عل فراسخ شهرٍ بكامل جهاته وهو يتردّد على طاولة الرّكن وراء الزّجاج المتغضّن في الحانة الزّرقاء ، صباح ، مساء ، يدخّن بشراهة من يعجّل بتفحيم رئتيه ، مسوّدا الوريقات البيضاء بقصائد يواظب على كتابتها لامرأة واحدة لاشريك لها ، مانكان الفترينة في الضّفّة الأخرى للشّارع ، وهو على يقينٍ تامّ العقيدة بأنّ جائزةً كونيّةً ستمنح له في غضون أيّام قادمة أو شهور أو سنة على أبعد تخمين ، تقديرا لأحد نصوصه الشّعرية الفادحة . وعندها سوف لن يكتفي باطلاق سراح المانكان من سجن الفترينة الوضيع وحسب بل سيعقد قرانه عليها في عرس ملحميّ ، يرْسخ بذخُ تداعياتِه في ذاكرة هذا الجيل والأخرى المتعاقبة …
عل فراسخ شهرٍ بكامل جهاته وهو يتردّد على طاولة الرّكن وراء الزّجاج المتغضّن في الحانة الزّرقاء ….
هاهو يشرب نخب القصيدة المائة التي سوّد بها بياض الورقة هذا الصّباح وهاهو يسارع بعد أن تلاها على نفسه مع الكأس العاشرة ، يغادر كهف البار عند حدود الظّهيرة عابرا الشّارع بملء التّرنّح ، به حماس مفرط في اللّهفة لإلقاء القصيدة على امرأته / المانكان في الضّفّة الأخرى … وفي هنيهةِ سهوٍ مشينةٍ منه ستدهسه حافلة طائشة وتفصد روحه على إسفلت الطريق …
لحظتها سيقع ما لم يتخيّله أرباب المحلاّت وسكّان الحانة الزّرقاء والكائنات العابرة للمشهد التي صادفت روع الحادثة ، حين يُسمعُ دويّ صرخةٍ حادّة في فضاء الشّارع من امرأةٍ كسرتْ زجاج الفترينة وكانت المانكان المنتصبة هناك في الواجهة وها قد نبتت لها عروق وشرايين وجرى دم تحت جلدها وهي تهرع نحو جثّة الشّاعر المخضّبة بنجيعه المُراق وهي تحضن رأسه إلى صدرها الضّامر ونحيبها يستفحل في هواء الظّهيرة الخلاسيّة …
ــــــــــــــــــــــــ
* قاص من المغرب
خاص الكتابة