لمحت يدها

حسن صبرى

وقد جاءت..

قريبنا؛ الولد الصغير، يصعد من شقة جدته،  وعن ضيفتها يحكى بوعى مدهشٍ  يفوق أعوامه التسعة .. وصلت البارحة .. ستبيع كل ما تملك هنا: بيتاً قديماً ، وتريد أن تنهى الإجراءات خلال أسبوعٍ واحدٍ لا أكثر . وقال إنها سألته عنى  وتريد أن أنزل لأسلم عليها .

 

***

ولها معى ذكريات .

التقيتها أول مرة من عشر سنين . كان اكتشافاً مبهراً . . قريبة لأمى  عيناها ملونتان ، ذات حسن وفطنة ولطافة . والدها ليس مصرياً . كانت تلك زيارتها الأولى  منذ رجوعها لوطن أبيها من سبع عشرة سنة  . عراها حنينٌ لأيام طفولتها القاهرية ، و صباها السكندرية . أخذت إجازة قصيرة من عملها بالمطار هناك ، وتتوق لرؤية الأماكن والناس .

 لم نفترق طوال تلك الزيارة القديمة.. ركبنا المترو ومشينا في شوارع وسط البلد ، وبلغنا ميدان الأوبرا، فالعتبة، واشترت ملابس من الموسكي؛ شيئاً من رائحة مصر .

طفنا بالقاهرة القديمة وآثارها: المساجد ، والأسبلة و الوكالات . ومضينا إلى القلعة  وحي الحسين وخان الخليلي.. وأكلنا معاً فى المطاعم الشعبية ، وجلسنا على المقاهى .

وكانت حريصة على زيارة الأقارب فى القاهرة والمحافظات .

 

***

عرضت عليها الزواج .

كنت جاداً . . دهشت . . قالت : سأتمُّ 40 سنة بعد أسابيع . . وأنت ؟  25 ؟

قلت لها فارق العمر لا يهم . . قالت : ليس السن وحده .. فكرة الزواج نفسها.

وحدثتنى عن أكثر من مشروع زواج لم يكتمل . كانت تحلم ببيت سوف تبنيه،  وحديقة سوف تزرعها زهوراً ، وتتفرغ لهواية الرسم بعدما تخرج إلى المعاش.

 

***

اليوم الثانى … هل أنزل ؟

 

***

فى اليوم الثالث ، أخبرنى الولد أنه ذهب معها فى مشاويرها ، وأنها غيّرت نقوداً من مكتبٍ للصرافة . . وأكلا معاً دجاجاً مشوياً ، وحلوى ، وتناولا مشروباتٍ،  فى مكان فخم معظم قصاده من السائحين .. وذهبا للملاهى واشترت له هدايا .. قال إنها ستٌ طيبة وتصرف كثيراً .

 

***

 

أشتاق ضحكتها . .  حسبى منها ضحكة . تضحك.. تطلق عصافير تغرد فى بستان ليمون مزهر ، وقطيطة تلاحق ذيل رداء أحمر ، لأميرة حكاية أسطورية ، ينساب فوق بلاط من مرمر .

تضحك فأحبّ الدنيا .

 

***

ستصعد هى إلىّ . . وأراهن بودٍ كان بيننا وتناغم فكر .

 

***

ولى عليها عتابٌ قديمٌ . . وجديدٌ . . ويصدُّنى عنها حالة كالخصام .  تهرَّبت فى الماضى من إعطائى عنوانها أو رقم هاتفها قبل سفرها، وكذلك وأنا أودِّعها في مطار القاهرة . قالت يومها إن الحياة فى البلد الآخر مختلفة ، والناس هناك يرتابون بأشياء عادية .

لم أفهمها أو تقنعنى إجابتها ولكنى لم أناقشها .

 

***

خامس يومٍ . . الولد يقول إنها باعت البيت وقبضت الثمن.. أفكر بالنزول . . ولكن . . ليس الآن . . ربما غداً . . أو بعد غدٍ.

 

***

فى الليل ، من شباك حجرتي الخلفية ، أسمع صوتها  عبر النافذة السفلية .  ماذا بعد الخمسين ؟ متى أستطيع أن أعيش حياتى كما أريد ؟ ليس لى زوجٌ ولا ولدٌ.. أمى و أبى ماتا.. معاشى كبير وعندى فلوس فى البنك . . بنيت بيتا جميلاً . وزرعت أزهاراً . . أرسم . . شقيقى الوحيد سافر لدولةٍ جارةٍ . . أولاده رائعون وكانوا سلوتي.

 

***

أتراها ستضحك ؟

 

***

لم تصعد إليَّ . . ما أقصر ما يفصلنا وما أنأى . . عشرون درجة سلم .. كبعد الأرض عن النجوم .

 

***

فى الليل قالت : ستمطر الآن .

وكأنها استمطرت السماء فاستجابت . وامتدت يدها من الشباك تستقبل قطرات مطرٍ أمشيرية . . لحظة و انسحبت . . هالة نور . . ومضة نشوة . . فى الضوء الشاحب . . وتلاشت . . أغلقت شباكى واستلقيت فى فراشى ، أغالب وجداً وشجناً .

 

***

فى الصباح كان الولد حزيناً . . قال ” طنط هانية ” ركبت الطيَّارة فى الفجر وسافرت . . ولن ترجع .

وقال والدموع فى عينيه : كنت أريد أن أسافر معها ؛ لأنها وحيدة  وكبيرة فى السن  وشعرها أبيض . . وليس عندها أولاد .

 

***

رحلتْ ولها فى فى النفس وحشة . . لم تطلعْ ولم أنزلْ ولم أسمعْ ضحكتها .  وخسرت مع نفسى الرهان . . وفات الأوان .

من منا كان عليه أن يذهب للآخر ؟!

 

ـــــــــــــــــــ

حسن صبرى

قاص وروائى – مصر

ــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع