لَيلَةُ الوحْدَة

موقع الكتابة الثقافي art 57
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناصر الحلواني

وما كان لتخيال ابن حزم في عزِّ الليل لِيَكشفَ لَهُ سرَّ حِجابِ البدوية.

وكان الليل حالكا.

والمُلكُ لَكْ لَكْ لَكْ يا صاحب المُلك.

وكان كروان، يؤنس ليله بتسابيح، ترفُّ مثل ضوء ينبعث حادا، ثم لا يعود سوى ظل، وتعتم الظلمة، ويُشرق قلب الوَاجِدِ الجَائلِ وحدَه في عِزِّ الليل.

 كان يحمل ريشتَه، وجِرابَ أسراره، وأوراقا صنعها لمثل المساء.

يجولُ في أحوال الليل، في الأزقَّة والحارات، يقتفي روحَ المهَاجِرة، الساكنة في القلوب، يلمُّ حكاياتها، وأرواحَ صَرعَاهَا، وأشجانَ الأصحاب.

يمر في ليل الشارع الصغير، تُتابعه الفضاءاتُ المقفُول عليها، وأحلامُ العيال، والأقفالُ المبسوطة برسومها، والأبوابُ، ورؤى من كانوا في نومهم، ولمَّا، وسرابات من كانوا في النهار، ولمْ.

وفي صدر الليل، تنسدلُ طعنة ضوء، تنفردُ مثل غِلالَة مشدودة بين الوَربَة الضيقة لباب أم الخير والحائط المقابل للباب، مثل ستارٍ شفيف من حليب الضوء، مثل ملعب لغبار الليل اللاهي في ملكوته، دليلا إلى حيث تصدر أصوات شهية الحزن، لاهية، في مقامات وجد، تحكيها العارفة بالدواخل،  تترى من بين ضلفتي الباب، إلى ملكوت النور، فيخُطُّها ابن حزم، دون سهو، في أوراقه.

وإلى صندوق مَغنَاه يميل، وبالحركة يُفيضُه، تتألق حوافه الدائرة تحت بوق النحاس، يرنِّم على الليل وشاشة الضوء أمامه بصوتها المرسوم على غِلالة النور المفرودة للشيخ الوحيد.

وكانت في خِمارِها، تكشف عن نرجسِ عينيها، وتشدو، وأمامها نُون، يُريق من الوَلَهِ كؤوسا، ينهلُهَا،  وينسَى السٌّمَّاعُ سَمتَ الصوتِ، إلا صوتا، ويلوذون بأسباب السُّكُون، فلا يكون سوى أرواح ليس لها هسيس، وتصير لها ولصوتها كل فضاءات السكون القادرة على بذل وجودها، لأجل أن تحتشد بترنيمها، فتُوشِّحُ:

فِــي ليــالٍ كَــتَمَتْ سِـرَّ الهـوَى

بــالدُّجى لــولا شُــموس الغُـرَر

مَــالَ نجــمُ الكَـأسِ فيهَـا وهَـوَى

مُســـتقيمَ السّــيرِ سَــعْدَ الأَثَــرِ

وطَـرٌ مـا فيـه مِـن عَيـبٍ سِـوى

أَنّـــه مـــرّ كــلمْح البصَــرِ

حــين لــذّ الأُنس شــيئًا أَو كمـا

هجــم الصّبــحُ هجــومَ الحـرَسِ

غَــارَت الشــهْبُ بِنَــا أَو ربّمـا

أَثّــرت فينــا عُيــونُ النَّرجِـسِ(1)

فيقبض ابن حزم كتابَه بيُمناه، ويقوم إليها، يخطو إلى حديقة إنشادِهَا، وفي القلب كلام، يقترب منها، فتنأى، عارفةً بالهوى الصادر عنه.

ينطق: “ما للقلبِ من طَوقٍ على الهجر”، ويدنو.

تنطق: “سيدي أنتَ، ومثل وَرقَاء تحَامَت، أكون”، وتنأى.

ينطق: “وما للوصل! هل حال بين الحمام وحَومِه؟” ويهفو.

تنطق: “وما للوصل بين حرفٍ وصوتٍ!”

فيخُطُّ في أول كتابه:

“إلى الورقاءِ، ما كان من فِعلِ حَومِها في قلبي”

ويُحدِّث: “هاكِ حَرفِي”.

فتجيء بصندوق إنشادها، وتَحطُّ فيه ما كان من روحها له، وتُحدِّثُ: “هاكَ صوتي”.

وتدنو بلِحَاظِها إليه، وتكون إليه بصوتها، ورفَّات أناملها، ينأى عن المحيطين به إليها، وفي فؤادهِ يتردد عشقٌ منفرد.

وتكون صَلصَلةٌ بعيدة، وخطواتُ جُند، وصيحات وجع وموت، وبُستان متروس بالبربر، وحبيبة غاب صوتُها، وعاشق في وحدته القرطبية مسجوناً، يسوِّدُ أوراق وَجدِه، ويحلمُ بالبعيدة،  أين؟

ترنُّ ضحكةٌ صاحية لأم الخير، تُعيد الشيخ القرطبي إلى حيث هو، فيقعد، يُكمل رؤياه لما يكون، وفي القلب وجع، ينظر إلى حجري عينيها الرطبتين بالدمع، تميل بوجهها عنه، تمد يدها بقنديل من زجاج شاطبة، يأخذه، وفي زجاجه كانت عيناه تلمعان برطابة مالحة، لا تلمحها.

وتعود إلى مكانها خلف الباب المُوَارَب، ومعها ينسابُ الضوءُ إلى الداخل، ولا يبقى منه غير نسيج شفيف أمام القاعد، يقرأُ تاريخاً في زجاج القنديل، ويرقب، على شاشة النور، الداخلةَ إلى صَهلَلَتِها، تُدارِي شجَنا قديما، وذاكرةً ترتسمُ حبيبا كَان، ورايات كان يصنعُها، يُطيِّرُها فوق قصور الإمارة والخلافة، ويعلِّقُها على أعواد رِماح، دَانَت لها بلدان صِلاب، وغَرسَها في جَنبات الطرقات أريجا للمواكب.

حبيباً كان، يراه ابن حزم مشبوحا، على صاريه كالراية، له قدما مهاجر، وعينا ثائر عاشق.

تعلَّق مثل راية للأرض المتروكة، وللبحر يحمل ما تَلفُظُه، وللباقين كالخبايا.

معلَّقٌ مثل راية، في حِمَى “باب الشريعة”، وتحته بقايا خيل إيزابيلا، وريحُ فرناندو المعطَّر.

تعلَّق مثل راية، يتكئ ظلُّها على المارين به، يتخَفٌّون، وينثرون من حوله حبَّات قمح وأرز وقطعَ خبز، لتهبط إليه الطير، تؤنس موته، ولترطِّبَ له برفرفاتها.

يمر به شيخ، يُخرجُ من جرابه قارورة من ماء نهر غرناطة، يضعها تحت قدمي المشبوح، علَّها تُروي روحَه، ويمضي إلى منفاه، وفي ظلِّه المفرود على أرضه، يغرس فارس عابرٌ سيفه، ويصلي، فلا يكون إلا نورا، ويمضي مجردا إلى سفائن جاءت للرحيل.

 وفي سَكرَة موته، ينظر المشبُوحُ إلى المنفيين، وإلى “الحمراء” في ربوته، وإلى راياته التي كمدت ألوانها، وتهدلت حبالُها، وتمزقت نسائجها، فيذرف دمعة سخينة، تنسَلُّ ورطابتها بعضُ روحه، ترفرف، وتراوح بين الهجرة والحلول، وتظلُّ.

وتمسح أم الخير نبيذ عينيها بكفِّها، وتنسل إلى حجرتها الجانبية الوحيدة، المشغول بابُها بحشوات ذات حفور، تصوِّرُ طيورا، وتواريق نبات، مطعَّمة بفضة نقية وريح وَردٍ، تضع كفها حيث يحطُّ طائر، ينفتح الباب، فلا يكون صوت، وتُغلق على نفسها، تطوف بالملاء المكدَّس برايات تحمل ألوانا كامدة، وآثار طَعنٍ واحتراق، تُملِّسُ عليها، وتمر بكفها في حنين صلاة فوق ألوان، وخيوط، وقطع نسيج من تصانيف المريَّة، وغرناطة، ومالقه، وإشبيلية، كان يجلبُها لصنَاعَتِه، وتجوس في أوراق قديمة، عليها رسوم أُسدٍ، وخيول، وسيوف مشرَّعة، كان يَسِمُ بها راياته، وتجلس إلى كِليم معلَّق في زاوية المكان، وفي نسائل صوفه تتعلق أحرُفٌ صاغها من وشيج الحرير والذهب، تقرؤها، وتعود إلى ذاكرة سنوات، عبر ليال بَهيةٌ أقمارها، تؤنسه، وفي نورها ينسجُ على الكِليم، خبرَ عشقِهما.

تُرَنِّمُ ببعض كلامه إليها: “لحضرة الكِليم سرٌّ لا يبين لسِوَاكِ، آيتهُ حين يكون القمرُ في مثل بهائكِ، أن نتراءى”.

تصير إلى صندوق غيرَ بعيد، تدفع القاربَ المنحوتَ فيه جهة الربوة الحمراء، فيتجلَّى لها، جسدٌ خالصٌ، حَزُّ الحِبالِ ما زال موشوما في معصميه وساقيه، لعينيه البريق ذاته، وبقايا أصباغ عالقة بأصابعه، وبعض روح فيه ساجية، تُقبِّلُه، وتغلق عليه.

تعود إلى الباب، تقبضُ أُكرَتَهُ، تتحسَسُ حرفا مطبوعا في قلبها، تفتحُ، تخرجُ، تُغلقُ، تمرُّ بالعارفة بالأحوال متكئة إلى وسادة منزوية، وتمرُّ بنُون يحفر في خشب المنضدة سيفا غرسَهُ في ظلً جسد مشبوح ينفرد على أرض بعيدة، وتذهبُ إلى القاعد وحده، تفتح إليه بابَها، فيغمرُ الضوءُ الشارعَ، وهي في قلب الباب، ظلٌ تام النقاء.

تحدِّثُهُ: “أذكر يومها أنك أرقت قارورة مائِكَ تحت قدميه” فلا يَرُد، وينظر إلى الزجاجة بين يديه.

فتردف، وهي تشير إلى قلبه: “كان يُشبِهُكَ”.

وكان كروان

والمُلكُ لَكْ لَكْ لَكْ يا صاحبَ المُلك.

وكان قمرٌ في مثل بهَائِهَا.

وكانت إلى دُكَّانها، تدخل في سمتِ الموصولة توا، وكان إلى جِرابِه، يُخرج قدحا من زجاج أزرقٍ مُمَوَّه بالمِينَا، وقطعةً من نسيج المَريَّة، مرسوم فيها وجهُهَا، وتحت الوجه، مخطوط:

ملامات المحبة للمعنَّى لـذةٌ      وإلا بالعــــــناءِ تُقـــــدَّرُ الآيـــــاتُ

 آثرتُ صَــــونَ هـــــواكِ جمـرة     وفوق هواي حلَّقت راياتُ

بروحِهِ يقرأ الترنيمةَ، وبعينيه يرحلُ في النور المفرود أمامه.

………………………………….

 (1) موشح للشاعر الأندلسي لسان الدين الخطيب.

*  الفصل الثالث من رواية “مطارح حط الطير”

* اللوحة للفنان الروسي ألكسندر سيجوف

 

مقالات من نفس القسم