مدينة تحكمها النساء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

هذه حكاية مدينة تحكمها النساء.

هي مدينة جميلة، هادئة، حالمة، سحرية، ساحرة، يحيط بها البحر، يحتضنها، يطوقها، يحاصرها، يقضم أطرافها من جميع الجهات ويهم بابتلاعها في أية لحظة.

مدينة خرافية، قارة (أطلانتيك) مهددة بالغرق.

في المساء، تنكسر الأمواج على الصخور والأسوار، تجتاحها رائحة الرطوبة وطعم الملوحة، تهب عليها بانتظام رياح الشرقي وزمهرير تيار الكناري البارد، تتمايل، تترنح، فتبدو مثل مركب مثقوب ومتهالك في مهب الريح، ولكنها لا تغرق، تماما كما في الأساطير.

وجه مدينتي بسيط، مشع وشفاف، ولكن قلبها أسطوري، غامض وملغز، يعج بالأسرار.

عندما سمعت الحكاية للمرة الأولى، اعتقدت أنها نسيج خيال منفلت وجامح.

انتبهت مبكرا إلى أن مدينتي مختلفة، وأنها لا تشبه المدن الأخرى في كل بقاع الدنيا.

في مدينتي يمتزج السكان والسياح والغرباء، يذوب بعضهم في بعض بشكل يكاد يكون مثاليا، يسيرون في الشوارع بعفوية، يبدون في منتهى الهدوء، منطلقون، مسالمون، متصالحون، يبتسمون، يتبادلون التحايا والمجاملات.

لست أدري من اتخذ القرار، ولكنه قرار يذكرني بجمهورية أفلاطون، ففي مدينتي لا وجود لأضواء المرور، أما إشارات المنع والإجبار الحمراء والزرقاء فقليلة جدا، قليلة إلى درجة أنني ألهو وأتسلى بعدها عندما أنطلق في جولتي اليومية وأخترق شوارعها في اتجاه الكورنيش.

حتى الشرطة في مدينتي ليست مخيفة، رجالها أشخاص وديعون، رغم أزيائهم النظامية ورغم الأسلحة المشدودة إلى أحزمتهم، يقفون في ملتقى الطرق، وعند المداخل الرئيسية للمدينة، يحيون المارة، يبتسمون، وبإشارات صامتة يرحبون بالسياح والغرباء، ينظرون بفرح لحركة التلاميذ المنطلقين ذهابا وإيابا إلى المدارس، ينظرون بعتاب وأحيانا بغضب لأصحاب الطاكسيات المستعجلين، يتحدثون بين الحين والآخر في هواتفهم النقالة، وفي المساء يلتقطون صورا لمنظر الغروب عندما تتوارى الشمس وتنسحب ببطء وراء الجزيرة.

أحيانا كثيرة أفكر أن رجال الشرطة والسياح والأطفال والقطط والكلاب والنوارس جزء من أسرار مدينتي وقلبها الغامض، تماما كما البحر، والجزيرة، والمتاحف، والبازارات، ومحلات الأنتيكا التي تمتزج فيها روائح البهارات والرطوبة بعبق التاريخ والمدافع البرونزية التي تحرس البوابات ومداخل المدينة وتستشرف الأفق فوق الأسوار والأبراج والقصبات…

ومع ذلك كان ينبغي أن تمر سنوات لأكتشف أن مدينتي لا تكشف وجهها إلا لتخفي وراءه وجهها الآخر.

كان ينبغي أن تمر سنوات لأكتشف أن مدينتي لم تتخل أبدا عن سلطتها رغم المظاهر ورغم طابعها المسالم، سلطة خفية، مراوغة، تخترف تفاصيل المدينة وتتسرب إلى مسامها بهدوء وصمت…

للسلطة في مدينتي وجهان متناقضان، سلطة الرجال، وسلطة النساء.

سلطة الرجال في مدينتي مجرد مظهر وقناع، سلطة مزيفة ورخوة، قصب أجوف، النخوة على الخواء، منظرة بلغة المصريين…الرجال في مدينتي يشتغلون فقط، يشتغلون ليلا ونهارا، يحرصون على شواربهم، يدهنونها، يشذبونها، يصبغونها إذا اقتضى الأمر، فهي الشيء الوحيد الذي يرمز لفحولتهم.

وبالمقابل، فالنساء في مدينتي يمتلكن سلطة حقيقية، يذهبن للتسوق، يرافقن الأبناء إلى المدارس، ينتظرن عودتهم، يذهبن للسينما، يشاهدن التلفاز، فهن مدمنات دراما ومسلسلات (الأزرق، دالاس، قلب الماس، بنت الأيام، المنزل الصغير، العصافير تختبئ لتموت، نساء يائسات، بنات لالة منانة، في بيتنا رجل…) يقرأن روايات (عبير) الرومانسية، يهيئن الحلويات، يحتفين بأعياد الميلاد، يقتنين فساتين وحلي جديدة، ويحددن لون الستائر، وشكل التحف التي تزين البيوت، وفوق هذا كله يمارسن حريتهن في اختيار العشاق، عشاقهن…

يبدو الأمر غريبا، غامضا ومستعصيا.

البعض يرى أن الأمر يتعلق بسطوة الهرمونات، البعض يربطه بالغواية وجرثومة الخيانة، البعض يعتقد أن الأمر مرتبط بهموم الحياة، وضغوط العمل وانشغالات القفة والمصاريف ورائحة السمك والعرق التي افقدت الرجال كثيرا من جاذبيتهم، والبعض الآخر يعتقد أن الأمر مرتبط بالحرية، الحرية في أن يكون الإنسان حرا، وأن يكون سعيدا…

النساء في مدينتي يعرفن أن السعادة تركيبة مرة، مكلفة وباهظة الثمن، فلا سعادة بدون متعة، ولا متعة بدون حرية، ولا حرية بدون التمرد على السلطة، سلطة الرجولة، وقيود القبيلة، وأسفار القبيلة…

في مدينتي اكتشفت النساء مبكرا أن السلطة تتفسخ، تتآكل، تذوب، تتلاشى بمجرد التمرد والرفض!!

يستيقظ الرجال باكرا، يخرجون إلى العمل، يدخلون من العمل، يدخلون للبحر، يخرجون للبر، يخرجون للبحر، يدخلون للبر، يدخلون، يخرجون…

دوامة حقيقية!!

تخمل النساء الغرف، يعدن ترتيب البيوت، ينشرن الغسيل، يهيئن وجبات الطعام، يغتسلن، يتبرجن، ويخرجن للقاء العشاق…

مدينتي تحكمها النساء.

اسمه (بوشعيب) إسكافي، نصف أمي، قامة طويلة، بشرة بيضاء بلون القمح، وجه وسيم، باسم، منقط بشامات الزين، شارب أسود قوي، عينان كحليتان وكبيرتان، يشتغل في حانوته الصغير، يصنع أحذية نسائية مزينة بخيوط من الحرير، مذياع صغير، علبة سجائر سوداء، كأس شاي، مطوي وسبسي منقوش، صور لأم كلثوم، فريد، أسمهان وعبدالوهاب، شادية وعماد حمدي، ملصقات لأفلام هندية ومصرية (دوستي، أموت من أجل أمي، الوسادة الفارغة، هكذا الأيام، بئر الحرمان، الراقصة والسياسي…)

بدا الأمر في البداية غريبا مثل حكاية عجيبة، محيرا، ملغزا ولا يصدق، ف (بوشعيب) يبدو بسيطا وعفويا إلى حد السذاجة، ولكنها المظاهر، نعم المظاهر، فقد تأكدت فيما بعد أنه العاشق الذي تتحدث عنه الإشاعات، العاشق الوحيد لكل نساء المدينة.

ثم بدا الأمر أكثر غرابة فيما بعد، فالنساء في مدينتي يعرفن أن (بوشعيب) متزوج، ويعرفن أنه متعدد العشيقات، كن متواطئات، فقانون العلاقة، يقضي أن تقبل العشيقة بأن تكون جزءا من حريم (بوشعيب).

تلتقي النساء في فضاءات المدينة، في الأسواق، في الحدائق، في الكورنيش، في الحمامات… وينظرن لبعضهن نظرة خاصة:

–  لست وحدك…إنه لي أنا أيضا!!

–  لست وحدك…أنا أيضا عشيقته!!

دخلت حانوته يوما، فوجدت سيدة جميلة تجلس أمامه، تجرب حذاء مزينا بخيوط من الحرير الأحمر، يشد هو الخيوط الحريرية، تلامس أصابعه الرفيعة قدميها، تبتسم نشوى، تنظر إليه نظرة سكرى، تضحك، تتمايل، إلتفت، ألقى إلي نظرة خاصة، عرفت مباشرة أنها جزء من حريمه!!

توطدت علاقتنا فيما بعد، أصبحنا صديقين، سألته عن الحكاية، الأقاويل، الأسرار والإشاعات، أطلعني على ألبوم عائلي كبير يضم صورا لنساء المدينة، نساء من كل الأعمار… بيضاوات، شقراوات، سمراوات، زنجيات، جميلات، ذميمات…

خصلات شعر من كل الألوان، أسود، بني، أحمر، أشقر، أشقر مزيف…

أزهار، ورود مجففة، مناديل معطرة، مرسومة ومطرزة بخيوط حمراء، سهام منفلتة، دموع، آهات وقلوب منفطرة…

غادرت المدينة.

مرت سنوات…

وتفجرت القضية على شكل فضيحة، قدم الرجال تنازلا جماعيا عن متابعة زوجاتهم بالخيانة، وتوبع (بوشعيب) بتهمة التحرش والتغرير بالقاصرات!!

مقالات من نفس القسم