متخيلة، حتى يكون مقنعا بطريقة متقنة…
تنطلق حركية الممثل بواسطة التذكر، تذكر الماضي بالطبع، والذاكرة هنا قد تكون مسعفة في نقل الأحداث وعرضها، كما يمكن أن تكون بها ثقوب لا تستطيع تحري الأحداث كاملة… ينظر الممثل إلى البيت نظرة دونية، تزيد من تعميق بؤس مظهره الطللي الباهت والمتآكل، خصوصا وأنه مقام فوق عدد من الأدراج التي تصيب الواحد بالتعب الشديد الذي يشبه تعب الحياة المستمر، يعمد الممثل إلى توجيه نقد لاذع للبيت الذي بناه الأجداد من حيث تحوله إلى مبنى عتيق آيل للسقوط، وتتحول نقمة الممثل المخصوصة الموجهة لبيت الأسلاف إلى نقمة عامة موجهة إلى المدينة العتيقة ككل، بحيث يعمد المبدع إلى العمل على تمثيل المدينة العتيقة من خلال المونودراما كنص مسرحي يتوفر على مقومات كافية للدلالة على مكونات المدينة العتيقة التي تحمل بصمات وعلامات الحضارة الأندلسية التي استوطنت مدينة تطوان المغربية وطبعتها بطابع خاص…
نلاحظ أنه منذ الافتتاحية التي رصعت صدر المونودراما، انخرط الممثل في الصراع مع الشخصيات التي افترضها بتخييله وتصوره. وهي شخصيات افتراضية من حيث الحضور البدني المادي والفعلي، ولكنها ذات حضور تاريخي وسلالي ثابت. فهي غائبة في حضورها، وحاضرة في غيابها. إذ هي شخصيات اعتبارية، لها قيمة راسخة، وقدر أصيل، وتتميز باستمرارية حضورها الرمزي الذي لم ينقطع بمغادرتها الحياة. وتتنوع من حيث طابعها إلى إنسانية، ومعمارية حضارية. وقد اختار الممثل أن يواجهها متخذا من أبعادها عناصر أساسية لصناعة الصراع، وإثارته. وبهذا المعنى فإن الممثل عنتر لم يتأخر طويلا في الانخراط المباشر في عوالم المونودراما عن طريق توجيه سهام نقده لأبيه، وجده، وجد جده، والبيت الذي ورثه عنهم، وأدراج البيت، والمدينة العتيقة ككل… بمعنى أن هذه الشخصيات بتنوعها أصبحت تشكل واجهة للصراع الذي اعتمده عنتر لكي ينسج بواسطته خيوط الفعل الدرامي الممتد على طول مدى النص المسرحي. ويؤكد حضور هذه الشخصيات التي تشكل موضوع الصراع مع الممثل ما أشرنا إليه سابقا من كون المبدع اختار كتابة نص مونودرامي يرتكز على عناصر الدراما الخاصة بالممثل المبدع الفرد أو الخاصة بالشخص الواحد، في مقابل الدراما المستندة إلى الشخصية الواحدة التي لا تعيش الصراع إلا مع ذاتها، في ظل الغياب التام للشخصيات الافتراضية المحتمل وجودها في ثنايا النص المسرحي.
تعتبر جدلية التمرد والانصياع التي تطبع شخصيات نص المبدع الطيب الوزاني أهم معطى بنيوي في تشييد معمار وهيكل المونودراما… في حواره مع أمه فإن عنتر الطفل يفصح عن كونه يكره ذاته ويكره طفولته… ص.40 / 42، فقد تعرض عنتر الطفل لمفاهيم المنع والحظر التي كانت تشكل عناصر ضرورية في التربية المحافظة، إدانة شديدة لنوع التربية التي تلقاها في صغره مستحضرا كما قاسيا من القهر، والألم، والحزن. وجدلية التمرد والانصياع لدى الممثل عنتر تبدو ذات تأثير ملحوظ في مسار العمل المسرحي من خلال حضور الشخصيات الافتراضية، ثم من خلال غيابها كذلك. إذ تشكل عملية المراوحة بين التمرد والانصياع أساسا لمراكمة الفعل المسرحي، ونمو الصراع الدرامي. ونفس الشيء نلاحظه على مستوى حضور وغياب الممثل عنتر عبر تقمصه لشخصيته وهي تشرق وتغرب حسب المرحلة العمرية. ويعتبر هذا المجال طبيعيا في عالم المونودراما، حيث تتميز الشخصية الفاعلة بأنها دائمة التغير، وبكونها تشتغل انطلاقا من التغير المستمر في المشاعر، والتقلب الدائم في الأفكار، والمراوحة الدؤوبة بين أشكال الانفعالات والطبائع. ونجد صدى واضحا لهذه المعطيات لدى برتولد بريخت في تعبيره عن الأزمات المتواصلة التي تحدث للفكر البشري في تعامله مع الأشياء والموضوعات.
يبدو بيت العائلة الذي هو عنصر الجذب في مونودراما المبدع الطيب الوزاني مركز الحبكة في المسرحية، بحيث حوله، وداخله، وفي أرجائه المتهالكة، وضمن بشاعة مظهره، وهشاشة بنائه العشوائي تنمو المسرحية وتتطور. وفي عمق هذا البيت / الحبكة تترى عناصر الفعل المسرحي، وتتوالى مسجلة حضورها تارة، وغيابها تارة أخرى. بيد أنها لا تخلف موعدها في تدوين تأثيرها الفعال عبر التفاعل، والتصادم، والاحتكاك، وإنتاج مختلف صور الصراع والتجاذب، من خلال تسجيل تعميق فاعلية جدلية التأثير والتأثر التي تنتجها مجموع الشخصيات الافتراضية في علاقتها مع الممثل عنتر الواحد المفرد الذي ينسق مكونات المونودراما. لقد كانت هنا اللحظة الإبداعية للمسرحي الطيب الوزاني تضاهي بالضبط اللحظة نفسها لدى المبدع الألماني برتولد بريخت، إذ في الوقت الذي استثمر هذا الأخير أعماله في تشييد مسرح محكمة، لمحاكمة غلو الواقع، وجه المبدع الوزاني شخصية عنتر لكي تستثمر بيت العائلة العتيق بتحويله ساحة لمحاكمة أسلافه. وهكذا يبدو لنا هذا الممثل الواحد المفرد منهكا نفسيا وهو يكابد الصعوبات والمشاق الناتجة عن مواجهته السافرة مع الشخصيات التي ابتدعها، وأصبح رهينة لرهابها الموجع…
ومن أجل استرجاع الأنفاس، والحصول على بعض الفسحة، وتشغيل آلية التفكير، يلجأ المبدع إلى تمكين عنتر الممثل الواحد المفرد من الركون إلى الصمت، هو وباقي الشخصيات المفترضة، الموجودة منها ضمن الغياب، والثابتة منها ضمن الحضور. وبالإضافة إلى الصمت الطبيعي، يلجأ الممثل إلى الصمت بالإكراه عن طريق لبس الكمامة إلى درجة الاختناق، فيكون الصمت هنا طوعا أو كرها واحدا من الأفعال الواضحة المعبرة التي تسجل حيوية دورها في الإسهام في تسطير أجزاء عدة من النص المسرحي. ويشكل الصمت واحدا من المكونات المركزية للنص المسرحي المونودرامي، بحيث عندما يعبر عنتر عن قلقه، وحزنه، وألمه، ويشتكي من الظلم الذي لحقه بسبب البيت العتيق، لا يبقى له إلا أن ينتقل من التعبير بالكلام إلى التعبير بالصمت، ولذلك فهو يخرس، ويتوقف عن الكلام متأملا وقع ما ردده على سمعه وعلى سمع الآخرين. إن صمت عنتر كما هو صمت باقي الشخصيات عبارة عن تدفق روحي يعكس قوتها في التمكن من التحكم في مشاعرها وعواطفها ولو إلى حين، ومن ثمة فإن الصمت هو بدوره حركة وفعل، تماما مثل الحركة الفعلية، الفرق هو أن هذه الأخيرة خارجية، وتلك الأخرى داخلية، ولهذا فإن الصمت في المسرح المونودرامي يعكس في الأصل صوتا أو أصواتا هادرة تجعل الشخصيات تشتعل من الداخل في انتظار الفرصة المواتية لتعميق مجرى الفعل الدرامي.
التواصل مع الجمهور له أثر واضح في النص المسرحي، حيث وكما أشرنا سابقا فإن المبدع عمل بمبدأ المسرح البريختي، فقام بتكسير الجدار الرابع، وفتح المجال لأفراد الجمهور الحاضر لكي يتدخلوا، ويسهموا في توجيه الأفعال المسرحية، مدونين بذلك ذواتهم كشخصيات فعلية مشاركة في العرض الدرامي…
والغناء في النص المسرحي يوليه المبدع اهتماما وافيا، مستلهما بذلك كما أشرنا سابقا مكونات مفهوم التراجيديا لدى أرسطو، وسيادة الشعر الغنائي لدى اليونان… فيتيح المبدع الطيب الوزاني للممثل مجالا كافيا لترديد بعض المقاطع من الأغاني الشعبية المعروفة في أرجاء المدينة العتيقة، والتي تمت عملية توارثها عبر تعاقب الأجيال… مثل:
أراسي وما كاز عليك وباقي…
ألا لا يلالي…
يوظف المبدع الطيب الوزاني في نصه المسرحي اللغة العربية الفصيحة، واللهجة العامية المغربية الخاصة بالمناطق الشمالية للمملكة، وبالضبط لهجة العامية العتيقة لسكان مدينة تطوان… كما يوظف المبدع الأمثال العامية الصريحة والمعبرة بواسطة حكمة وبلاغة، مثل:
اعمل ما اعمل جارك ولا بدل باب دارك… ( ص.37 ).
نخلو دك الجمل راكد… ( ص.49 ).
في النص المونودرامي عمل المبدع على تمكين الممثل عنتر من إلقاء مقاطع عدة مكونة من نصوص طويلة، بنفس سردي، يطول أحيانا، حتى ليخيل إلى الجمهور والمتتبعين بأن الأمر سوف يستمر طويلا، ولكن وفي اللحظة المناسبة عندما يدرك المبدع غلبة الكثافة السردية يعمد إلى قطعها إما بالصمت، وإما ببعض الجمل الحوارية، لكي يستعيد انتباه وتركيز جمهور المتتبعين من جديد… واللغة الحوارية التي يتبناها المبدع هي إما حوار فعلي متبادل مع الشخصيات المتخيلة بواسطة جملة مقابلة لجملة، أو حوار افتراضي مع إحدى الشخصيات الوهمية طرفه فارغ، وطرفه الآخر مليء من طرف الممثل. ( انظر ص 40 ) حوار مفترض بين الممثل وبين أمه. كما يعمد الممثل إلى تقمص شخصية الأم، أو شخصية الأب، لاستحضار عبارات الحظر والمنع ( انظر ص.45 ) التي كان يستعملها كل منهما، قصد تدجين الراوي في طفولته، عبر توظيف قاموس متنوع، يتكون من مجموعة من الأدوات المسهمة في تقليص مساحة الحرية التي كان يطمح الفتى للتمتع بها. وهي عبارات كان لها حضور بارز، وتأثير بالغ في التصور التقليدي للتربية الأسرية المحافظة. ويبدو صدى هذا النوع من التربية واضحا في حضوره ضمن سياق المونودراما، من حيث تشكيله أهم العناصر الموجهة لتصاعد حدة الصراع. لقد اشتدت حدة هذا الصراع عندما تمت عملية إجهاض أحلام وطموحات عنتر في مختلف مراحل عمره، ثم عندما اعتبر المبدع على لسان الممثل بأن تربية الصغار تخضع لنفس العشوائية المتبعة في تخطيط المدينة العتيقة…
سوف ينتظر المبدع حتى صفحة (45) لكي يدفع الممثل للحديث عن حيثيات تسميته من طرف العائلة باسم عنتر. وحضور هذا الإسم في النص المسرحي يرتبط بالعمل على إرادة تحقيق نوع من الانسجام بينه وبين مقابله العبسي الذي كانت تسمى به العائلة، إن إرادة الوصول إلى مرحلة التناغم والانسجام في مسار الإسم تدل على رغبة أكيدة في إعداد الطفل للتماهي مع واقعه الإجتماعي، وللمحافظة على المكتسبات السلالية، خصوصا وأن الأبعاد الأصيلة لحضور هذا الإسم تبدو طاغية من حيث الرسوخ التاريخي، والتجذر الهوياتي. ورغم أن الممثل عنتر لاقى كثيرا من الألم والمعاناة الناتجين عن تبعات حمله لاسمه هذا، ورغم أنه لا يبدو سعيدا بحمله، بل ويسخر من طبيعته ( انظر ص.47 )، بسبب بعد خصائصه الجسمية عن تلك التي اشتهر بها عنترة العبسي، فإنه كان مجبرا على التصالح معه، وعلى التعايش مع الصفات التي يدل عليها بين الناس…
يستثمر المبدع الإمكانات التي تتيحها المونودراما لكي يعرج بوجهتها أحيانا نحو بعض من الصفات الملحمية التي تشبه صيغة بريخت في مسرحه الملحمي، ويتحقق له ذلك عندما يفلح في توظيف الزمن في أبعاده المختلفة (ص.53). فتصبح المونودراما مفتوحة على جميع العتبات الزمنية. وهكذا نجده ينتقل إلى الزمن الماضي لكي يجسد عنتر وهو طفل، ثم يعود مرة أخرى لتجسيد عنتر الشاب، ثم عنتر الكهل، وهكذا دواليك، ينتقل بين دوال الزمن حسب طبيعة الشخصية المطلوب تقمصها وتشخيصها. ثم نجده تارة يقلص الزمن إلى أقصى هامش ممكن، وتارة نجده يسرع به، ويوسع وعاءه إلى أقصى مدى ممكن، حتى يلج بنا سداه الملحمي الواسع، والمنبسط، والمفتوح على جميع الاحتمالات. كل هذا التحول وهذا التغير والمكان ما زال ثابتا (ص. 60)، لم يبرح وضعه الفيزيائي، ولم يغادر حيزه العتيق الذي تم التخطيط له بعشوائية، وكأن المكان لم يغادر مكانه البتة، كل ما هنالك هو أنه تعرض لكثير من التلف والتصدع الناتجين عن الهشاشة، والإهمال. ويدل هذا على انتفاء العلاقة العضوية بين الزمان والمكان في النص المسرحي، إذ كل منهما يتوفر على دلالته ووقعه الخاصين، بعيدا عن كل ما يمكن أن يجمع بينهما، مما يعني أن هناك بالتأكيد شرخا كبيرا بينهما، وأن العلاقة بينهما تحيل على التنافر والتنابذ، الشيء الذي كان سببا في إصابة الطفل / الشاب / الكهل / الراوي / الممثل المفرد عنتر بكثير من الحسرة، والألم، والإحساس باليتم والفقدان، وهو ما كان له بالغ الأثر في تعميق حدة الصراع في هيكل المونودراما إلى درجة قصوى.
ونتيجة لهذه الصورة يبدو لنا فعل الزمن المتحرك، بسطوته وجبروته، وبمعزل عن المكان الراسخ، مؤثرا في كل مرحلة أو لحظة تتطلبها الشخصية، بحيث عندما يتقمص الممثل صورة عنتر الطفل فإن… أما عندما يتحول إلى زمن الراوي فإن… ويظل المكان هو نفسه في كل مرحلة عمرية، وهو ما يزيد في حدة التوتر، وتعميق الإحساس بالغربة، ولعمري إن هذه مفارقة عميقة واستثنائية أن يحس الفرد بغربة قاتلة وهو يعيش في وطنه، وبيته، وفي المكان الذي شهد جميع مراحل تدرجه في العمر… لقد أصبح الممثل / الراوي يعيش وحده داخل البيت العتيق في عزلة خانقة، وأصبحت المرآة التي تنظر إلى الخلف تلقي عليه بظلال الماضي مضمخة بذكريات عزيزة، تثير النفس، وتهيج الوجدان، وتغذي الأسى الكامن في المشاعر والعواطف.
وفي لحظة فارقة أصبح عنتر رقيقا، حنونا، حالما، يتعامل مع أثاث البيت برفق وحنو، وأصبح يسترجع صورة أمه، وصوتها، ورائحة طبخها، كما أضحى يتخيل صوت أبيه، ثم كما لو أنه يتصور سماع صوت بنت الجيران، وهو يشذو بالأغاني التي كانت تشكل شيفرة للتواصل بينهما:
أنا حبيبي بغيتو جميل
وأطول واحد فناسو
يقبط النجمة بيديه
ويقدمها لي هدية
لقد عملت هذه الذكريات والأحلام بواسطة رؤية مرآوية حادة على استنزاف طاقة الممثل. وبعد أن كانت حدة الصراع قد خفت نوعا ما في مواجهة الشخصيات المفترضة، وفي مواجهة ألم البيت العتيق، انبرت المرآة ذات النظرة الخلفية لكي تكيد له، وتحيي لديه ذكريات الأمس الموجعة. لقد أصبحت هذه المرآة خزانا من الذكريات التي بقدر ما تؤنس، بقدر ما تثير اللوعة والأسى. ثم إن هذه المرآة بارعة في وصفاتها الخاصة بمساحيق التجميل، فهي قادرة على أن تصورك طفلا، أو شابا، أو كهلا، أو تصورك وقد علت وجهك التجاعيد، وانكمش جلدك، وقد بلغت من الكبر عتيا، وهو الأمر الذي انطبق على حالة الممثل عنتر، فقد اكتشف في غفلة منه لعبة الزمن، الزمن الذي مارس سطوته الساحقة، وحطم أحلامه، ونسف آماله، وخطف من بين يديه أحبابه، وتركه مفردا في مواجهة انهيار وتلاشي البيت الذي أصبح موشكا على الانهيار، تماما مثل طموحاته التي هوت فجأة بفعل الزمن، وبدون سابق إنذار.
وبدأت علامات الصراع تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، وأصبح الممثل المفرد يميل نحو الهدوء والمهادنة. لقد تعب عنتر من كثرة الصدام والتدافع مع الشخصيات الافتراضية في النص المسرحي، وأصبح يميل نحو نشدان الدعة والهدوء عن طريق تغيير رؤيته للأمور، لقد أصبحت رؤيته أكثر واقعية، وأقل مثالية، واعترف للزمن بقوته، وبطاقته، وبقدرته على تغيير نظرة الجميع للحياة ولمنحنياتها. وانطلق الممثل المفرد يناجي المرآة وهو يسترجع معها بواسطة أشرطتها المشحونة التي تسجل كل الأصول والفروع مختلف لحظات حياته الدقيقة التي عاشها مع عائلته بالبيت العتيق، وكان هذا الاسترجاع، وهذه المناجاة عبارة عن انخراط واع في عملية إعادة تشكيل العلاقة مع الذات، ومع الغير، ومع البيت العتيق، ومع مخلفاته، ومع ذكرياته. فكانت مناجاته للمرآة وسيلة لمحاولته البحث عن ذاته، التي تعيش شرخا بالغا بين الثبات في الحاضر، وبين الرسوخ في الماضي. وهذه مفارقة ذات حدود قصوى لا يتصور أحد إمكانية الجمع فيها بين المتناقضين. ولذلك لجأ الممثل المفرد عنتر إلى الفناء في الرؤية المرآوية الماضوية، عساها تعوضه بديلا عن حاضره المنفلت تماما من بين يديه. ولكن علينا أن نكون في أشد حالاتنا وعيا، لكي نؤكد بأن الماضي الذي ارتمى فيه عنتر كحل للصراع الذي عاشه مع الغير ليس هو نفس الماضي الذي عاشه سابقا مع أفراد عائلته، لأن هذا الماضي يظل في تفاصيله وجزئياته متمنعا على نسبية الاسترجاع لدى الذاكرة. إن الماضي الجديد الذي ارتمى فيه هو في الحقيقة نتاج للحاضر، إنه ماضي الحاضر، إذ وبما أن حاضر عنتر لم يعرف، أو لم يكن له مستقبل، فمن الطبيعي أن يتراجع إلى الوراء عوض أن يتقدم إلى الأمام بسبب تخثر زمنه، وتعطل وعده الوجودي، فكانت هذه النتيجة الباهتة، القميئة، أي النكوص إلى الوراء، والرجوع إلى ماض مستحدث. وتعتبر هذه النتيجة ذات منحى طبيعي في المونودراما، بمعنى أن المخلص لا يحضر إلا في الغياب، الذي يشكل مكونا عضويا من مكونات المسرح المونودرامي. وبسبب هذا الشرط الفني لم يكن أمام الممثل المفرد في مونودراما المبدع الطيب الوزاني مناص من نشدان الخلاص في الماضي المستحدث، انطلاقا من الارتماء في أتونه عبر رؤية مرآوية ذات ذاكرة مشحونة مكتنزة، أفلحت تماما في تحقيق علاقة جدلية منتجة بين مفهوم التمرد، ومفهوم الانصياع، في النص المسرحي.
نستنتج إذا بأن بنية تراجيديا الطيب الوزاني المونودرامية التي قام بتشييدها وفق النسق المتعارف عليه، أي المستند إلى مجهود الممثل المفرد، تنهض على وقع التأثير الهادر الذي أحدثه الصراع النفسي، في غور عمق الشخصية المسرحية، بالإضافة إلى الصراع الفعلي الذي استحكم بين الشخصية المسرحية وبين الشخصيات الافتراضية. إن هذا الصراع كان في مكوناته العامة عبارة عن انعكاس للأحداث التي كان لها ارتباط بالمعيش اليومي، وارتباط بمخزون الذاكرة الماضوي، وقد تجلى ذلك في صور وأفعال مختلفة ومتنوعة لصيقة بالعواطف والمشاعر الإنسانية أدت إلى إشعال فتيل الصراع بين أطراف الشخصيات المسرحية الافتراضية وبين الممثل المفرد، وتصعيد حدته إلى الدرجة القصوى. وقد أفضى هذا التصعيد إلى إحداث فيض زائد من الإحساس بالضغط المستمر، مما اضطر الممثل إلى القيام بعملية التفريغ المسرحي بواسطة القول، والفعل، والتعبير حتى وصل مرحلة العلاج والتطهير. ويمكننا هذا الوصول المنشود من القول إن المونودراما التي شيدها المبدع الطيب الوزاني تمكنت فعلا من الاضطلاع بمهمة تجسيد مجرى حياة الممثل المفرد الشخصية، هذه الحياة التي عاشها الممثل في شكل صراع لا يتوقف، بهدف ليس فقط تحقيق الأمن النفسي، وإنما تحقيق الأمن النفسي والعاطفي، والاستمرار في الحياة داخل البيت العتيق بواسطة مهادنة ذكرياته المؤلمة المنبثقة عن الرؤية المرآوية الماضوية.
وبهذه الصيغ تكون المونودراما قد أفلحت في تجسيد قسوة الزمن، وتمثيل ضغطه الشديد والمتواصل على نفسية الممثل، فيكون النص المسرحي قد وصل بذلك إلى تدوين أقصى درجات تجسيد شروط المونودراما، بواسطة الطاقة المتوثبة التي يتوفر عليها الممثل المفرد، الذي كان في مستوى تطلعات الجمهور، من حيث حسن التواصل، ومن حيث إتقان المهارات المسرحية المطلوبة لتقمص أدوار مختلف الشخصيات الافتراضية، ضمن كثافة سردية وزمنية محسوبتين باهتمام، وبدقة، وبشغف…