كُنْ طاهر مصطفى

طاهر مصطفى
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عبد الرحيم

فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، اشتهر طفل مصرى كفيف من مدينة المنصورة، اسمه طاهر مصطفى، بـ”الطفل المعجزة”؛ لصوته البديع، وأدائه المتميز للأغانى العربية القديمة. وقتها صار حديث الصحافة، واستضافته برامج تلفزيونية متعددة، وصدرت له حوالى 6 ألبومات غنائية أعاد فيها أغانى طويلة، وصعبة، لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، نالت نجاحًا واسعًا.

بعد فترة انقطاع، عاد طاهر مصطفى فى منتصف التسعينيات شابًّا فى العشرين، وقد تضاعف جمال صوته، وأصدر ألبومًا بعنوان “يا حليوة” أعاد فيه أغانى فريد الأطرش، ثم ألبومًا خاصًّا بأغانى له، عنوانه “يا عينى ع الأيام”، كما دخل عالم الڤيديو كليب، الذى كان يعيش أيامه الأولى البريئة، بأغنية واحدة عنوانها “منهم لله”، وبدا واضحًا أن هذا الشاب سيحقِّق النبوءة التى صاحبته منذ الطفولة؛ وهو أنه سيتربع على عرش الأغنية المصرية فى المستقبل.

لكن بعدها، اختفى طاهر مصطفى. اختفى كما اختفت أمور طيبة عديدة منذ بداية الألفينيات؛ مثل برنامج “نادى السينما” و”أوسكار”، والمسلسل الدينى والتاريخى، وبرامج ومسلسلات وأغانى الطفل، وأفلام الإنتاج التلفزيونى، وبرامج منوعات راقية مثل “جديد x جديد”؛ الذى اعتاد تقديم المواهب الغنائية الجديدة الجادة، و”أمانى وأغانى” الذى اقترب من الشباب، واستمع إلى أصواتهم وأحلامهم، إلى جانب المجلات الفنية المتخصصة مثل “الفن السابع” و”الفنون”، وحفلات الموسيقى للجميع التى تتاح فيها الأوبرا للطلبة بأرخص الأسعار، وحصص التربية الرياضية والفنية والموسيقية بالمدارس..

بل أن طاهر مصطفى لم يختف وحده، وإنما اختفت معه أصوات جميلة أخرى؛ مثل توفيق فريد وعلاء عبد الخالق وإبراهيم عبد القادر، وسوزان عطية وحنان ماضى وإيمان الطوخى. إنها الألفينيات الملعونة، التى شهدت بداية عصر انحطاط قدير أطفأ شموسًا وأقمارًا ونجومًا لحساب أحجار ورماد وأصفار صارت الدنيا تمطرنا بهم يوميًا، وبكثافة، فى كل المجالات تقريبًا.

وبعد ربع قرن من غيابه، تذكرت الطفل المعجزة، وقرَّرت البحث عنه فى سراديب وكهوف الإنترنت. وجدت شرائطه على هيئة ملفات mp3، ثم بعض الڤيديوهات له على اليوتيوب، تشمل حفلات قديمة له داخل مصر وخارجها، بل إن أحد عشاقه جمّع عددًا كبيرًا من أغانيه فى ڤيديو واحد مدته 4 ساعات ونصف، واصفًا إياه بالمطرب الأسطورة، إلى أن عثرت – أخيرًا – على قناة شخصية باسمه، فيها ظهورات حديثة له تسجِّل غناءه فى أفراح شعبية، ونوادٍ إقليمية، ومطاعم ساحلية..

طاهر مصطفى

انتابنى شعور بالمرارة، والإحباط، كأن حلمًا جميلًا إلتهمه كابوس طاغٍ؛ وهى – بالمناسبة – حكاية نعيشها جميعًا منذ أزمان. لكن رغم ذلك، شفى جزءًا من غليلى بعض التعليقات أسفل ڤيديوهاته، والتى صادفت فيها محبة لصاحب الصوت الساحر، وإدراكًا لمفارقة أنه ليس نجمًا فى وسائل الإعلام الحالية، بينما هيفاء وهبى “سوبر ستار”!

من ضمن التعليقات: “دنيا ماشية بالمقلوب”، “نفسى يا حبيبى تنزِّل ألبومات زى زمان”، “إنت مكانك مش هنا، إنت أكبر من كده”، “يا خسارة الفن الجميل فى زمن المهرجانات”. واضح أن الجميل، والصادق، والصحيح ينهزم كثيرًا فى حاضرنا، حتى لم نعد نملك إلا التحسُّر، والترحُّم على ما فات، ثم تجاوز الشجن بالتعايش مع مُسبِّباته!

بعدها، قابلت حوارًا معه، أجراه الكاتب الصحفى خالد فؤاد، ونُشر بجريدة “أسرار المشاهير” الإلكترونية فى 12 فبراير 2016، أعلن فيه المطرب أنه لم يختف، وإنما المشكلة – على حد قوله – فى “القائمين على الفن فى هذا البلد، فلم يعد هناك إنتاج سواء لى أو لغيرى من المطربين ممن كان يجب على الدولة والقائمين على الغناء رعايتهم فى مرحلة بعينها، ليتمكنوا من الاستمرار والبقاء فى دائرة الضوء، فقد انهار السوق فى كل شىء!”.

لا شك أن ظهور القنوات الفضائية الخاصة التى يقودها رجال أعمال غايتهم هى الربح؛ فى المقام الأول وربما الأخير، وتهافت الإعلام على إشعال الإثارة وليس نشر الوعى، إلى جانب تراجع دور الرقابة، وتقزُّم دور التلفزيون القومى، وانسحاب الدولة من الإنتاج الفنى، مع تردى مستوى التعليم على نحو غير مسبوق، وظهور أجيال تجهل التمييز بين الغث والسمين—كل هذا أدى إلى شيوع أعمال فنية تغازل العين وليس القلب، وتخاطب الجسد وليس الروح، وتهبط بالمعنى الرومانسى الرفيع إلى جنسى وضيع. لهذا، لم يعد هناك مكان لأصحاب المواهب الحقيقية الذين يسعون إلى الارتقاء، وإنما الظهور والنجومية والإلحاح كله يذهب إلى الراقصات وخالعى الملابس، وأغانى شرب الخمر والحشيش، وطوفان الانحطاط الذى أغرق الشاشات والمجتمع.

على أى حال، إذا كان الانهيار هو القَدَر، فإن الحقيقة التى لن تنهار أبدًا هى أن العالم الذى تضيئه الشموس والأقمار والنجوم ليس بعيدًا إذا سعيت له. لذا، عليك الاعتزاز بالماضى، وعدم التفريط فى الذكرى، وحماية نفسك من التكيُّف المشبوه. ولو حاصرك اليأس، فغنِ الأغنية التى تحبها، وليست المفروضة عليك. وعلّمها لأولادك، وأحفادك، حتى يستمر الحُلْم.

وقبيل انهائى لهذا المقال، فى 14 أكتوبر 2020، بلغنى نبأ رحيل صاحب الصوت العذب، عن عمر 42 سنة، دون مرض عانى منه، أو حادث ألمّ به. لكن لِمَ النحيب؟ سيعيش طاهر مصطفى بيننا، ومن بعدنا، عبر سيرته الفنية العطرة، الثرية. ويكفى إخباركم أنه داوم فى الأفراح والحفلات التى قام بإحيائها على التغنى بأشعار بيرم التونسى ومرسى جميل عزيز وعبد الوهاب محمد، وألحان سيد درويش وبليغ حمدى وعمار الشريعى. لقد أصرّ على النور رغم الظلام؛ وأتمنى أن نفعل مثله، لأن هذا أصبح انتصارنا الوحيد.

رحمك الله أيها المطرب المعجزة، ورحم الجميع من أى أيام مظلمة ظالمة.

مقالات من نفس القسم