عبد العزيز دياب
لا أدرى ما حقيقة الذي رأيته ليلة انفلات الطلق الناري.
الحكاية أنني منذ عام، اقتنيت لوحة لرجل يستريح على كرسي، أمام طاولة فوق أرض معشوشبة لحديقة، كان في بدلة لونها “طوبى”، يتمتع بصلعة نقية تخفف من ضراوتها شعيرات خجول في مؤخرة رأسه تزحف إلى قفاه. كان يداوم على قراءة كتاب بغلاف أزرق منذ أن علقت هذه اللوحة بباحة بيتي.
لإعادة اتزاني أمام جبروت هذا العالم كنت كل ليلة استخلص لنفسي بعض الوقت أتأمل خلاله اللوحة، أمامي النرجيلة وفنجان القهوة ومساحة لا بأس بها من التخيل، مساحة أستطيع معها الحديث مع قارئ الكتاب باللوحة أحدثه عن أشاء كثيرة: أسعار الدولار، تلال القمامة بالشوارع، انفجار بالوعات المجاري.
ولأنني وحيدٌ والليل غول ينهش بمخالبه في رأسي، فإن الحديث يطول بنا ويتشعب في كل المجالات إلى أن جاءت اللحظة التي انفلت فيها الطلق الناري، كان شرشًا ومباغتًا، لكنني رأيت في هدأة الليل أن قارئ الكتاب باللوحة قد انتفض لحظة انفلات الطلق الناري، ورأيته كذلك قد تململ، أشار إليَّ بكفه وهو يضم دفتي الكتاب وكأنه يسأل: ما هذا الطلق الناري؟
وكأنه اختزن أسئلة كثيرة لم يبح بها: هل هو طلق ناري طائش؟
“هل ستتبعه طلقات أخرى؟”
……………………..
أولاد “أدهم” ربما أخذوا بثأرهم من أولاد “محسوب”، وربما هذا الطلق الناري لإرهاب اللصوص أفراد عصابة “حمدينو” بعد جرائم عديدة ارتكبوها.
كان ينبغي أن يطول الحوار بيننا، لكنني كنت على عجلة من أمري بسب انفلات الطلق الناري وضجة بالشارع تناهت إلى سمعي، وقارئ الكتاب في اللوحة كذلك- ربما- وهذا حسب ظني- كان يتهيأ لمغادرة مكانه.
كنت أود أن أخبره أن الحرب كانت قائمة هناك في الخلاء البعيد وأننا ما كنا نستطيع النوم بسبب ضراوتها.
أخبره أن الساسة اتفقوا على خراب هذا العالم.
أن ولدي “حكيم” ترك الجامعة وذهب ليصطاد البط في بركة العباسة.
أن “سعاد” جارتي الشريرة ذهبت لإجراء مقابلة مع هتلر، اتفقت معه أن يغادر مقبرته ليمارس النازية مرة أخرى.
أن القطارات لم تعد اليوم بحاجة إلى قضبان.
أن الحقيقة صار لها ألف وجه.
كنت أود أن أقول له كل ذلك لكن الضجة التي حدثت عقب انفلات الطلق الناري، قد استحالت إلى صرخات مفجوعة، فتركت النرجيلة واللوحة وقارئ الكتاب، هبطت مسرعًا لأعرف ماذا فعل أولاد “أدهم” بأولاد “محسوب”.
وقعت الفاجعة واقتص أولئك من هؤلاء، ليس ذلك فقط، بل أنني رأيت رجل اللوحة، قارئ الكتاب في مكان الحادث بكل أناقته يشق زحام وتكاثف البشر ببدلته ذات اللون “الطوبى” وصلعته النقية، يحمل الكتاب بغلافه الأزرق، ولا يسخر منى أحد إذا قلت إنه كان يروغ منى ويتخفى في الزحام قبل أن اكتشف أنه ينتمي لعائلة “أدهم”، وأن اللوحة التي كان يسكنها بعد هذا الحادث صارت خاوية.