كل هذا الحزن

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهى محمود

"وأصابني منظر البحر – عندما رأيته أول مرة – بالذهول. فقد بدا لي معلقا في الفضاء، كأنه غول حي نابض، يوشك أن ينقض علي".  من مذكرات شارلي شابلن

علق هذا المشهد بعقلي، كما علقت الكثير من العبارات والحكايات والمشاهد من الكتب والأفلام التي أحببتها، احتفظت في ذاكرتي بالبشر وبشغف لقطات الحب الفارقة التي مدت لي جسرا رحبا من هنا لهناك، حتى أعبر على كل الحزن الذي يملأ قلبي، ويخطط لبقاء طويل..

أحتفظ بصورة فتاة أجمل وأرق، فتبقى صورتها هي التي تعكسها مرآتي دائما مهما تقدم بي العمر، وخطت الحياة بصماتها على روحي.

لكني سأقف تائهة تماما، عندما أشعر في روحي بتساوي لحظات الفرح بالحزن، الانتصار بالإخفاق، بهجة الميلاد وصدمة الموت..

صوت ضحكتي وهي تتفاوض مع دموعي حتى لا تزاحمها وتسقط فيبدو المشهد عبثيا ومربكا، حرف اللام الذي تعطل على لوحة مفاتيح “اللاب توب” وصار عليّ كلما ضغطت عليه أن اخرج من حالة الكتابة لأتأكد أنه دق الحرف على الورقة، وأفهم ان الحرف تعطل ليخبرني بطريقته أن لوحة المفاتيحاأشتاقت دقاتي عليها .

أشعر بشرود غريب في روحي، أتوه في أحلام يقظتي وأقابل بشراً لا أعرفهم في منامي، وتنبئني العرافة أن حظي هذا العام سيميل نحو شيء جديد، لا أعرفه ولا يخطر بعقلي . فأعرف أن شيئا سيفاجئني، وأعرف أن الفرح بعيد، ولا شئ قادر على هدهدة روحي التائهة. وأني أرغب أن يكون طوطمي لهذا العام هو حجر صغير تلمس قاعدته رمل البحر وسطحه غارق في رشرات الماء المملح وحوله صوت الموج والصمت.. هذا العام سيكون ملائما أن تكون حجرا صغيرا قادرا أحيانا على الذهاب للسينما ومشاهدة أفلام بمفرده لأن ” تذكرة سينما واحدة / وحيدة ” تبدو ملائمة تماما لرغبته  في البقاء صامت، حجرا يقرأ كتابا أعجبه لون غلافه الوسط بين البنفسجي والوردي ومكتوبة عليه ” فنّانة الجسد” لدون ديليلو .. كتاب لم يرشحه له أحد، ولم يشجعه شئ على شرائه .

الكتاب ابتسم لي وتعلق في يدي في طريق الخروج من المكتبة، الكتاب الذي تعلق بيدي ولم يخذلني لأن حكى لي عن إمرأة وحيدة تحيا في بيت خشبي مع شبح. الرواية تتحرك بهدوء وحزن وتلمع عبارات من حين لآخر لتمنح قاربي المرتج وسط العاصفة بإشارات نجاة .. حين قالت الرواية: ” أنا التي يجب أن تشتكي بسبب رعب يوم عادي آخر”  أو جملة تضخم أنينها  عند القراءة الهامسة وتردد صداها في تجويف روحها “لكن العالم كان قد ضاع داخلها” ثم ألقتها جملة آخرى داخل حضنها حيث استسلمت تماما ولم تقاوم دموعها عندما قالت لها الرواية ” وكيف أن كلمة وحيد تشير إليها وإلى المنزل وكيف أن كلمة بحر تعزز فكرة العزلة لكنها توحي ايضا بالتحرر”.

الليلة كانت باردة وأنا كنت وحيدة كما أنوى أن أكون هذا العام بطوله ، لأستجمع كسرات روحي ، وأخرج الضوضاء التي دخلت عنوة تحت جلدي فأفسدت هدوءي المحبب ، وبعثرت محتويات الحجرة فلم يعد هناك كرسي خشبي هزاز يمكنني أن اجلس عليه وأنا اسمع الموسيقى التي تسبق بدء الكتابة ، لم يعد هناك ركن للكتابة ولا مكانا للكتب بعدما أشترى رجل غامض أخشاب مكتبتي ليصنع عربة يد سيبيعها لرجل قد اصادفه يوما وأنا امشي جوار النهر يبيع البطاطا وأقف جوارة بخجل قديم من التعامل مع الباعة الجائلين يمنعني من شراء قطعه منها ، سأقف هذه المرة ليس لأجل دفء ورائحة البطاطا المحبب ولكن لأني أعرف خشب العربة من حياة أخرى . 

سأدخن سيجارة في حجرة قديمة ، واستمتع بها ، وفي عقلي يدوي صوت رجل أعتاد ان يسبني كلما نفثت سيجارتي ، سأسمع صوت سبابه وصوت ارتطام شئ بشئ ويلمع في ذهني صورة كوخ العبيد في رواية الجذور ، كنت هناك طوال عام وعندما غادرت كانت آثار السلاسل الحديدية تصنع تجويفا مرعبا يعبر من هنا للجانب الآخر .

 

هنا في الحلم القديم ، ومع شبح بنت قديمة وبحرف لام معطل في لوحة المفاتيح أجرب أن اصبح حجرا صغيرا هادئا يمر العالم بضوضائه حوله ولا يؤذيه شئ أبدا بعد الآن .

 

مقالات من نفس القسم