ليست حكاية الفيلم خيالية تماما, فالمتأثرون بهولدن كولفيلد, بطل الرواية, كثيرون, وكذلك المهووسون به. ففى مطلع الثمانينيات وبعد صدور الرواية بثلاثين عاما قام ديفيد شابمان صاحب الخمسة وعشرين عاما بقتل جون لينون, أحد أعضاء فريق البيتلز, وبعد أن أرداه قتيلا, سحب كرسيا وجلس بجوار جثته وأخذ يقرأ رواية ( الحارس فى حقل الشوفان) منتظرا حضور قوات البوليس, وفى أثناء الاستجواب الأوّلى قال ديفيد : “أنا واثق من أن الجزء الأكبر منى هو هولدن كولفيلد, أما الجزء الأصغر فلابد أن يكون الشيطان”.
كذلك كانت الرواية ضمن مقتنيات أوزوالد, قاتل كيندى, بالإضافة إلى جون هينكلى الذى امتلك نسخة من الرواية ذاتها, إلا أن الأخير كان مهووسا بفيلم (سائق التاكسى) لسكورسيزى ومن بطولة روبرت دى نيرو, ومتيما ببطلته جودى فوستر, فظن أن أفضل طريقة للفت نظرها هى أن يقتل رئيس الجمهورية, ظل يتتبع كارتر من ولاية لأخرى إلى أن اشتبهت فيه الشرطة وألقت القبض عليه, وعندما خرج من السجن كانت ولاية كارتر قد انتهت، فأطلق الرصاص على الرئيس المنتخب حديثا رونالد ريجان ليُعبر لجودى عن حبه.
****
حقق سالينجر نجاحا مدويا وهو فى أوائل الثلاثينيات من عمره بعد صدور روايته الأولى والوحيدة (الحارس فى حقل الشوفان) فى عام 1951, والتى استعرض فيها أسبوعا واحدا من حياة (هولدن كولفيلد) صاحب الستة عشر عاما, لم يكن ذلك هو الظهور الأول لهولدن الذى كان بطلا لعدد من القصص التى كتبها سالينجر فى العقد السابق, ينظر هولدن إلى البشر كمخلوقات زائفة مدعية, ولا يجد فى أغلب من يقابلهم بحياته من مدرسين, فتيات, أهل, أصدقاء وزملاء إلا نماذج متباينة للادعاء, ولذلك كانت أكثر كلمة يستخدمها ويكررها فى وصف الشخوص هى كلمة (مزيف/ مصطنع – (phony التى وردت عشرات المرات فى الرواية. ظل هولدن يكيل السباب لكل من يقابلهم, ولكن فى سره فقط دون أن يصرح لهم, بينما يهرب من صحبتهم إلى المجهول, متنقلا من مكان إلى آخر دون وجهة واضحة. يروى لنا هولدن أحداث ذلك الأسبوع بلهجة عنيفة ولغة غاضبة, مستخدما ألفاظا من العامية الأمريكية يتخللها العديد من الشتائم, يكذب طوال الوقت قائلا ( أنا أروع كاذب ستراه فى حياتك), يخترع لنفسه أسماء مستعارة وحيوات مختلقة ويحكيها دون توقف, أحيانا ليهرب من التورط فى محادثات شخصية, فهو يعلم أن لا أحد يهتم بأمر الآخرين حقا, كما أن( الناس لن يصدقوك أبدا), أو ربما ليسخر منهم فى أحيان أخرى, يهزأ منهم, فهولدن لا يطيق البقاء مع هؤلاء المزيفين ومعاملتهم بجدية ولا يجد نفسه وسعادته فى مجتمعاتهم, لا يجدهما إلا مع أخته الصغرى, فيبى, الطفلة ذات العشر سنوات.
يرى هولدن, وكذلك سالينجر, تناقضا صارخا بين زيف البشر الناضجين وبراءة الأطفال وتلقائيتهم, ونجد ذلك جليا عندما يتطرق هولدن لعلاقته بأخته فيبى, فيسرد لنا مواقفهما بحساسية شديدة, وبراءة مفرطة, تُناقض كل ما شهدناه فى معاملاته مع الآخرين, كأن يتابعها وهى تركب الأحصنة الخشبية بالملاهى وتميل لتلتقط خاتما ذهبيا أثناء دورانها فينتابه الخوف من سقوطها, ( لكننى لم أقل شيئا ولم أفعل شيئا. هكذا تسير الأمور مع الأطفال, إذا أرادوا أن ينتزعوا الخاتم الذهبى, عليك أن تتركهم ليفعلوا, وألا تقول شيئا. لو سقطوا, فليسقطوا, لكنه من السئ جدا أن تنصحهم بشئ حينها.)
لم تكن فيبى الطفلة الوحيدة المؤثرة فى حياة هولدن, فهناك أخوه المتوفى (ألى) الذى كان يصغره بعامين, كان هولدن يحبه بجنون, كحاله مع فيبى, ويصفه بأنه أذكى من فى عائلتهم, كان متقدا وطيبا ولاعبا ماهرا للبيسبول. بعد وفاته انصرف هولدن عن المذاكرة وظل يُطرد من مدرسة تلو الأخرى دون اكتراث منه رافضا الانصياع لهذا النظام الصارم, وفاعلا فقط ما يحب أن يفعل وهو كتابة مواضيع التعبير بالإنجليزية, حتى أنه كتب موضوعا فى وصف قفاز البيسبول الخاص ب(ألى), فبات يتفوق فى الإنجليزية ويشيد به أساتذته بينما يرسب فى باقى المواد حيث لا يهتم بمطالعتها. أما أخوه الأكبر ( دى. بى.) فقد انتقل إلى هوليوود, أصبح ثريا, يملك سيارة جاجوار, يعمل بالأفلام, ورغم أنه يأتى لزيارة هولدن فى نهاية كل أسبوع إلا أن الأخير يصفه بأنه كان كاتبا قصصيا مميزا قبل أن يتحول إلى عاهرة فى هوليوود, مضيفا أن أفضل قصصه كانت باسم ( السمكة الذهبية السرية) التى تحكى عن طفل صغير لم يسمح لأى أحد بالنظر إلى سمكته الذهبية لأنه اشتراها مما ادخره من مال.
****
بات هولدن كولفيلد نموذجا للمراهق المتمرد عند أجيال متعاقبة, فهو المراهق الذى رفض الأنماط الاجتماعية التقليدية, كسر القيود بطريقته, ترك المدرسة وقرر ألا يعود إلى أهله وأن يبحث عما يحب أن يفعله, ربما مجرد حارس بحقل الشوفان, إلا أن فيبى أصرت أن تصحبه فى كل خطواته ولأنه يحبها ولا يرضى لها بتحمل عواقب مغامرته اضطر أن يعود ويبقى ليحرسها.
كان ارتباط اسم هولدن والرواية بحادثة قتل جون لينون غريبا جدا, حيث قرر ديفيد شابمان قتل لينون بعد تصريح الأخير بأن البيتلز أكثر شعبية من المسيح, وأنه لا يؤمن بالله, ظن شابمان كمسيحى متدين أنه بقتل لينون سيحمى الأطفال من تلك الآراء التى ينشرها المطرب الشهير, يحميهم من هؤلاء المدّعين, كانت قائمته طويلة, تضم إليزبيث تايلور ومارلون براندو وجاكلين كنيدى, وعندما سُئل شابمان أثناء محاكمته إن كان لديه ما يقوله, قرأ لهم فقرة من رواية سالينجر (على كل حال, دائما ما أتخيل كل هؤلاء الأطفال الصغار يلعبون مباراة ما فى حقل كبير للشوفان, ألوف من الأطفال الصغار, ولا أحد حولهم- أقصد لا أحد من الكبار –إلا أنا, واقفا على حافة جرف منحدر مجنون. ما علىّ فعله هو أن ألتقط أيا من الأطفال قبل أن يسقط فى الجرف, أقصد إذا كانوا يلعبون ولا ينظرون إلى أين هم ذاهبون, علىّ أن أظهر من مكان ما والتقطهم. هذا ما أفعله طوال النهار, أن أكون مجرد حارس بحقل الشوفان وفقط.) . إلا أن هولدن لم يكن عدوانيا أو تصادميا أبدا, حتى عندما جالت بخياله للحظة فكرة قتل القواد (موريس) والرجل الذى لطخ أسوار المدرسة بكلمةfuck you) ), عاد وقال أنه حتى لا يستطيع أن يفعل ذلك. أيضا عندما قام سترادلاتر, رفيق هولدن, بضربه, نظر الأخير إلى وجهه الملطخ بالدم فى المرآة وقال أن المنظر أرعبه, إلا أنه بشكل ما أعجبه, فكل هذا الدم وتلك الكدمات جعلته يبدو كشاب قوى, ( لقد شاركت فى عراكين فقط بحياتى كلها, وانهزمت فى كليهما, أنا لست عنيفا أو قويا, أنا ميال للسلام إذا أردت الحقيقة.)
ورغم مرور أكثر من نصف قرن على الإصدار الأول للرواية, فعند بحثك على الإنترنت على اسم ( هولدن كولفيلد), ستجد العديد من المواد الحديثة عنه, رسومات كارتونية, مدونة باسم (كلنا هولدن كولفيلد), وربما مجموعات أخرى بالاسم نفسه, بالتأكيد تضم عصبة من الساخطين والغاضبين من نموذج الحياة الأمريكى- العالمى, وهو ما قد يستدعى لذهنك مجموعات مثل (كلنا خالد سعيد) أو ( كلنا سيد بلال), وكما يبدو فإن كل المجموعات النى تستخدم تلك الصيغة فى التسمية تضم أناسا يجمعهم الرفض والغضب إلى حد الثورة والانفجار. ستجد أيضا مجموعات كارهة لهولدن, وقوائم بما يحبه هولدن وما يكرهه, وقائمة بأكثر عشرة أشياء يكرهها هولدن كولفيلد, يتصدرها بالطبع الأشخاص المدّعون المصطنعون, ويتبعهم مفتولو العضلات ولاعبو الكرة, ثم الأفلام الهوليودية إلى آخر القائمة حيث أن الرواية تعج بالجمل التى تبدأ ب (أنا أكره..), (الشئ الذى أكرهه…), أو( أكثر ما أكرهه هو …)
****
كتب لويس ميناند مقالا طويلا فى النيويوركر فى عام 2001, باسم هولدن كولفيلد فى الخمسين, يعيد فيه قراءة الرواية بعد مرور خمسين عاما على نشرها, يحلل شخصية هولدن, ويقارنها بهاملت, ويعرض تصوره عن تأثير الرواية على قرائها المراهقين, فإن أغلب الأمريكان قرأوها وهم فى حوالى الرابعة عشر من عمرهم, وذلك لأن مدرسيهم أو آباءهم قرأوها فى السن ذاته وتأثروا بها ويظنون أن على الجميع أن يقرأها فى ذلك السن, يقول لويس أن قراءة (الحارس فى حقل الشوفان ) أشبه بالنظر إلى المرآة للمرة الأولى فى حياتك.
استلهم الكثيرون تيمة حقل الشوفان فى روايتهم فيما بعد, حتى أن كاتبا سويديا مغمورا اسمه فريدريك كولتنج, سمى نفسه ( جاى. دى. كاليفورنيا) وكتب فى نهاية العقد الماضى رواية وحيدة متخيلا فيها حياة هولدن كولفليد وهو فى السبعينيات من عمره تحت اسم ( الخروج من حقل الشوفان). إلا أن (الحارس فى حقل الشوفان) ليست مجرد رواية عن ذلك المراهق الغاضب الحزين, إنها بناء مركب يصعب تفكيكه أو تقليده, حيث اخترع سالينجر لروايته لغة مميزة مستمدة من العامية الأمريكية, تمتاز بتكرار ألفاظ بعينها وتركيبات معينة للجمل, لغة شاب غاضب حقا, ممتلئة بالمرارة الممزوجة بالسخرية, لذا تواجه الرواية صعوبات واضحة عند ترجمتها, ونجد لها ترجمة بالفصحى وأخرى بالعامية, فى سعى مستمر إلى استحضار روح النص الأصلى, فما بالك بإعادة كتابتها أو تقليدها. أو كما يقول ميناند فى مقاله أن إعادة كتابة الحارس فى حقل الشوفان بشكل مثالى لا تتطلب أن تعيد انتاج قصة سالينجر, بل عليك أن تعيد انتاج سالينجر ذاته.
****
لم ينته الأمر بسالينجر فى التعبير عن غضبه وحنقه من هذا العالم عبر روايته التى حققت مبيعات مهولة ووضعت صورته على غلاف مجلة (تايم), ولكن الأمر امتد لحياته الشخصية, حيث توارى سالينجر لحظة تلو الأخرى, اعتزل العالم, ابتعد عن البشر, انقطع عن نشر القصص أو الروايات, امتنع عن الحوارات والتواجد الإعلامى, واختفى تماما مثلما أراد أن يفعل هولدن بالرواية.
ظل العديد من المتأثرين بهولدن كولفيلد يحاولون اقتحام عزلة سالينجر على مر السنين, السماع منه لدقيقة أو اثنتين, وكأنه نبي أو صاحب رسالة. يروى أحد مقتحمى عزلة جاى أنه استطاع أن يقابله ذات مرة بالسبعينيات, انتظره حتى خرج من منزله وقال له أنه يكتب القصص ويريد أن يتحدث إليه بسبب روايته التى كان لها بالغ الأثر على شخصيته. صرخ فيه سالينجر بعصبية “أنا كاتب روائى, أنا لست مدرسا, فى كل عام يأتى أشخاص مثلك ليرونى, يأتون من أمريكا, كندا وأوروبا, وعلىّ أن أهرب من هؤلاء الأشخاص فى الشوارع, ليس لدىّ ما أقوله لأساعد هؤلاء فى حل مشاكلهم, أنا قد أمثل أسئلة فى كتاباتى بشكل ما, ولكننى لا أدعى أننى أملك الأجابة.”
عاش سالينجر فى عزلته الاختيارية منذ خمسينيات القرن الماضى وحتى وفاته بعام 2009, استمر قراؤه وجماهيره فى التردد على القرية التى قطنها بحثا عن منزله المنزوى آملين فى الحديث مع الكاتب الذى ألهمهم, أثر بأفكارهم ورؤيتهم للحياة. وكما يقول هولدن كولفيلد فى أحد الفصول الأولى بالرواية “ما يثيرنى حقا هو كتاب عندما تفرغ من قراءته, تتمنى أن يكون كاتبه صديقا قريبا لك, وتستطيع أن تتصل وتهاتفه وقتما تحب, وهذا لا يحدث كثيرا.” إلا أنه حدث مع سالينجر نفسه, بصفته الكاتب الصديق, ولكنه فضل العزلة, البُعد عن الحياة الصاخبة, عن النشر والتوزيع, عن الشهرة والأناس المزيفيين والمدّعين, قضى حياته بعيدا متمنيا أن تكون روايته الوحيدة, هى ذاتها, حارسة فى حقل الشوفان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد سينمائي مصري