كفّارة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الطيب

حتّى بعد مرور السنوات، ما زَالتْ أُمّها تسألُها:
– هل زوجك معكِ على ما يرام؟
– أجل.
– متأكدة؟!
تقولُها استنكارًا وهي متبرّمة، تعبتْ مريم من أن تُفهمها أن الأمور على غيرِ ما تَحسب، لكن الأم لا تُصدق، ولا تبلعْ تلك الزيجة منذ أن بدأت، يوم جاءت أمه وطلبتْ يَد مريم، لَمْ ترغبْ أن تَحرِج المرأة بالرفض فورًا، فضّلتْ أن تجعل الأمر يسري روتينيًا من باب الذوق والأدب:
– سأسأل مريم وأردُّ عليكِ.
دخلتْ لمريم حجرة نومها، كانت تجلس في البلكونة وتنظر للسماء في الظلمة، قالت لها وهي تقهقه:
– تخيّلي.. أم عادل جاءت وطلبت يدك مني لعادل، قالت أنها حاولت إثناءه عن الأمر حتى لا يتعكر الماء بيني وبينها، ولكنه صمّمَ أن تأتي وتحملَ طلبه، لمْ أرغبْ أن أرفضَ فورًا وقلتُ لها أني سأسألُكِ.. الست يا عيني زعلانة على حظِّ ابنها!
أدارتْ مريم وجهها لأمها وقالت بوجه مُربد:
– ماما.. أنا موافقة أتجوّز عادل.
انصعقتْ أمها:
– ماذا تقولين؟
– سأتزوج من عادل.. قولي لأمه أني موافقة.
انفعلتْ الأم:
– هل جُننتِ؟ “تصومي تصومي وتفطري على بصلة”؟! ألم تعرفي مصابه؟! أنتِ صيدلانية المفروض وعارفة هذه الأمور!
– ماما من فضلك.. أنا موافقة، وإن لم توافقي أنتِ أيضًا سأُلقي بنفسي من البلكونة!
إزاء هذه الإرادة الحديدية، تزوّجت مريم من عادل، رغم تعنيف أمها، ونصائح صديقتها التي قالت لها باستنكار:
– كيف تقبلين به؟! أم أنك تعانين من برود؟!
كانت تؤثِر عدم التفسير وتكتفي بـ “سنكون على ما يرام سويًّا”.
ينصرف مريم وعادل من عند أم مريم التي تودّعهما بنظرة كراهية، يسيران في الطريق، يقبضُ القدر قبضته على صدر مريم فيئن، لم تحسبْ بعد هذه السنوات أن ترى عُلا برفقة زوجها وابنها في الشارع، كذلك عادل يتوقف هنيهة، تتبادل عيناه نظرة مع علا فيستعيد ما كان، سرعان ما يتلاشى كل شيء ويمضي كلُّ في طريقه كالغرباء.
“مريم، أنت متملقة، كل قوتك أنّك صيدلانية، تفهمين في الكيمياء، ولا تملكين أي شيء جذاب كأنثى!”
كانت هذه تمامًا كلمات علا نحوها منذ سنوات وهما في حفل زفاف، على إثرها اشتعلت بداخلها جذوة لم تنطفئ بسهولة، كانت هي الوحيدة بين قريناتها التي تُسدّد نحوها الأصابع بأن لا حبيب لها، هي التي اهتمت بالاجتهاد في الدراسة وبناء ذاتها، عكس تيار الفتيات السائد في الحارة، الاهتمام بنضارة الوجه وحلاوة اللسان لإيقاع المحبين وعيش أيام سعيدة تنتهي بالخطوبة والزواج، لذلك قليلا ما كانت تذهب للأفراح والحفلات، تتحاشى الظهور كي لا تكون عُرضة للانتقاد والسخرية.
تعودُ معه للشقة، يُلقي بنفسه على الفراش، يراقبها بهدوء وهي تخلع ثيابها، يقول لها:
– أمك لا تحبني!
– إنها ست كبيرة، لا تأخذ كلامها ونظراتها على محمل الجد.
تجلسُ بجواره وتضع يدها على صدره:
– المهم أني أحبك.
يبتسم، لم تقاوم أمام بسمته، تتبدل بسمتها لبؤس وتقول:
– عادل.. أعلم أنك كنتَ تُحبُّ عُلا.
– وما الجديد؟ الكل يعرف أني كنت أقوم وأنام أحلمُ بعلا، حارتنا لا يختبئ فيها أي شيء.
تقول في نفسها: “أجل، حارتنا لا يختبئ فيها أي شيء، ومن السهل إشعال مأساة لأحد أفرادها، كون أغلبية الأفراد بأجساد كبيرة وعقول صغيرة”.
زارتها صاحبتها ذات نهار عندما كانت أجازة من المستشفى، تُفضّل أن تجلس رفقة إحدى الصاحبات العازبات من جيلها أو قريباتها بدلا من الانفراد بنفسها التي تنغّص عليها عيشتها لعدم وجود شاب ينتبه لوجودها، قالت لها صاحبتها:
– ألم تسمعي بما حدث؟
– ماذا؟
– منذ ليلتين، تقدم عادل لخطبة علا، ولم تقبل به.
عقدت حاجبيها:
– نحن لسنا في أبريل.
– ليست كذبة، إنها الحقيقة، أنتِ لا تأتين لجلساتنا الجماعية وأفراح الصديقات لتعرفين ما يجري.
نظرت مريم نحو البلكونة تفكر وتقول:
– إنهما عاشقان، هائمان في بعضهما، ماذا جرى؟!
أشبعت صاحبتها فضولها الذي لاحظته في عينيها:
– الحكاية منتشرة منذ أيام، شوهد عادل بشريط فياجرا اشتراه من صيدلية خارج الحارة.
رفعتْ مريم حاجبها:
– شريط فياجرا، وماذا في هذا؟!
– أنتِ عبيطة؟! المفترض أنك صيدلانية وفاهمة، برأيك ما السبب الذي يدفع عادل لاستخدام شريط فياجرا؟
يشهد الأساتذة أن مريم صيدلانية ممتازة، فكّرت في الموضوع بتمهل وبصوت عال، إنها تبيع الفياجرا لأي أحد، الجميع يطلبها بلا إبداء أسباب ويدّعون أنها ليست لهم منعًا للإحراج، ولا تهمُّها معرفة التفاصيل، لا ترى أي شيء مشين تجاه مَن يَستعين بالفياجرا لإتمام الاتصال الحميم، ولكن عادل غير متزوج، إذن لا ريب أنه يستخدمه لخوض مغامرة مع فتاة ليل، وهذا ليس بغريب على شباب هذا الزمن في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، قالت صاحبتها:
– بالطبع لم يتم الاعتراض أنه يخوض مغامرة شائنة، بل إن هذا قد يعزز من مكانته كخبير بالنساء، ولكن الخيبة إنه “طلع مابيعرفش”!
هكذا، طوال الأيام الفائتة التي اعتكفت فيها مريم وانعزلت عن الحارة وأهلها، تلقّت علا السهام في رواحها ومجيئها من الأعين وألسنة البنات صاحباتها، التي دارت حول سؤال يرغبن منها أن تجيبه: هل حقًا ستتزوجين فتى لا يُحسن معاشرة النساء ويلجأ لمنشّطات؟! رجل غير كامل؟!
هذا ما أكدته أم مريم أيضًا، سمعت الحكاية من جارتها التي تقعد معها على المصطبة وتنمُّ على خلق الله، قالت لمريم:
– المرأة لن تشعر بالسعادة مع رجل لا يقوم بالواجب إلا بمنشطات، سترى أنها غير كافية لإثارة إعجابه، لن تتحمل الشعور بالنقص، ستموت معنويًا ببطء، خيرًا فعلتْ علا أن رفضتْه، ربنا يتولاه وإعاقته!
تنظرُ لعادل ذو الوجه البريء، أجمل شباب الحارة، الفتى الذي حسدتْ الفتيات علا لأنه يحبها هي دون غيرها، تقول له:
– عادل.. أرغب أن أخبركَ بأمر هام.
– فلنؤجل هذا فيما بعد، غدًا أجازة، دعينا لا نُفسِدُ لحظاتِ اللذة.
كانت تتأمّل صورته على الفيسبوك بعد مضيّ عامين على رفض علا الزواج منه، اقتنعتْ مريم أن علا لم تكُن تحبّه حقا، كان حبًا صوريًّا، حُب لم يُختبَر إلا بشريط فياجرا هدمَه تماما، إن كان حبًّا حقيقيًّا نابعًا من الفؤاد لما تخلّتْ عنه، الآن علا متزوجة، نعم، بعد شهرين من رفضها لعادل تزوّجت من آخر، حضرتْ مريم فرحها، رأتها في الفستان الأبيض، ظنت أن علامات الألم ستبدو على وجهها لأنها تتزوج رجلا غير الذي أحبّته، لكن لدهشتها كانت علا ترقص مع عريسها وهي في قمة السعادة، كأن عادل لم يكن يومًا! خرجتْ مريم من الفرح لترتاح قليلا من ضجيج الدي جي، فوجئتْ بعادل يقف خارج قاعة الفرح، مهمومًا حزينًا.. ووحيدًا، تقتربُ منه، كان شاردًا فلم يلحظها، ربتتْ على كتفه فانتبه لها:
– إزيك يا عادل!
ارتبك وتحرك من مكانه:
– إزيك يا دكتورة… عن إذنك!
وانصرف مُسرعًا الخطو حتى اختفى عن ناظريها الحزينين لحاله.
عادتْ ليلتها للصيدلية التي تعمل بها، فوجئتْ بوالدته تدخل عليها الصيدلية بوجه لا يحتفي بأي بهجة:
– إزيك يا مريم يا بنتي وإزي أمك؟ سلمي لي عليها.. أرجو أن تحضري لي شريط فياجرا.
عقدت مريم حاجبيها:
– لماذا تريدين الفياجرا؟!
– الدكتور وصفها لزوجي، مريض قلب وضغط بعيد عنك، لم أجد عادل ليأتي بدلا مني فيشتريها، فقلت أسرع وأشتريها أنا..
ثم تنهدتْ:
– مسكين عادل، اليوم، ولثالث مرة، ترفض بنت أن تقبله عريسًا لها!..
أدركتْ مريم لحظتها أن عادل موصوم بما ليس فيه!
دخلتْ عليها أمها فأغلقتْ الهاتف على صورته، سألتها:
– تذكرين عادل؟
– ماله؟
– رفضته بنت منال جارتنا، الولد اترفض تقريبًا من الحارة كلها! أمه قابلتني، قالت إنه يئس من العثور على واحدة تقبل به، اقتنع بالبقاء وحيدًا.. مسكين!
أطرقتْ مريم النظر أرضًا في حزن، كانت تراقبه من البلكونة وهو يسير ذاهبًا أو عائدًا من عمله، ذهبتْ بسمته التي كانت تشع، لم يعد له جمهور من الفتيات كما كان منذ عامين، يئس من الحصول على زوجة تشاركه حياته بحلوها ومرها، بسبب وصمة شائنة لا ذنب له فيها، قلبها يرق له، تشعر نحوه بشعور لا مفر من تلبيته.
– ماما أنا خارجة!
سارتْ نحو الموقف الذي تكتظ به السيارات، لساعات انتظرت عودة السيارة المعنية، خرج عادل منها وهو يحمل حقيبته على ظهره عائدًا من العمل، أوقفته بجرأة لم تعهدها في نفسها، اندهشَ منها:
– دكتورة مريم!
– عادل.. أنا… إني أقدّم لك نفسي.. أرغب أن تتزوّجني وأكون شريكة حياتك!…
ينتهيان من الاتصال فيرتاحان قليلا، يداه تحتضنان يدها الناعمة فوق صدره ويقول:
– مريم.. الآن أنا لا أحب غيرك، أنتِ وحدك تستحقين حبي.
تقول في نفسها بصرامة: “كلا.. لا أستحقه!”.
– ما الذي كنتِ ترغبين أن تخبريني به؟
ينتبه لها مبتسمًا منتظرًا ما يَسُر، بينما تتقاذفها الأفكار بين بعضها كالكرة الملعوب بها، هل تحكي له السر الدفين الخامد بعد مرور السنوات، والذي اشتعل اليوم حين رأتْ علا؟ هل تحكي له كيف بدأت مأساته عندما التهمتها نار الغيظ من علا حين قالت لها أمام صاحباتها في الفرح:
– مريم، أنت متملّقة، كل قوتك أنّك صيدلانية تفهمين في الكيمياء، ولا تملكين أي شيء جذاب كأنثى!
دفعه القدر أن يدخل الصيدلية التي كانت تتدرب فيها في هذا الوقت، لمحته عن بُعد من وراء الزجاج الشفاف وهو يتحدث مع زميلها بصوت خفيض، بينما تلتهمها نار أشعلتها علا حبيبته، جلب له الصيدلي شريط الفياجرا فتناوله من يده ودفع الثمن ثم رحل سريعًا، وعيناها في قمة الدهشة، قهقهتْ بصوت عالٍ جعل الصيدلي يرفع حاجبيه مذهولا منها، ظلّت تضحك حتى عودتها لأمها الجالسة في الصالة أمام التلفاز.
– مريم.. علام تضحكين؟!
– لن تتصوّري..
دخلت مخدعها، قالت إنها قصة جيدة، تستطيع ضرب معنويات علا بها، لهذا في جلستها مع صديقتها الثرثارة حكتْ لها ما جرى:
– عادل حبيب علا.. كان يشتري الفياجرا!
فغرت فاهها ووضعت كفها عليه:
– فياجرا!
– آها… طلع مابيعرفش!
وقهقهتْ.
تفهم جيدا أن عليها، كي تثير بلبلة حول أي أحد في حارتهم، الاعتماد على ثرثرة الفتيات اللواتي لا يُحسنن كتمَ أي خبر، ما بالك لو كان الحديث عن حبيب علا التي ترى نفسها محظوظة به؟! شدت القوس ورمت السهم بقوة مطمئنة للانتصار، لكن سهمها أخطأ الهدف، نجت علا من الضربة، وأصاب السهم عادل.
– مريم.. ما الذي كنتِ ترغبين أن تخبريني به؟
تنظر نحوه، تراه سعيدًا بعد معاشرته لها، المعاشرة التي يثبت فيها كفاءته دومًا وأنه طبيعي لا يحتاج لمنشطات، ما يجعل قلبها يتألّم كُل مرة، كلا لن تفسد عليه سعادته التي يستحقها، فلتتحمل الألم، هذه كفّارة ما صنعت بلسانها، تبتسم وتقول له ودمعتها تنزل على خدّها:
– أردتُ أن أقول لك أنّي أحبك يا سيد الرجالة!

 ٢ ديسمبر ٢٠٢٤م

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

ألم

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

كشف هيئة