” ليمبو بيروت” ما بعد الحرب.. ما بعد الكوميكس 2-2

" ليمبو بيروت" ما بعد الحرب.. ما بعد الكوميكس 2-2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قد يبدو، حسب كثيرمن الرؤى التقليدية، ادخال وسيط بصرى بالرواية، متمثلا فى الرسومات المختلفة التى تخالطها، عائقا أمام التداعيات الذاتية فى الإدراك الجمالى للرواية، أو يشتت القارئ ولا يحيله إلى عملية تخيل التفاصيل السياقية للنص الروائى. فإذا كانت اللغة تخدم مصورة ذهنية ما عبر دلالتها، وتقدم إمكانية للتأمل والتخيل، فإن تلك الرسومات تعمد إلى شكلنة تلك المخيلة أو المصورة قسرا، وتلجم الصياغات المتباينة للدلالة الفنية

لكن جميع العناصر المكونة للعمل الفنى، حتى أكثرها شكلية، تملك قيمتها التوصيلية الخاصة (وذلك حتى فى حالة غياب موضوع معين، مثل صور كاندنسكى، أو بعض اعمال الرسامين السورياليين، كما يبين جان موكارفسكى). فتتجاوز رسومات ليمبو بيروت مهمة تصوير بشكل مباشر ماتبنيه لغة الرواية بواسطة الأسماء والصفات والأفعال  والحروف. يرجع ذلك إلى طبيعة لغة الرواية نفسها، ومجازيتها القلقة. ويرجع إلى الطابع السيميوطيقى لتلك الرسومات، وتباين أساليبها النوعية: جروتسك وتجريبية وسيريالية ومفاهيمية، والعلاقة الجدلية بين اللغة والرسم، فالرسومات تضفى على النص الروائى أبعاد دلالية أخرى، ويمكن اعتبارها نص بصرى مواز، أو إعادة كتابة بصرية للرواية.

وفى مواجهة الصور التى تغمرنا، وباتت تحسب ضمن نسيج الحياة اليومية، بما تحمله هذه الصورمن مشاهد الدمار والحرب والقتل، نجد رسومات ليمبو بيروت فى سعيها للتعبير عن قيمة جمالية، وإمكانية كسر السكونية عند تلقى سيل الصور المتدفقة فى وسائل الإعلام وغيرها عن الحرب، وما ينتج عنه من اعتياد للقسوة، واللامبالاة، والتى تسعى الرواية إلى تجاوزها. وتعتبر الرواية إضافة إلى التجارب التى سعت قبلها لدمج الثقافة البصرية والأدب المكتوب مثل المجموعة القصصية “الآتى” لمحمد المخزنجى و رسومات “حامد ندا” رائد السيريالية الشعبية، وديوان “أقراص المُسكن” شعر هانى سامى ورسوم “شريف سامى”، ومجموعة “عقد صداقة مع فرخة”  لسمر جبر ورسوم كاركاتورية لمحمود عبد الوهاب.

                                                ●●●    

لا تشكل المدينة، بيروت، بالنسبة للحبكة مجرد خلفية يمكن الاستعاضة بواحدة منها عن الأخرى. فبيروت هى الإطار الذى تتكون فيه الأحداث، وهى الفضاء الذى يكشف عن الأبعاد السياسية والاجتماعية للتاريخ، وتفاعله فيه.

يرى القارئ بيروت فى الرواية من خلال بعض التفاصيل المرئية الحية لها فى سياق السرد، خاصة فى الفصل الأخير “اللحظة الفارقة”، لكن أثر المدينة النفسى على شخوص الرواية، و وجهات نظرهم المختلفة المكونة تجاهها،هى التمثلات الأكثر تجسيدا للمكان، وما يسم وجوده بالنسبية.

يُطرح المكان بوصفه خبرة شعورية للأفراد، فسلسلة العبارات البيانية، التى تصف أماكن مثل”الروشة” و”شارع الحمرا” و “كراكاس” و الكورنيش، ليست هى وسيلة النص الوحيدة للإحساس بالمكان، فالنص الروائى لايوظف المكان كعنصر أو معطى قبلى وثابت، وإنما يدركه كشعور تتمثله الشخصيات: ” فى وحدتى ، فى المرآة… بعيدا عنك يا سناء، كانت بيروت أكثر جمالا.لا أعرف كيف كنت أكيدا من جمالها الفائض فى تلك اللحظة، ولا أعرف إن كنت أستعيض عن حبى الضائع لك بحب مستجد للمدينة، لكنى كنت واثقا أنى على صواب، وأن هذه المدينة جميلة، جميلة بحق.”ﺻ 197

تقترب ليمبو بيروت من المعنى الذى يقوله أورهان باموق فى كتابه ” اسطنبول..الذكريات والمدينة”، حيث يراها باموق مدينة مرسومة بالأبيض والأسود، مدينة الحزن والسوداوية،وإذا اقتربنا من عالم الكوميكس، فمن الممكن أن نرى تقاربا لبيروت فى وجودها الشبحى مع مدينة “فرانك ميللر” فى رواياته المصورة. لكن بيروت هنا هى الليمبو، البرزخ، عالم النسيان، وموطن الأرواح المحرومة.

                                              ●●●

يتحلل النموذج الروائى فى ليمبو بيروت، ولا تخضع طبيعة الشخصيات فى الرواية للإسقاطات أو التنميطات. تدفع مونولوجات الشخصيات الداخلية، وتساؤلاتها القلقة إلى التأكيد على عوالمها الخاصة، وفردانية شخوصها. لذلك تتباعد الشخصيات عن النمذجة، وتتقارب عبر ذهنيتها من شخوص الكوميكس فى خصوصيتها وثيماتها، ورحلة بحثها. ويبدو أن قدر المدينة يُكون شخصية الإنسان بها. تتقاطع المصائر والعوالم، وتتم مساءلة الهوية. ترصد الرواية الحرب الكبيرة التى حدثت ذات يوم، والحروب الصغيرة التى تحدث كل يوم من خلال  تأثيرها على العلاقات الإنسانية، وتجلياتها فى السلوك الإنسانى وتفاصيل الحياة اليومية العادية.

                                           ●●● 

يقول “إدوارد سعيد”، فى تقديمه لمجلد الكوميكس “فلسطين”، للفنان والصحفى الأمريكى ” جو ساكو”: ” كنت كلما مضيت مسلوب الإرادة فى قراءتها زاد اقتناعى أن أمامى هنا عملا سياسيا وجماليا يتمتع بأصالة نادرة المثال، ولا نظير لها فى السجالات الملتوية.. ذات البلاغة الطنانة، التى تورط فيها الفلسطينيون والإسرائيليون وأنصار كلٍ من الجانبين”.. ثم يضيف “باستثناء واحد أو اثنين من الروائيين والشعراء، لم يستطع أحد أن يقدم الحالة الرهيبة للأوضاع خيرا من جو ساكو“.

توظف ليمبو بيروت ما استبصره ادوارد سعيد، من حيوية الإمكانيات السردية للكوميكس، وقوتها النافية: للسُبات الايديولوجى، للعالم الغارق فى الميديا، ولسلطة “المعيار الأدبى” والمفهوم القديم لما يسمى “الأدب الرفيع”، وتحفظاته التى تهمش موضوعات وأنماط كتابية، وتستبعدها خارج نطاقه. وتستفيد الرواية من الأشواط التى قطعتها الرواية المصورة فى سبيل درء سوء السمعة عنها، بفضل فنانين كبار مثل “ويل إيزنر” و”آرت سبيجلمان“.

تبدو الرواية فى رؤيتها للحرب وما بعدها، وطبيعة التناص والموازاة أو المحاكاة بها، واستفادتها من تقنيات ووسائط فنية، وثقافة البوب آرت، بعيدا عن التحفظات القديمة لسلطة “المعيار”، تحديا لمفهوم “الأدب الرفيع“.

 

مقالات من نفس القسم