مؤسسة الموتى

مؤسسة الموتى
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

فجر يعقوب

أنا هنا أغمز بعيني اليمنى لعوكل حتى يغادر المكان الذي أقف فيه. لولا دقته في تنبيهي للموعد لما حسمت أمري. لم يعد بوسعي الانتظار. رئتاي لم تعد تحتملان. لقد أصبحتا على وشك الانهيار، وفرضية الدكتور مأمون الحفار بدأت تفعل فعلها. لم يمر  وقت طويل حتى بدأت تتسيد على الموقف.  الانخماص الرئوي لن يترك أمامي وقتا أطول للتغني بالمشروع الذي قضيت وقتا طويلا  أتعقبه وأجمع التفاصيل من أجله. ربما لا أغادر هذه البقعة الجغرافية التي احتلها عوكل عن سابق تصور وتصميم. كان عنيدا في ابداء تصوراته عن مرضي. لم أوفق في استخدام تعابير أكثر الهاما معه. ربما قصرت في هذا الاتجاه، ولكنني لست مذنبا تماما، فلم يعد بوسعي الانتظار أكثر.

 

اليوم ستجيء الزوجة اليمنية الثالثة نورسين. سأعيد معاينة سرعة ضوء القمر في ملعبي. لن يكون سهلا تحسسه، والقاء نظرة متخابثة عليه. عوكل لم يفرط كثيرا في استخدام كلمات نابية كعادته. ربما أدرك قبلي أن شبح الموت يخيم من حولي، وأنني في طريقي لأحصل على ضريح بجانب صاحب الخمار والجابية، وكان يقهقه حين يسمع مني أعجوبة الولي الثالث.

لم أقف عند ضحكته الرقيعة التي كانت تميزه في أحيان كثيرة. كان يبدو لي هرما في هذه اللحظة أكثر من أي مرة رأيته فيها. حتى أنني داعبته بقولي إنه قد يسبقني، ويحتل المرتبة الثالثة في الضريح. لم ترعبه الفكرة، بل زادته قهقهة، وهو يسندني ويقول لي :

-هل تلاحظ إن كل شيء هنا يحتل المرتبة الثالثة. حتى هذه النورسين المذحجية يجيء ترتيبها الثالثة بين زوجات العيدروس.

-عوووكل احترم نفسك واحترم وظيفتك ..اسمها نورسين المذحجي!

كان يشغلني بضحكاته، وكنت أسامحه على طيشه اللغوي الفتّان. 

لم أنتبه من قبل لضحكته. لم يشغلني موضوع الضريح الثالث، لو لم أصحبه في جولة انتظاري. ولولا عداوة الرئتين وتلفهما المبكر، لما اتكأت عليه، أو بحثت عن عونه. عوكل لم يكن مجرد عكازة بشرية تحملني من بيتي إلى السوق الموعودة. كان بوصلتي إلى نورسين من دون أن يدري. لم أبلغه بتلك الرؤيا التي بلغتني في حمام القرماني الشهيد بعد أن وقعت على سره. ساورتني تلك الرؤيا مثل أظلاف الحكمة الطويلة التي تجيء من وراء هرمه المفاجئ. لم أسعد بها، فالنهاية تبلغني، وقد بدت لي قريبة،  وأنا أقف هنا برفقة حارس الضريحين الوقح. أناغشه برقة، ويرد علي بفظاظة حفار قبور سوقي. نسي عشرة الأعوام الطويلة مع ضريحي اثنين من الأولياء المقدسين في بلاد الشام.

لاح شبح نورسين المذحجي من بعيد. غمز لي عوكل بعينه وآثر الانسحاب بعد أن نفش ريشه لدقته في تسقط أخبارها. حاولت أن أنده عليه، ولكن صوتي جاء ضعيفا. رأيته يبتعد وينعطف في الشارع الموصل إلى الضريحين. لوحت له بيدي، وهممت باتجاه الشبح القادم من جهة الدرويشية. صرت أقف في مواجهته تقريبا. كانت تقف هناك منقبة ولكنها بدت لي أطول من قبل. ثمة تغيير واضح في شكلها الخارجي لايمكن نكرانه. ليست نورسين اضاءة عابرة في مجرى القصة. حتى اللقاء اليتيم الذي جمعني بها هنا قبل عام كان عبارة عن تحوير استثنائي في أسرار لم يكن ممكنا بلوغها من دون مساعدة عوكل. لا أعرف لماذا بدا لي مهيمنا على دفة مصيري، ومصير لقائي بالزوجة اليمنية لأدرك كنه التحولات التي ضربت سوق الحريقة منذ أن اصطدم زوجها العيدروس بالبائع السوري وحاول خداعه وتخويفه واشراكه بلعبة التبدلات الكبيرة التي تعصف بكل شيء من حولها عن طريق نصب الأفخاخ في ملعبه. لم تمر هذه اللعبة عليه من دون ثمن، وإن بدا أنه بخس لعوكل الذي ضرب كفا بكف، وأبدى أسفا شديدا لعبور الطرفين نحو بعضهما البعض بقبول مثل هذا الثمن الزهيد.

كان يحدث نفسه معتبرا ذلك نوعا من الانتحار المتبادل الذي لايمكن تجاهله دائما عن طريق عض الأصابع، أو الشدّ عليها من فوق لفوق لمجرد أن الزوجة اليمنية كانت نافرة العروق في الفراش.

وقفت الفتاة المنقبة أمامي. ربما ابتسمت. أو عضت على شفتيها تأثرا حين رأتني مكوما على حالي. أشارت بأن أتبعها. مشت أمامي بضع خطوات. حاولت اللحاق بها. لم يكن ممكنا القيام بخطوة واحدة. وجدت نفسي متشنجا ولاهثا من بين عروق أشجار الكينا الأخيرة على الرصيف، وقد بدأت تصفر فجأة من حولي، وتبتسم للنهاية المفترضة. كنت وعلا ساكنا أسابق الريح المفترسة. وكانت المنقبة تنزع نقابها أمامي وتنادي علي. حاولت أن أتبين وجهها عن طريق اغلاق عيني إلى الحد الأقصى حتى أضبط دقة الوضوح البؤري في مواجهة دمع العيون. كانت مفاجأة صاعقة لي. لم تكن نورسين. لم تكن هناك أسطورة يمنية فالتة من عقاب الهجران والشكوى. ليس البسباس اليمني من يحكم على هذه اللحظات القاسية التي تتشكل بالقرب من الضريحين. كانت رائحة الكينا قوية وتطبق على رئتي من كل الجهات.

سقطت على الأرض. أدركتني الفتاة  المنقبة. وقفت فوق رأسي، ورفعت طرف النقاب، وابتسمت. صورتني بهاتفها النقّال. بدا لي من مكاني أنها متشفية. يالله هل يمكن أن يحدث مثل هذا إلا في المنام. كانت وداد. نظرت إلي من مكانها. صورتني مرة ثانية وثالثة. كانت أظافر يديها مطلية ومقلمة بعناية، وتراعي وصفات العالم الجديد للمنقبات. كان عوكل قد أخبرني في وقت سابق عن شركة بولندية قامت بتصنيع مثل هذا الطلاء الذي لايمنع دخول الماء إلى الأظافر. حاولت أن أتبين وشاية عوكل، فلم يكن بوسعي قراءة شيء من ملامح وجهها. كانت جميلة وناقمة. أخذت تقرأ علي شيئا من كتاب في يدها. لم أستطع تبين غلافه بشكل جيد. بدا لي أن هناك طقاقة نحاسية كبيرة على باب خشبي في مدينة قديمة تزينه. كانت تقرأ وتبتسم وتنادي بإشارة منها على رجل طويل يقف خلفها تماما. جاء الرجل مخذولا قليلا. كان يطأطئ رأسه. لم أتبين رد فعله جيدا. هل كان حزينا أم خائفا. لم يكن مهما معرفة ذلك. كان عوكل يقف أيضا فوق رأسي مصغيا وصاغرا لها. همست وداد له بشيء في أذنه. سمعت شيئا عن بعثة أثرية فرنسية تنوي زيارة قصر العظم القريب من هنا. لم أعترض. لم أحتج. لم يكن بوسعي القيام بذلك. كانت روحي تصعد بينهما ناشفة ومجزأة إلى مربعات. كانت وداد تضع سبابتها على بعض هذه المربعات تبكي بحرقة وتبتسم،  وهي تلاعب دعسوقة حمراء مبقعة تنزل عن وجهي راضية وطرية. لم أعد أسمع طرقات كعبها العالي، وهي تبتعد وتنهي أسطورة نورسين المذحجي بأقل من دقيقتين.

كان صوت الراديو المنبعث من دكان أبي عدنان الحلاق يعلن  (هنا دمشق )، ويوصي بأن المطربة أسمهان ماتزال تهيمن على روح عوكل، وتعشش في المكان المقدس لقرون قادمة. كان يودع زبائنه على وقع صوتها العذب الشجي. لم يكن هناك شيء أقوم به سوى الاستسلام لحنكته في تغسيل الموتى.

كان عوكل ينقض وضوءه قبل تغسيلي وتكفيني بقليل…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الأخير من رواية: نقض وضوء الثعلب – للروائي والمخرج السينمائي الفلسطيني فجر يعقوب – تصدر قريبا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم