أحمد شافعي
كانت عيناي تتنقلان بين الموبايل واللابتوب، ففي الأول لقاء عمل بدأ على تطبيق زوم قبل أيام ولن ينتهي قبل أيام، وفي الثاني ملفات كلما ظننت أنا وزميلان من المغرب والسعودية أننا انتهينا منها إذا بها تتوالد وتتكاثر بلا شفقة. وفي ثنايا ذلك، جاءت رسالة من أخي الأصغر، قصيرة، وحادة: البقاء لله، أستاذ محمد حمْيَر توفي اليوم، والدفنة بعد صلاة المغرب. شد حيلك!
ثلاثة أرباع عمري انفرطت أمام عيني، حائلة بيني وبين الشاشتين، ثم حائلة بيني وبين ما حولي. مضت تطاردني مشاهد نفضت عن نفسها الغبار وارتدَّت ناصعة كأنما لم تجر قبل عقود. تظهر لي في سجودي وشرودي ونومي، لا يبدو أنها يمكن أن تنتهي، ولا يبدو أنني أريد أن تنتهي.
رأيتني طفلا، في شارع ضيق من القرية، كثير المنحنيات، صاعد إلى ذروة ثم منحدر بعدها، أسير مع أبي إلى بيت الأستاذ محمد حمير، أو محمد السيد إسماعيل كما تعرفونه في أغلفة كتبه وتوقيعه على مقالاته.
رأيتني تلميذا في ثانوي يصر أن يجري حوارا مع أستاذه هذا في الإذاعة المدرسية، فيرفض الأستاذ في البداية، ثم يوافق أخيرا، ليسأله التلميذ عن قصيدة النثر التي لا يعرفها أو يبالي بها في المدرسة كلها غيرهما.
رأيتني شاعرا صدر ديوانه الأول فقير الطباعة، والبضاعة أيضا، وجاء أستاذه يناقشه في ندوة أقيمت ببيت الثقافة القريب.
رأيتني مترجما في أول عهده بالوظيفة يستأذن ساعتين قبل موعد الانصراف ليحضر مناقشة أستاذه لرسالة الدكتوراه في دار العلوم.
رأيتني طفلا ومراهقا وشابا وكهلا، ورأيته حاضرا في كل تلك الأطوار.
رأيتني في الرابعة عشرة من عمري، أحمل ورقة توصية من أستاذي للشاعر المنجي سرحان كي ألقي قصيدة في مخيم الإبداع بمعرض الكتاب. فخورا أمام مئات الجالسين على جمر في انتظار أن تنتهي فقرة الشعراء وتبدأ فقرة الرقص الشعبي.
رأيتني وعمري ستة عشر عاما أسير في القاهرة، وحيدا للمرة الأولى، بهدي من وصفة الأستاذ الدقيقة السهلة منذ مغادرة محطة مترو السادات “عند مخرج طلعت حرب” وحتى الوصول إلى الأتيليه في شارع “اسمه كريم الدولة”.
رأيته معلما يشرح لي البلاغة في الفصل، وصديقا يقرأ لي مسودة قصيدة في الفسحة.
رأيت أبي وأباه وأصدقاء عرفتهم من خلاله وبحماية منه.
رأيتنا نتجاور بالصدفة، في قاعة الندوات الرئيسية بمعرض الكتاب، نستمع لجمال الغيطاني محاورا ممدوح البلتاجي! أفسر له وجودي بأنني مفتون بالغيطاني حتى لو حاور وزير الداخلية لا وزير السياحة أو الإعلام، ويفسر لي وجوده بأنه يعمل على رواية للغيطاني في رسالة الدكتوراه وبينهما موعد بعد الندوة.
رأيتنا نتجاور أيضا، لكن على حصيرة في مقر الحزب الناصري في القرية، والأستاذ يحاضر عن التفكير في الإسلام، أو شيء من ذلك القبيل، ويطول كلامه كثيرا، وأستأذن في الانصراف فور انتهائه، خشية أن يثير تأخري ـ وأنا طالب الثانوية العامة ـ مشاجرة أخرى مع أبي. ويعترض المتحدث الآخر في الندوة، زوج خالتي المفكر الإسلامي الرصين د. السيد عمر، قائلا إنني لا بد أن أسمع الرأي الآخر، وأن هذا أهم من الثانوية العامة. ورأيت الرجلين يتفقان في النهاية على تأجيل الجزء الثاني من المناظرة ليوم آخر أستطيع حضوره، في حنان وحرص على ولد صغير.
رأيته يزورني في غرفتي ببيتنا القديم، فأسمعه قصيدة طويلة، يسألني بعدها: “من فيفيان هذه؟” فأقول “فتاة أحبها” فيقول “وإياك أن تتركها”.
رأيتني وقد تزوجتها.
رأيتني في طحانوب، قريتنا، أزوره كل أسبوع، ورأيتني وقد اغتربت في مسقط فبات أغلب العام ينقضي دون لقاء، ثم وقد أقمت في القاهرة وجرفتني الدنيا، ثم الآخرة.
رأيتني قبل شهر واحد، منهكا في نهاية يوم عمل طويل، أحضر ندوة أقيمت في حزب التجمع لمناقشة ديوانه الأخير. ويضبط أحد الحاضرين خطأ لغويا في قصيدة له. وأعثر في جوجول على مخرج ـ وإن لم أقتنع به ـ من الخطأ. ورأيتنا بعد الندوة نرتب للقاء قريب لم يقدَّر له التمام.
***
تنتهي أيام العمل الشاقة عبر تطبيق زوم. بعد قراءة تسعين مقالا، ومقابلة تسعين شخصا لمناقشتهم في ما كتبوه. فعلا؟ هل هذا الرقم حقيقي؟ هو إذن الرقم القياسي في حياتي للحديث مع غرباء. متى أصلا سمحت بمثل هذا الاحتكاك اليومي بالناس، أو بنصفه، أو حتى بعشره؟ لا يكاد كل ذلك ينتهي، حتى أتناول رواية أوقفني العمل عن إتمامها، وكتبا قليلة أخرى أريد أن أنفرد بها، وكل ما لدي من تبغ وبن، وأترك القاهرة ورائي، وابنةً لم تنه بعد امتحانات آخر السنة، وابنا يستعد خلال أيام لخوض امتحانات الثانوية العامة، وزوجة سوف يجن جنونها ولا شك في غياب أي دعم، وأولي شطر طحانوب. غايتي الواضحة هي العزاء، مع أنني أعرف أنه لا عزاء.
فور دخولي شقتي الخاوية، أمضي رأسا إلى الغرفة الملأى بالصناديق الورقية، في أحدها ولا شك عشرات أشرطة الكاسيت. لن يكون البحث صعبا. ليس عليَّ سوى استبعاد أشرطة صوت الفن الخضراء، ثم أي أشرطة أصلية أخرى، للتركيز على الأشرطة الخاصة التي سجلتها بنفسي، ومن هذه عليَّ أن أبحث عن شريطين لندوة أقيمت في بيت ثقافة شبين القناطر لمناقشة ديواني الأول فور صدوره. أي نقلة زمنية من تطبيق زوم إلى شريط كاسيت.
ناقشني في تلك الليلة الشاعران أمجد ريان، ومحمد السيد إسماعيل. ولست بحاجة إلى أن أسمع تسجيل الندوة، لكن حاجتي ماسة إلى أن يكون الشريطان موجودين.
لا يزال حاضرا في ذاكرتي، دونما استماع إلى الشريطين، ما يعنيني من الندوة. لا أزال أتذكر بوضوح غلطتي ليلتها. كنت جالسا على طرف المنصة، وإلى يساري محمد ثم أمجد. كان ديواني الأول، فكان طبيعيا أن يكيل الصديقان الكريمان المديح بلا حساب. لكن غير الطبيعي هو أنني لم أكن أعرف بعد طريقة أخفي بها حرجي مما يقولانه. فما كان مني إلا أن أخذت أنظر إلى صديق لي، مبديا دهشة مما أسمع أو استنكارا، أو أي تعبير آخر أوحى للحاضرين بأن ما يسمعونه لا يستحق وقتهم، فمضوا في أحاديث جانبية أثارت ضيق الناقدين. لعلهما الوحيدان في الندوة اللذان لم يفهما سبب انصراف الحاضرين عن حديثهما. سأتعلم بعد ذلك أن الطريقة المثلى لاجتناب حرج كهذا هي منعه من المنبع، فلا أوافق إلا لمامًا على تنظيم مناقشة لأي من كتبي.
ولا يزال هذا أيضا حاضرا في ذاكرتي. في الديوان قصيدة عن فتاة ترفض كوب لبن. فيها:
يقول الطبيب
وربما الأم من قبل
إن الحليب…
ولا بدَّ…
من أجل أن…
– “لا أريد”.
وسط لغط الحضور، قال محمد السيد إسماعيل إن هذه القصيدة تبتر ما تقوله الأم، وما يقوله الطبيب، تبتر النصيحة وإن تكن سديدة، والتنبيه وإن يكن في محله، ثم تأتي إلى رفض الفتاة وعنادها فتثبته كاملا، بنصه، بل وتضعه بين أقواس، مسبوقا بشرطة، ومتبوعا بنقطة، كأنما لا مجال لحديث بعده، أو كأنما هو الحديث الوحيد الجدير بالتدوين.
هل خرجت من تلك الندوة بأثمن من هذه الملاحظة؟ أعني منحه لي سببا إضافيا لأن أحب إحدى قصائدي.
وهل أنا بحاجة حقا إلى شريطي الكاسيت؟
وفيم إذن كل هذا التراب الذي أغرق فيه نفسي كأنني أحفر قبرا أو بالأحرى، أنبش في قبر؟
***
لا يزال ماثلا في ذاكرتي ذلك اليوم في ثمانينيات القرن الماضي، حينما اضطربت شوارع القرية، بمطاردات وملاحقات، وربما بأصوات رصاص. كنت أصغر من أن أشهد بعيني، لكني سمعت شذرات من أحاديث عن إحراق صناديق انتخابية، وخروج مندوبة معينة من مندوبي الحزب الوطني مذعورة من اللجنة، واعتقالات بعض الشباب.
ربما لم أر بعيني شيئا من هذا، لكنني رأيت ما سبقه على مدى أسابيع من حرب لافتات استعرت في الشوارع بين خالد محيي الدين الذي كان يخوض الانتخابات في دائرتنا، لا في كفر شكر دائرته المعتادة، وبين مرشح الحزب الوطني الذي سأقرأ بعد سنين أن عائلته تنفرد بتمثيل دائرتنا في كل برلمان مصري منذ القرن التاسع عشر.
في غضون سنوات قليلة سأعرف شخصيا أحد الشباب الذين ترددت أنباء اعتقالهم. لن ترقى علاقتنا إلى صداقة، فقد حال دون ذلك فارق في السن، وفي السمعة، والأخير أهم في نظر أبي. كان ذلك الشاب محاميا، أو خريج حقوق على الأقل، ويساريا، أو عضوا في حزب التجمع على الأقل، وكان يبدو في مشيه الكسول بالقرية نافدَ الصبر بالناس، متعاليا عليهم، فكان من الإنصاف في المقابل أن رماه أهل القرية بالجنون أو بالإلحاد أو بكليهما.
بعد سنين قليلة، وأنا في الجامعة، سيزورني ذلك الشاب في البيت، ولا يكاد يجلس في غرفة الضيوف، حتى تستقر بيني وبينه صينية الشاي، وملف يفتحه طالبا مني أن أساعده في ملئه. كان الملف باللغة الإنجليزية، ومن هنا الاحتياج إلى مساعدتي. بدأت أقرأ وأترجم. لم يبق في ذاكرتي من ملف الهجرة ذلك إلا قائمة الوظائف الأعلى حظا في القبول. اختار من بينها وظيفة بحار.
لم أسأله لماذا اختار مهنة البحار، ولا سألته لماذا اختار من بين كل بلاد العالم أبعدها في المكان والزمان: أستراليا. ليس لأنني كنت أعلم الإجابات سلفا، ولكن لأن الإجابات كانت تظهر على وجهه تباعا، وبجلاء تام. أقول في دهشة “أستراليا!”، فأرى على وجهه “نعم” كبيرة، شاسعة، بعيدة، ليس في أفقها الرحب غير كنغر واقف على قائمتيه الخلفيتين شارد العينين. وأقول في عجب “من محام إلى بحار”، فيغمض عينيه كمن يتقي ريح المحيط العاصف وينتشي بها في الآن نفسه.
لم يكن لديه كثير لملء خانات الملف، ولا قليل. وفي نهاية الجلسة التي طالت قليلا، قلت له “أنت تعرف طبعا أنها محاولة منذورة للفشل” فضحك للمرة الأولى ضحكة صاخبة وقال “طبعا”. ولم يتبعها بقوله “شأن كل شيء في حياتي”.
سيموت “رائف” بعد سنوات قليلة، غير تارك زوجة أو ولدا، أو حتى سيرة يمكن أن توصف في القرية بالطيبة والعطرة. وربما لم يبق الآن أحد ممن يمكن أن يتذكروه بخير أو بشر. فقد مر أكثر من عشرين سنة على وفاته، حاصدة في طريقها كارهيه ومحبيه. لكن ها أنا أتذكره إذ يموت صديقه وصديقي، محمد السيد إسماعيل.
في بيت محمد فقط، من كل البيوت التي كنت أعرفها، كان يمكن أن أقابل رائفا غير المنبوذ، رائفا الهادئ، مأمون الجانب، الذي لا يفاجئك بغضبات جنونية، الظريف الذي يعرف كيف يلقي نكتة، الرصين عندما يتحدث، القادر أن يستشهد عند اللزوم أو الرغبة في الاستعراض بمهدي عامل، والذي قد يدندن لنفسه في لحظات الصمت بأغنية لمحمد فؤاد إما أنها “مواعداني وطال الانتظار” أو أنه لم يبق لي أمل في أن أتذكرها.
ليس رائف وحده. ففي بيت محمد السيد إسماعيل اقتربت من منبوذين آخرين، أو مختلفين وحسب، فانغرس في وعيي مبكرا أنني يجب ألا أقيم وزنا لإجماع. ليس بغير تمحيص. وربما في مثل أهمية ذلك أنني تعلمت أنه يمكن أن يصاحب المرء الصعاليك وشذاذ الآفاق وغير القادرين على قبول ما حولهم أو احترامه، ويبقى على اتزانه، معلما وقورا في الفصل، متحدثا جادا في الندوة، سياسيا ملتزما في الحزب، وشاعرا متخفيا طوال الوقت.
***
لا أستطيع أن أحدد السنة بدقة، ولن أبحث في جوجول عن تاريخ حصول محمد السيد إسماعيل على جائزة النقد الأدبي من مجمع اللغة العربية. لن أرفو بجوجول خرقا ما كان يجدر أن أسمح به أصلا في ذاكرتي. كنت قد زرته بعد أسابيع من فوزه بتلك الجائزة، وما كدنا نجلس حتى هنأته، بطريقتي: كيف لجائزة يمنحها مجمع اللغة العربية نفسه ألا تلقى حقها الواجب من الحفاوة والتغطية الإعلامية؟ وكلمته عن الأكاديمية الفرنسية التي كلما انضم إليها عضو صار ذلك نبأ يذاع، وواقعة يدونها التاريخ. فافتعل الدهشة، وأظهر احتراما لكلامي، وقال دون أن يعني حرفا من قوله: والله عندك حق. وفهمت أنا برغم القسم أن الأمر في نظره هيِّن.
ثم إنه قال، سأحكي لك قصتي مع هذه الجائزة. قال إنه لم يسمع عنها من قبل، لكنه قرأ خبرا في الأهرام، جاء فيه أن آخر موعد للتقدم للجائزة في غضون أسبوع، وأن الثيمة المحددة للتسابق هي الكتابة عن شوقي. قال: جئت بالشوقيات، وجلست. أشار إلى طبلية صغيرة كان يكتب عليها حتى ذلك الحين، قبل أن ينتقل من القلم والورق إلى الكمبيوتر، وليته ما فعل، فقد بقيت ملفاته على مدار السنين أشبه بغلال من الكلمات منثورة نثرا على الصفحة البيضاء، يلزمني حتى أقرأها، أن أقضي في تنسيقها وضبطها وقتا غير قليل.
قال، جلست أقرأ الشوقيات بالترتيب، وكلما قرأت قصيدة دونت عنها ملاحظات، وهكذا حتى انتهى المجلدان، في كم يوم بقى؟ في يومين اثنين. ثم جلست في يومين آخرين أو نحو ذلك فكتبت الكتاب، وأخذته كما هو فشاركت به، وفزت.
طبعا، لم أسأله: لماذا لم تبدأ بالنسيب؟
كان قد قابلني بالمصادفة وأنا راجع من المدرسة الإعدادية، فسألني باسما ومشفقا عما يثقل حقيبتي المدرسية المكتظة. أخرجت له بفخر صبياني ديوان حافظ. كنت قد استعرته من مكتبة المدرسة في الأسبوع الأول من الدراسة، وظللت لشهور أتنقل به حيثما ذهبت، مفتونا بما أقرأ. وكعادته، أثنى عليَّ، ثم سألني إن كنت قرأت الشوقيات، فقلت لا. قال إن رأيتَ أن تقرأها فـ”ابدأ بالنسيب”، وقال إن النسيب هو الغزل.
في ذلك اليوم، كان قد مر نحو ثلاثة أعوام على لقائنا الأول، إذ قال لي أبي في عصر يوم صيفي، هات قصائدك وتعال. كان قد أخبرني من قبل أنه سيأخذني ليعرفني بشاعر من البلد اسمه محمد حمير، درعمي، معه ماجستير في الشعر، ومعلم لغة عربية، ويسكن على مقربة من (الجامع الكبير). قال أبي، سأتركك بعد أن نشرب الشاي وأذهب إلى عمك محمود عبد الصمد، يقصد صديقه الوحيد الذي كان بيته أيضا على مقربة من الجامع الكبير. فلعل ذلك كان أول إرث لي من أبي: أن يكون أقرب أصدقائي أنا الآخر مقيما قرب الجامع الكبير.
هيأني أبي مسبقا، خشية أن تغلبني طفولتي فأبدي حينما أراه دهشة تؤذيه. ولكنني، خلافا لأي صورة كونتها قبل رؤيته، رأيت مودته الفائضة وكرم استقباله لنا، فكانا أوضح كثيرا من قصر قامته الذي أنبأني به أبي. أخذت أُسمعه من كراستي أجود ما فيها، وهو يستزيدني، حتى قرأت كل ما معي، وهو يثني، ولا يعلق إلا بتصحيح خطأ هنا، أو ضبط هنة وزنية هناك، أو اقتراح كلمات أنسب للقوافي. ثم سألني عما أقرأ من الشعر فقلت فاروق جويدة. ابتسم بلا سخرية، وقال: ممتاز. ولما امتعض صديق له كان قد انضم إلينا، أشار إليه فأسكته. ثم التفت إليّ وقال: دعك من رأي الأستاذ أمين، يعني أمين الكرداسي، صديقه الذي انضم إلينا وأستاذ اللغة العربية في مدرستي الإعدادية. وتابع: واحفظْ من شعر فاروق جويدة ما استطعت.
لن ينقضي وقت طويل حتى أفهم سر امتعاض الأستاذ أمين، وسر مطالبتي بأن أحفظ ما أستطيع من شعر جويدة. سأرى التأثير في قصائد لي بات وزنها أكثر انضباطا. وسأرى أنني سرعان ما أتجاوز فاروق جويدة من تلقاء نفسي إلى غيره. وسأفهم بعد سنين لماذا لم يقترح عليّ الأستاذ كتابا قط، ولماذا لم يعرني مطلقا إلا ما أطلبه منه بنفسي. صحيح أنه كان معلما، وأني سأجلس بين يديه تلميذا في المدرسة الثانوية، لكنه سيحرص دائما على ألا أقفز قفزات قبل أوانها. تركني أكره الشعر الحر إلى أن التقيت بأمل دنقل، وقصيدةَ النثر إلى أن أوقعني في شركها الماغوط، بل لقد تركني سنين أوثر يوسف إدريس على نجيب محفوظ إلى أن أنار الله بصيرتي وعرفت لكل منهما قدره.
***
أعجب الآن كيف لم يبدِ ضيقا قط من مروري عليه كل أسبوع أو أسبوعين على الأكثر، بقصائد جديدة كتبتها منذ آخر لقاء فملأت من أجندتي البنية شهرا أو أكثر.
دونما موعد مسبق، فما من هواتف أرضية آنذاك إلا في بيوت قليلة، كنت أمر بالبيت فأنادي، ويأتي صوته من غرفة على الشارع في الطابق الأرضي (ادخل يا أحمد). كثيرا ما كنت أجده وحده، وكثيرا ما كنت أجد لديه رائف، أو أحمد بيومي، أو غيرهما من أصدقائه. وكثيرا أيضا ما كنت أذهب إليه مصطحبا بعض أصدقائي ممن لهم علاقة بالكتابة أو القراءة! ولم يحل شيء أو أحد قط دون أن يفرغ نفسه لي فأقرأ عليه، وأسمع منه.
كنت على أعتاب الثانوية العامة، وأخبرته أنني خلافا لما يراد لي في الأسرة والعائلة والمدرسة أعتزم الالتحاق بالقسم الأدبي، فسألني عما أعتزم دراسته في الجامعة. قلت “الفلسفة”، وكنت قد وقعت في غرام محفوظ، ولم يعد يملأ عيني أقل من الفلسفة. قال لي “ممتاز”، فلا بد طبعا من دراسة الفلسفة. ثم سألني إن كنت فكرت في ضرورة أن أقرأ بلغة أخرى بجانب العربية، وفي أن ذلك قد يعينني على قراءة الفلسفة، والشعر أيضا، بلغتين.
ذلك أقصى ما فعله من توجيه. لا أستطيع حتى أن أصف ما قاله في ذلك اليوم بالاقتراح. فقط أثار الفكرة، وتركها لي، أو تركني لها.
***
على مدار السنين، سيزورني مثلما أزوره. سيستعير مني روايات يحتاج إليها لأطروحته، وسأستعير منه كتبا لشعراء عرب، وأعدادا قديمة من مجلة فصول، سيكتب عن كتب لي مرات، وسأعينه في ترجمة فقرات من كتب يريد الرجوع إليها في بحث ـ لعله بحث الدكتوراه ـ وسيطلب مني أن أترجم موجز البحث إلى الإنجليزية. سنصبح كأننا صديقان، أو زميلان، يقرأ أحدنا مسودات الآخر، ونتبادل الرأي مثلما نتبادل الزيارات.
سيقيم، بعد سنوات قليلة قضاها مغتربا في ليبيا، بيتا مستقلا عن بيت أبيه الذي عرفته فيه، وسيقيم أبي بيتا غير بيتنا القديم، وسيكون البيتان الجديدان قريبين، فنصبح جارين أيضا، لا يفصل بين بيتينا غير بيوت قليلة. فنقترب بكل وجه ممكن.
كبرت في بيته، منتقلا من شرب الليمونادة بينما هو وأبي يشربان الشاي، إلى شرب الشاي فقط بينما يشرب هو الشاي ويدخن، إلى مشاركته شرب القهوة وتدخين السجائر، إلى أن يأتي الوقت فيقلع هو عن التدخين، وأدخن أنا وحدي.
وعلى مدار كل تلك السنين، لن أكبر على شيء واحد: فلن يحدث ولو مرة واحدة أن أناديه باسمه مجردا، فهو دائما الأستاذ، والدكتور، وإن خاطبت أنداده بأسمائهم المجردة، وإن تحولت علاقتنا إلى صداقة وطيدة.
لم أتخلص قط من إحساس التلميذ هذا تجاه الأستاذ محمد، لأنني ببساطة لم أحتج إلى التخلص منه. ولأنه لم يطلبه قط، خلافا لآخرين، صغار، يتسولونه تسولا، أو يدّعونه كذبا. كان يعرف، مثلما أعرف، أنه أستاذي.
قبل سنوات قليلة، كنت أستعد لإصدار ديوان، وأطلعت أصدقاء أثق في ذائقتهم على مسودته، وجاءتني ردود يفترض أن تطمئنني، ولم أطمئن. وبالمصادفة دعاني محمد السيد إسماعيل لأمسية شعرية في مكان ما كان يشرف على ندواته ولا أذكر منه إلا أن في اسمه شيء اشتراكي، وأنه غرفة شديدة البساطة في طابق أرضي من بناية بحي شعبي، وأن الأمسية لم تكن أكثر من مائدة تحلق حولها حضور لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، وأني قرأت من مسودة كتابي أكبر قدر ممكن، ثم انفردت بمحمد في طريقنا إلى المترو، فسألته عن رأيه. ورجعت إلى البيت فبعثت إلى ناشرتي مسودة الديوان.
***
طريقته التي كتب بها عن شوقي هي طريقته عموما في الحياة. بمثل تلك البساطة كان يفعل كل شيء. وبمثل تلك الثقة في قدراته.
في مناقشة رسالته لنيل الدكتوراه، وكنت أنذاك قد أصبحت مترجما في هيئة الاستعلامات، اعترض أحد مناقشيه على بنية بحثه نفسها. كان قد بحث عددا غفيرا من الروايات لرسالته التي تناولت في ما أتذكر “الرواية السياسية في مصر في الفترة من 1973 إلى 1993”. وكتب بضع صفحات عن الرواية تلو الرواية تلو الرواية، فرأى المناقش هذا شديد الإملال. والأمر ببساطة أن هذه طريقة محمد السيد إسماعيل. كان بوسعه أن يستعرض الروايات بعشرات الطرق الأخرى، ويصنفها تصنيفات مختلفة، لكنه في النهاية كان ليخلص إلى النتائج التي خلص إليها بتلك البساطة، فما الداعي إلى التعقيد؟
وفي مناقشة الرسالة تلك، حدث ما لا أزال كلما تذكرته أود لو تنشق الأرض وتبلعني. اعترض مناقش على مرجع معين رأى ألا علاقة له بموضوع الرسالة. كان المرجع كتابا من بضعة كتب باللغة الإنجليزية زارني بها الأستاذ محمد ذات يوم. قلت له وأنا أتصفح الكتب إنها معدومة الصلة ببحثه تقريبا، فأصر على أننا يمكن أن نجد فيها ما ينفع في تذليل عقبة شكلية تصر على احتواء رسالة الدكتوراه على نسبة معينة من المراجع بلغة أجنبية. دافع محمد عن مرجعه ذلك، وأشار في كلامه إلى أنه استعان عليه بمترجم “قديم” يعمل في هيئة الاستعلامات. ظللت جالسا في الصف الأخير من القاعة، أعد الثواني، غافلا عن كل ما يقال، منتظرا اللحظة التي تعلن فيها اللجنة منح الباحث درجة الدكتوراه، والعفو عن المترجم.
***
لم يكتب محمد السيد إسماعيل عن كتاب إلا ليظهر فيه شيئا يراه جديرا ولافتا، لا ليستعرض أدواته هو أو منهجه أو سعة اطلاعه. لم يقابل سخرية إلا بضحك، ولا استخفافا إلا بترفع وكبرياء. كان ممتلئا بنفسه، مدركا نفاسة ما اكتنزه في عقله وروحه على مدى عمره، ملتمسا لمن حوله العذر، غير مكترث فعلا بكل ما يلهث آخرون من أجله.
في لقاءاتنا الأخيرة، التي ندرت بتقدم السنين، كان يقرأ لي أحيانا من مسرحيات شعرية يكتبها! ولو أن أحدكم يعرف من يكتب مسرحية شعرية في زمننا هذا فليعلم أنه شخص نادر، لم تلهه دنيا الروايات وجوائزها وحفلات توقيعها عن سماوات فنون أخرى لا تزال قادرة على إضافة الجمال. شخص لا يطمع لكتابه في أرفف الأكثر مبيعا، ولا يضيره بقاؤه منزويا في أخفت أركان المكتبات إضاءة، وأقلها روادا، في انتظار أن يأتيه قارئ لا زبون.
ظل محمد السيد إسماعيل وفيا للشعر، يكتبه، ويكتب عنه، ويكتفي بصحبته، ويغني به روحه. وظل الإنسان حاضرا في شعره الأخير كما في شعره الأول. ظل لا يتعالى على ندوة، أقيمت في دار حضانة في قريتنا أم في جحر حزبي في هذه المدينة أو تلك، فيعطيها من الاهتمام مثل ما يعطيه لغيرها مما يقام في أماكن أرقى أو أمام جمهور أعلم. ظل يكتب عمن لا يعرفهم شخصيا، مثلما يكتب عن أصدقائه، بالقدر نفسه من الإخلاص والمحبة. وظل مثلما عرفته في طفولتي وشبابه، يؤاخي في حياته بين الشعر، والتزامه السياسي، وعمله الاجتماعي، ثابتا في مواقفه، منحازا للإنسانية والجمال، دونما مرارات أو أحقاد، أو انتظار جزاء.
*بدأت كتابة هذه السطور غداة وفاة الشاعر والناقد الأستاذ محمد السيد إسماعيل حَمْيَر (مثلما ننطق الاسم في طحانوب) في العشرين من مايو لعام 2025، عن ثلاث وستين سنة.
………………….
*نقلاً عن مجلة إبداع