هذه الحالة تتحقق مع ديوان «امبراطورية الحوائط» للشاعر (أحمد طه)، وبدءا من العنوان الذي يتم تزيله بعبارة «أناشيد وحكايات» ينفتح الذهن على التناقض بين «الحوائط» التي عندما تتحول لإمبراطورية، فإنها تشير لمعاناة البشر، فالأصل في الامبراطوريات العنصر البشري، وليست الجدران، لكن عندما تصبح الامبراطورية أهم ما فيها جدرانها، فإن ذلك يشير لحالة من حالات اختناق البشر في هذه الامبراطورية، إلى انسداد الآفق أمامهم بهذه الجدران الكثيرة، وإلى خلل في الامبراطورية، ومن ثم فالعنوان مدعاة لحالة حزن، يتم تخفيف أثرها بعبارة «أناشيد وحكايات»، ورغم الموروث العربي الذي يثبت أن أشعار الحزن، وأغاني الوجيعة هي الأكثر حضورا وتردادا في الثقافة العربية، إلا أن كلمة «أناشيد» لها حضورها في حالة الفرحة، وأما «الحكايات»، فمنذ موروث «المقامات» و«ألف ليلة وليلة» فإنها تدلل على الاستمرارية، على استمرار فعل القول مع تعاقب الزمان والمكان، وبالتالي فإن العنونة هنا، تمتح من اسقاطات حداثية توحي بخلل سيتناوله الشاعر في ديوانه، خلل تقديس «الحوائط» أكثر من تقديس البشر، وأن هذا التناول، متأثر بكل ما يسبقه من موروث ثقافي عربي، يفرض ما يفرضه على اللغة والفهم والتواصل، لتصبح أي مقطوعة شاعرية، مهما اختلفنا حول مصطلحها الشكلي ما بين تفعيلة أو نثر أو عمودي أو غيرها، هي في النهاية ضمن دائرة، الأناشيد، ما سيقوله (أحمد طه) هنا هي حكايات من خلال أناشيد.
وعبر النص الافتتاحي «ثقب»، يحاول الشاعر أن يبني بعض المفاهيم الأولية حول الامبراطورية التي يدشن فهمنا لها، امبراطورية أساسها ما ينعكس على مرآته، أو ما أحدثه هو في مرآته من ثقب، لكن هذه المرآة – في غرور الشعراء الذي لا يزال يلازم الشاعرية العربية منذ عنترة وإلى الآن – يحرص الجميع أن يتخذ موقفا منها، والموقف هذه المرة مقلوب، ليس أمام المرآة حتى يشاهد الجميع صورته، وإنما خلفها، إن المخاطب في هذه القصيدة من القراء، في نظر الشاعر هاربون من مرآة الشعر التي يخشون منها أن تعريهم وتكشف ما بهم، يقول الشاعر:
لأنكم تزدحمون خلف مرآتي
كوجه واحد
يصوب النظرات هادئاً
كما يصوب المحترفون
طلقة
طلقة
تقفز:
شارعا
فشارع
سنة بعد سنة.
وتتخطى مرحلة الهروب، إلى الرغبة في كسر المرآة، حتى لا تعكس شيئا، ولا يظهر فيها شيء، فَمَنْ خَلْف المرآة يحاولون كسرها بالرصاص، أو كسر صاحبها بالطعنات عبر السنوات، لكنه وفي محاولة لحماية مرآته من كسرها، يبتني بينها وبين الناس حائط، من ورائه حائط، وهكذا، يُصَفِّح الشاعر مِرآته الشعرية من الكسر بعدة حوائط مختلفة، ومن هنا تنشأ امبراطورية الحوائط، التي تقوم فيها الحوائط بحماية مرآة الشعر، وفي الوقت نفسه تخنق الرافضين للوقوف وتأمل ذاتهم أمام المرآة، لكن بماذا يفيد العنوان «ثقب» في هذه الحالة؟
فلنتأمل مقولة الشاعر:
ينبغي الآن أن أستريح
ينبغي الآن أن أبتني حائطا خلف حائط
وأن أنحني
خلف مملكتي
كإمبراطور أخير
لا توجد اشارة للطريقة أو الآلية التي تنفذ بها المرآة عبر هذه الحوائط إلى أولئك الرافضين للوقوف أمامها، ولكن العنوان، وهو عنصر مؤثر في أي قصيدة، باعتباره نص يقف بأكمله مساويا للنص الأساسي، يوحي بأن خلف وبين كل هذه الجدران المتعددة، توجد آلية ما، طريقة ما، ثقب ما ينظر من خلاله الشاعر إلى واقع الذين لا يرغب في أن يتحدث عنهم، ويكشفهم على مرآته، ومن ثم فإن ما يلي ذلك من قصائد سنفهمه في إطار هذه التعرية المرآوية المصفحة بحوائط قد تمنع البعض من رؤية ذاته في ديوان له سمته الخاص وعالمه الخاص.
عالم سرعان ما تتحول حوائطه السميكة، إلى جدار رقيق من الأرابيسك، رقيق لكنه مؤلم، يقول الشاعر في القصيدة التالية «أرابيسك»:
هو حاجز من الأرابيسك بيننا وبينهم
تلحسه المدافع وتقيمه الصلوات
يتبادل عبر ثقوبه القتلة والجنرالات
الجماجم
والأهلة
والأوطان
والنياشين
ليست العبرة هنا بالتلميحات التي يشير إليها (طه) بين فصيلين وفئتين مختلفتين من البشر، بل بالطريقة الفنية التي يبنيها بها، لقد تحولت الحوائط الجدارية الضخمة التي تتكون منها الامبراطورية إلى جدران أرابيسك، يرى الإنسان كل ما هو خلفها، وتتشابك كل عناصرها معا، لكنها من الغلظة بحيث أنها تقف حاجزا مانعا نفسيا ومعنويا ضد التواصل.
سرعان ما تتوالى الاسقاطات التي تدخل السياسي فيما هو انساني فيما هو يومي، ما بين الاشارات التي يتقن الشاعر تماما التفرد بإعادة تركيب الواقع من جديد، لتصبح «شبرا» كيانا مختلفا تماما عن ذلك الذي نراه كل يوم، عن ذلك الذي نعرفه ونعيشه، يقول (طه):
تتصعلك في العالم منفرداً
تبحث عن شارع يشبه شبرا
ومقاه تشبه مقهى البستان
تدخل باراً تدعوه المخزن
وتحادث أجساداً من خزف
ووجوها تشبه أضرحة
لم يعد الشاعر هنا مهتما بأثر ما يقوله على الواقع، أو التأثير فيه، وإنما مهتم بكيفية ايصال رؤيته للواقع، ومحاولة غرس وعي جديد لآلية الادراك لدى القارئ المتلقي للنص، بل ربما لم يعد حتى مهتما بالشكل الكتابي الذي يقدم به رؤيته، فالنص الذي يتوسط القصائد والذي يحتل اسم «حكاية»، لا نعرف محله الشكلي بين قصائد الديوان، لماذا جاءت هذه الحكاية الآن ؟ ما تعنيه؟ ما الشفرة التي تحملها كلمات الشاعر/ الحكاء عندما يقول:
فإذا قدر لك الوصول ، وقد تبددت الكاسات التسع، ستجد أوراق بحثك وقد
رتبت كالآتي:
1 كازنتزاكي وجريكو
2 بابلو نيرودا والنشيد العام
3 حسن حمدان ونمطط الإنتاج الكولونيالي
4 جيفارا والحرب الشعبية
ستكتشف أيضا أن الأمر يزيد غموضا
فالأوراق هي الأوراق
لتكن أكثر طوباوية
وأقل خضوعا للشهداء
ولتكتشف عورة هذا الورق.
وبغض النظر عن الرمزية التي تحملها الأسماء السابقة، فإن أحيانا رغبة حيازة اللغة الخاصة في تيار التجديد قد تأتي بما نراه في ضوء معطيات تحليلنا مجاني الدلالة، من الصعب كشف دلالته الكاملة والتواصل معه.
تحتل شخصية (أنور كامل) بتاريخها الممتد في الثقافة العربية منذ واقعة بيان تأييد الفنون الطليعية في 22 ديسمبر 1938م انتهاء برحيله في التسعينيات وما بينهما من مسيرة مقلقة للسلطات، ومناهضة للصهيونية، بما تبوأه من مقاعد صحفية، وما أصدره من كتب، قد لا يكون محل ذكرها هنا مناسبا، لكن هذه الشخصية برمزيتها احتلت في الديوان مساحة كبيرة، ما بين «بورتريه أنور كامل»، ثم مجموعة قصائد تحمل اسم «بورتريه نهائي لأنور كامل»، ينضوي تحتها اثنى عشر قصيدة، بينما اختص «جورج حنين» أحد المرافقين لـ(أنور كامل)، ورائد تيار السريالية بقصيدة واحدة حملت اسمه مسبوقة بـ«بورتريه».
ومن بين هذه القصائد التي علينا أن نعترف بإبداعيتها جميعا، تعجبني أكثر القصيدة التي تحمل عنوان: «كيف سألت الآلهة عن ضريح أنور كامل»، ففي العنوان ليس فقط طرفة تحويل (أنور كامل) لهالة من التقديس، سوف يعود سريعا الشاعر لنفيها في قصيدة لاحقة، أقصد نفي التقديس باعتبار أنه ليس مفضلا عند (أنور كامل) نفسه، وإنما صياغة طريقة التنبيه لأهمية ومقدار العمق والتأثير الذي يجدر لـ(أنور كامل) أن يتخذهم في الثقافة العربية – من منظور الشاعر (أحمد طه)، يقول:
ولا بد من عالم داكن
تتعثر فيه الآلهة التي صنعته
وهي تبحث في حطا المدن الدارسة
عن أثر واحد
يعود إلى الماضي
سوف أقودهم كالعميان بين الخرائب
التي تعرفها قدماي
مشيراً إلى ما تبقى
من الفولاذ
والبلاستيك
والأعضاء الجنسية المعلبة
وسأكذب عليهم ما استطعت
كما يفعل المرشدون السياحيون
حالة التراكيب التي تتولد من هلام المعنى، أو من تشظي المعنى فيتم تجميع كل ذلك معا، كفسيفساء لا يمكن رؤية الصورة إلا بالنظر إليها كلها من بعيد، فالمعنى القريب مجرد شخص سوف يأخذ الآلهة ويكذب عليها مثل المرشد السياحي، لكن دلالات استحضار قيادة العميان في الخرائب، والأعضاء الجنسية المعلبة، كلها تراكيب تضيف للصورة الشعرية بعدا من القضايا التي تتلامس معها وتطرحها – دون أن تقول عنها شيء في الحقيقة – وربما هذه احدى أسرار (أحمد طه) أنه في النهاية هو لا يقول شيء عن قضية بعينها، لكنه في الوقت نفسه يقول الكثير عن كل القضايا، هو لا يختص موضوع بعينه في طرحه، وفي الوقت نفسه يجيد رصافة مواضيع عندما تقترن بذاتها تصبح على نحو مختلف ذات معنى مختلف، تأمل ذلك في مقولته:
سيسألني كبيرهم بصوته الوقور:
ماذا تريد أيها العبد الحي.
سأركع تحت ركبتيه
وأنا أكتم قهقهاتي
وأرتل بصوت خاشع
المزيد من المدن العامرة
المزيد من ال تي إن تي
والمزيد من الفاليوم.
لا يريد الشاعر شيئاً، أو ربما ليس لديه ليقدمه أكثر من تشاؤمه، أو أكثر من انتقاد تشاؤمنا، كل احتمالات المعاني ونقيضها واردة فيما يقوله (أحمد طه) لكنه بالتأكيد قدم مرآة شعرية تصور عبثية الواقع الذي نعيشه على شكل يستحق القراءة والتأمل.