أكتبُ الآن لأنَّ هُناك نزيفًا لا يراه أحد لكنه يُغرقني ، يسحبُني لفوهةٍ سوداء ، أنا فراغٌ كبيرٌ أبتلعُ كل شيء حولي مهما كان حجمه ، حاولت مراراً أن أسد فوهتي ، كنتُ كل حين أنثر أشياء صغيرة بجوار بعضها لكنها لا تظل إلا عمرًا قصيرًا ، وتتساقط ، أنا فراغ كبير، لا أشبع أبدًا من المزيد ، دائمًا عيني على المزيد ، لا شيء عندي يبرح مكانه ، لا أنا ـ لا غيْمتي ، لا خيباتي .
حسنًا .
أحاولُ أن أقنع نفسي أن الثلاثين رقمٌ جميل ، ومُحبَّب ، وأتقبل فكرة أنني و بنسبةٍ كبيرةٍ سأكون- وَحدي حينما أبلغها لأن المعجزات تحدث خارج حدودي – دائمًا ، سأحاولُ أن أقنع نفسي أن ابتسامتي حتى الآن وأنا ابنة السابعة والعشرون إلا قليلًا هي ذاتُها خاصتي وأنا طفلة ، وأن شَفتي السُّفلية المرسومة لأسفلٍ منذُ البدءِ لم تكُن إشارة لأي شيء .
سأقنع نفسي أن الأحداث المثيرة هي كلها أحداث سيئة كما يحدث لي وأن المتعة تحدث داخل الحدود أحيانًا لكن ليس عِندي أبدًا .
.
سأرسخ فكرة أن لا عوالم موازية ، ولا يمكن بناؤها أبدًا ، وأن ما أراهُ محضُ صور لا أكثر ، وأن لا أحد سعيد حرفيًا ، لا أمنيات صغيرة ، لا أمنيات كبيرة ، لا شيء يُنال .
سأنسى أنني لم أقع في الحبِ وأنني راضية تمام الرضا بكل عاداتي السيئة وانتصاراتي المزيفة على اللاشيء .
.
لن أبني أوهامًا مرة أخرى ، لا إنتظار آخر ، لا مزيد من الربط بين كل شيء وأي شيء ، أمسحُ من قاموسي كل ما قد يكون مرادفًا لكلمة سعادة ، أمحو من ذاكرتي ضحكي ذو الصوت العالي الذي كان يزعجهم ، أمحو أنني كنتُ خفيفة الظلِ ، وسخريتي من كل شيء وأي شيء لا تفارقني .
سأمحوني تمامًا .
تأكيد أول :
” أنا لا أحد “
.
الفتاةُ التي أراها في المرآةِ ، بالكادِ أراها بالأساس ، إنها ضبابية جدًا ، رمادية ، هي ليست أنا بالتأكيد ، أو أنا لكني أخشى أن أصدق ذلك ، ملامحها خافتة ، حول رأسها هالة سوداء مُريبة
هناك بقعة حمراء كبيرة حول أنفها لا يبدو كدمٍ لكنه يُزيدها رُعبًا ويجعل الآخرين يفرون منها .
.
أدوَّن كل أسماء من أحبوني وبنيْتُ أمامهم جداراً فلاذيًا لم يستطيعوا النفاذ منه إلي – أبدًا ، لا أكتب لهم رسائل ، فقط أرسل لهم ورقةً رماديةً بها نقطة سوداء وحيدة ، أظل هكذا ، بعيدةً لا مفهومة ولا مكروهة .
آخذ ورقة أخرى أدوّن عليها اسم أحدهم ، أضرم بها النار
فيحترق قلبي ..
ورقة أخرى سوداء ، أصنعُ بها ثقوبًا كثيرة ، اكتبُ على مظروفها ” هذا ما اقترفت أيديكم ”
أتركُها خلفي وأمضي .
.
لا شيء لدي لأفعله ، أعاني من شغفٍ زئبقي ، ألـِمُ به ولا يَلـِمُ بي ، أتركه وأمضي فيأتيني ، أذهب إليه فيحوَّل وجهه عني ، شغفي يؤلمني ، كما روحي ، كما جسدي ، كما أعوامي السبعة والعشرون ، كما انْتِصافاتي ، وموتَاتي المتكررة بلا خلودٍ لأي واحدة .
.
سأنسى أني ظللتُ أبْكي بالشارعِ يومِ مولدي ذات مرة ولم ينتبه أحد ، أن لا أحد أجبرني يومًا على أي شيء إطلاقًا ، وأني أحصل على ما أريد ، أنتكر لنفسي ، للأشياء ، ولدميتي التي أهديتُ لها كتابي الأخير .
تأكيد ثان :
” أنا لا احد “
.
هناكَ أحد ما سرق مني أنا ، لم أره وهو يفعل ذلك على كلٍ ، كان يسرقني كل يومٍ حزينٍ ، في البدءِ سرق ابتسامتي ، أعتقدتُ أنني سأستطيع الركض خلفه واستعادتها لكني لم أفعل ، لم أركض وراؤه من الأساس ، في يوم ٍ آخر سرق لمعة عيني ، واعتقدتُ أيضًا أنه بأمكاني استعادتها ، ولم تعد ، اعتقدتُ أنني أقوى منه كثيرًا ، خُيِل علي ، أتاني كثيرًا بعدها ، أخذ يسرق مني أكثر ، فيما بعد كنت قد فقدت طاقتي للمقاومة أو حتى في التفكير لاستردادي ، بعدها صرتُ أتلذذ بالسرقةِ والألم كنوعٍ من التعوِّد المرير ، ماذا يتبقى لي الآن ؟ جسد بلا روحٍ ، بلا حياةٍ ، جسد مرتخٍ متهاون في حق نفسه ، جسد يئن فقدًا ..
لقد نقصتُ ، واكتملتُ عنِد سارقي
تأكيد ثالث
” أنا لا أحد “
.
الليلُ لا ينجلي ، أو ينجلي ليأتي الأكثر سوادًا منه ، الصباح وإن أتى ، أتى متخاذلاً ، الشمس ضوءها صار حارقًا لا حنونًا ، الشهر المنصرم كان البدر كاملًا ـ لكن بمسحةٍ صفراء ـ باهتة ، وحزينة .
هل يُدرك أحدهم ما الذي يعانيه القمر ليبدو هكذا ؟
لا .. أحد
أنا أيضًا لا ادري .
.
-2 محاولة لربط واقعي المتشتت المُتفرِّق
.
ونفسي تشتهي نفسي ولا تتقابلان .. ” درويش “
.
أظل أحلم بأشخاص لا أعرفهم ، أو أعرفهم لكن لم يسبق لي أن رأيتهم ، أظل أركض ، أبحث عن أشياء ضائعة مني ، أحيانًا أجدها أحياناً أخرى لا ، أظل أصرخ عليهم ، أضرب البعض ، أنا أكثر عنفًا بأحلامي عن الواقع ، مأساتي أن لا تفسير لديْ لكل شيء ، مأساتي الأكبر أني دائمًا أريد تفسيرًا لكل شيء ، و مهما حاولتُ لا أجد ، أجلسُ الآن بهذا الليلِ الطويل ـ صمتي صديقي المُخلص لا يُفارقُني وأحياناً ما أفارقُهُ أخونه وأحادث نفسي بصوتٍ مسموع ، يُخيّل إلى الحاضرين أني مجنونة ، يخيل ذلك إلى كريم وجنتي وعطري ـ وقميصي الرجالي المُعلق على خِزانة ملابسي ، وحدها مرآتي تغار
لأني لا أحادثني أمامها ، أبكي فقط .
أعقد صداقة مُجددة مع غرفتي ، الحوائط الأربع ، دُماي الكثيرة ، كتبي ، أوراقي وأقلامي ، وزهرة صناعية بمكتبي تبتسم لي – أحيانًا ، كرة كريستالية بها دُبين مُتحابين ينظران إليْ ويبكيان لا أدري لم ، أحمر شفاة يغضب مني لأني لا استعمله إلا لماماً ، أزيل الزينة المعلقة بالسقف وأقول في نفسي بكل اقتناع ” لا مكان لكِ هُنا ” .
.
روحي عطبة ، وسريعة العطب ، أريد موتًا أو حياة ، لديْ عقل دائري يأبى أن يُصالِحُني على الأشياء من حولي ، كل المخارج التي أجدها ما تلبث أن تٌسد ، أو مع الوقت تصبح بلا أي طائل ، مأساةُ الـ ماذا بعد تُطاردني ، أحاول أن أفهم بأسطورة عقلي المُدبر ما جدوى كل شيء ؟ ما جدوى وجودي ؟ ما جدوي وجودهم ؟ وما جدوى الفتاة التي حادثتني من عدة أشهر بلا أي مقدمات فقط لتخبرني أني أشبهه ثم ترحل ، بلا أي مقدمات ٍ أيضًا .
أو مثلاً ما جدوى الدراسة التي أضعتُ بها سنوات عمري ، لماذا لم أقع في الحبِ حتى الآن ؟
لماذا يصعُب فِهمي ؟ و لماذا كلما مرت السنون تأكدت أنهم لا يعرفون عني شيئًا ؟
لماذا أرغب بالسفر في حين أن قدميْ لم تغادر غرفتي ؟ ولماذا لا أشعر بالإنتماءِ إلى هُنا ، أو إلى أي شيء ، أو أحد ، لماذا لا أنتمي إلا لنفسي ؟
لماذا ما يُعجبُني لا يُلائمُني ؟
أشعر أنني لم أذق متع الحياة ، وأن الكثير يفوتني ، أن عمري شارف على الإنتهاء على الرغمِ من بدايته ، وأني أود لو عوَّضت ما فاتني وما يفوتني وما سيفوتني ، عيني أوسع من شُرفة غرفتي لكن لا أحد يعي ذلك .
أحياناً ما أرغبُ بالشيء ونقيضه ، ولا يحدث أي منهما على كلٍ .
لا يحدث أي شيء .
لماذا خُذلت ؟
لماذا أغرق وأنا على الأرض ؟ لماذا أقص شعري كالرجالِ كثيرًا ؟ لماذا يُحبوني ولا أحِبهُّم ؟
لماذا أصرخ … ولا يسمعني أحد ؟
لماذا أنا هُنا .. الآن ؟
.
أنا مُتناثرة ، أجزائي مُتفرقة لا تجتمع إلا عليْ ، تتنافر فيما بينها ، كل حزبٍ يود لو فرض سيطرته على الآخر ، أعاني مني ، أطرح الأسئلة ، أجيب ، لا إجاباتٍ نموذجيةٍ لديْ ، أفترض شيئًا ، لا يوجد له حل ، أجد بدائل ، لا تستقيم ، أحزن ، أكتئب ، أبكي طويلًا ..
أبحث عن حلٍ يُرضيني جميعًا .
أنا خائفة ومترقبة وحزينة مُشتتة .
أقرر ..
أريد سلامًا ، ونجاةً و سفرًا وحباً وأملاً ، أريد حياةً .
.
أمْكثُ يومين .
مزيد من اللاشيء .
تأكيد رابع
” أنا لا أحد “
.
أقرر .
سأتخلص مني .
.
3ـ محاولة إنقاذ هاوٍ من ذاكرته
.
حسنًا ؛
ألملمٌ أجزائي المنتاثرة في غرفتي ، بعضها حاد جدًا عليْ القيام ببردهِ كي ينسجم مع الأجزاء الأخرى ، و أن اكون حذرة ، البرد يجعل الأشياء تتقلص ، حركة واحدة غير محسوبة إلى أين ستجعلني أقتص مني أكثر مما يجب .
.
شتات عقلي لا ينقص ، لا يُبرد ، يا الله .. !
كلما أخذت منه تمدد مرة أخرى ، أضعه جانبًا بكل يأس من حالته ، أفكر لا بأس يجب أن أتوصل معه لاتفاق ما يُرضينا معًا .
أجمع نفسي ، هل أبدو أصغر ؟
.
أنا خاوية تماماً الآن ، لا أحد عالقً بي ، أبدأ من جديد ، أختار من أحب فقط ، أعلقهم واحدًا تلو الآخر على سور قلبي ، لا ، لا أحد سأدخله ، يحيطونه فقط ، لم يبق منه الكثير ليُدخل إليه .. بعض البعض ليس إلا .
.
ماذا الآن ؟
آه ؛ ذاكرتي أيضًا أفرغتها تماماً ، لا أثر لكل الأعوام السابقة ، هذا جيد ، هناك خدوش كثيرة بها إثر محاولتي المستميتة لإزالة ذكريات سوداء كانت ملتصقة بشدة ، لم تختفي جميعًا ، لكنها صارت باهتة ، أبدأ في التفكير فيما قد يتوجب علي تخزينه عليها .
أبدأ ..
تأكيد خامس ” أنا لا أحد . “
لا أجيد فعل شيء ، لا أكتب ، لا أقرأ ، لا أرسم ، لا أصغي لأحد
أقرر أن أبقيني هكذا بلا شيء ، هذا أفضل – عن تجربة . !
.
أتأكد من أنني أفرغت رماديتي ، وأفرغتُ صدري من آلامِه ، أهدأ ، أراقب صدري يا للمفاجأة إني أتنفس .. !
.
أعيدُ صياغة ملامحي ، عَيني لم أتخلص منها على الرغم من نتكرهم منها ، أبقيتها كما هي فقط حاولت مَسح كل ما رأته في الماضي ولا أريده هُنا .
أبدأ في معاينة الكثير من الابتسامات ، أحاول انتقاء واحدة تُلائمني ، ألصِقُها على وجهي ، عظيم جدًا ..
أبتسم .. رائع ..
أحاول أن أضحك ..
لا صوتَ لي .
مُشكلة !
كنتُ أعلم منذ البداية أن ثمة مشاكل ستواجهني عند محاولتي لبنائي من جديد وأن هذا سَيُبِبُ سقوطًا لبعض الأشياء مني .
لكن لا بأس .
.
أخلقُ لي عملًا مُلائمًا ، أجني منه مالاً طائلاً بجهدٍ قليلٍ .
ماذا أيضًا ؟
أذكِّرُ نفسي أن لقلبي عليْ حق تناسيته من ذي قبل ، أخفض هذا الصوت ، أُحدثُ جلبةً حوله ، صوتُ آخر يرتفع : القلب عليلً الآن وصغير جدًا ، لا حق له في شيء .
لماذا أًجني يُجنى يجنون . عليه دائمًا ؟
.
.
لا إجابة .
.
4ـ محاولة فرض الخيال على واقع أجوف.
.
زاوية أولى :
يُخيَّلُ لي لو أنني بعالمٍ آخر كنتُ سأظل كما كُنت ، مع بعضٍ أو شذرات مما أنا عليه الآن ، ربما سأكون أكثر إنطلاقًا ” كما كُنت ” ، لن ألعن مخاوفي ، ربما لن أصل متأخرة عن الأشياء ،
بل أوثق معرفتي بها في الوقت المناسِب ، أدخن كلما وصلت لوجهتي إحتفالاً ، لم أكن لأخاف على صحتي من التدخين ، أمشي حافيةً إن أردت ولا أخشى أن تلسعني الأرض ، أركض إلى أعماق البحر وأنا أوقن داخلي أني لن أغرق .
.
لن أخشى الغرباء ” كما كُنت ” ، أكتب الرسائل وأرسلها فور إنتهائي ، أتخلص من خيباتي أول بأول إن وجدت ، أكتبها في وروقة وأقذفها في اليم ، فتختفي تمامًا .
.
زاوية ثانية .
أتمدد ، ضوء البدر الساهرُ معي يلامس ظهري المكشوف يتحسس آثار ندباتٍ قديمة ، فتتحرر الفراشات منه ولا تحترق ، أضحك ، فيداعب شعري عصفورًا ضل طريقه ، أشرب شيئًا يُهيأ لي أنه خمرًا وليس بخمر
فيظهرُ لي من اللاشيء شابًا ، ملامحه تشبه شيئًا مات في صدري ، أقرر أني لا أهتم بشكله أو من يكون ، أتذكر أن الأسئلة قد تسبب الموت ، أبتسم ، وأكتفي بأنه هُنا يشاركني الشرب ..
أضحك ، ويضحك
أضحك ، ويضحك ..
أضحك ويضحك ..
يقترب ، يُعانقني بشدة فأبدأ بالبكُاء ، تتساقط مني أوراقًا بالية ، قشور سمكٍ ، وأظافر مكسورة ، يمسح على ظهري فتختفي الندبات ، أبكي أكثر ، اسمع صوتًا من قلبهِ يشدو لي ، لا أفهم شيئًا مما يقول لكني أحبه .
على حين غفلةٍ منا أغفو داخله ، أتكوَّر كجنين عاد لبطنِ أمه بعد عناء ، أنام طويلًا نومًا هانئًا
أحلم أني بأرض غريبةٍ ، كلما خطوتُ خطوة تنبتُ وردة ، تُعجبني الفكرة فأركض أكثر .
.
في الصباح أفتح عيني ولا أجد أثرًا لأي شيء ، أقول في نفسي ربما كانت ليلةِ أمس من أثار الشربِ أو هلوسةٍ .
الجزء الميت داخلي يقولي ” كما توقعت ، كان عليكِ أن تتوقعي هذا ” لا أعيره أهتماماً وأمضي
أتفقد باقي الغرف ، أقفُ عند أول مُفترق ، قدمي تلامس شيئًا باردًا ، انظر ، هناك كأسين ، أمدُّ بصري فأرى شاب نائمُ في هدوء تام ، وعصفور بجناحٍ وحيد بجانيه .
.
لم يكن حلمًا إذن ، ولا محضِ سرابٍ أو هلوسة .
.
أقترب أكثر ، هذا ليس شاب ليلةِ أمس أو ربمَّا هو ، لكن الأكيد أن هذا الشاب مات بقلبي من سنوات ، ولم أدفنه ، وهذا هو عصفوري الذي أطلقته للريح من سنين أيضًا ، عاد .
وتلك أمنياتي معلقةُ على ستائر الشرفة ..
.
عندما عُدتُ .. عادت الاشياء .
.
5ـ محاولة وصل لا شيء بلاشيء .
دائرة ، نقطتين فارغتين ، خيط رفيع ، شفتي على دائرة ، شفتك على الأخرى ، أقبلك
هل تسمع ؟