كاتيوشا وحيد الطويلة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمير درويش

قبل أن أقرأ الفصول الخمسة الأخيرة من رواية “كاتيوشا” لوحيد الطويلة، كان المشهد الأخير من فيلم “أصحاب ولا أعز” يتأرجح أمام عينيَّ، حين خرج الضيوف “كما جاءوا” بالضبط، ليكتشف المُشاهد أن كل ما رآه لم يحدث، هو محض تخيُّل، محض افتراض، تصوُّرٌ فلسفيٌّ ثقافيٌّ وليس واقعًا حقيقيًّا كالذي نعرفه ونعيش بعضه.. وعندما بدأت في قراءة الفصل الأخير، ووجدت نبوءتي تتحقق، قلت في نفسي، لم يعد إلا أن يسأل “وحيد الطويلة” قرَّاءه أن يشاركوه في اختيار عنوان من عدة عناوين، وتذكرت التدوينة التي كتبها على فيس بوك، لكني لا أذكر إن كنت علَّقت عليها بأحد الاختيارات أم لا، هل أرسلت له رسالة خاصة باختياري؟ لا أعرف، طيب هل –سواء شاركت في الاختيار أم لا- كان اختياري كاتيوشا؟!

“كاتيوشا” –اسم تدليل كاترينا- أغنية أرسلتها فتاة روسية لحبيبها في الجبهة حيث يحارب ضد النازيين، أرادت ببساطة أن تقول له إنها تتذكره وإنها تنتظره، فأصبحت من أشهر الأغنيات التي سمعها العالم كله.

بعد أن قرأت الفصول الأولى قلت لنفسي إن “وحيد” يقامر، ورجوت أن تكون المغامرة محسوبة.. فبعد أن كتب “جنازة أخيرة لعماد حمدى” التي تمتلئ بالقصص والشخصيات “الشمال” وحكاياتها الغرائبية، وأسرار هذا الكون المروع الغامض الذي لا نعرف عنه شيئًا، عالم المسجلين خطرًا بكل تفاصيله المدهشة، ها هو يكتب رواية عبارة عن مونولوج طويل جدًّا على لسان امرأة/ راوية، أو –الأصح- في عقلها! امرأة لا تفعل شيئًا سوى الجلوس على كرسي غير مريح جنب سرير زوجها الذي بين الحياة والموت في المستشفى، دخل في غيبوبة عميقة بحيث لا يحس ولا يتحرك، وبالطبع لا يتكلم ولا يَصدُر عنه أي انطباع، امرأة تسببت حرفيًّا في وقوف زوجها على حافة الموت دون أن تقول جملة واحدة تبين أنها تشعر بالذنب.

(التحدي الذي اجتازه وحيد الطويلة بيسر هو أنه فهم حالات المرأة من داخلها، أو أتصور هذا، وصوَّر ردود أفعالها بعمق)

امرأة لا تشعر بالذنب لأنها –كالنساء جميعًا- ترى أن تحوُّل مشاعر زوجها لامرأة أخرى –غيرها- جريمة أكبر من فعل القتل ذاته.. جريمة مكتملة ليس لها ما يبررها، حتى أنها –قرب النهاية- كانت تفكر في قتله بالفعل بفصل الأنابيب التي تبقيه حيًّا، ولا تشعر بالذنب كذلك لأنها مقتولة أصلًا!

لكن شيئًا فشيئًا بدأ “وحيد” يُدخل شخصيات نسائية أخرى، متَّهمات، ثلاث نساء دخلن وخرجن على عجل، والأخيرة –الرابعة- دخلت بكل ثقل أنوثتها وتاريخ علاقتها بها وبه، وبأغنياتها وأفكارها، لكنها بعد تجربة طويلة -في محاولة تقاسم رجل واحد بين امرأتين- قررت أن تخرج نهائيًّا، وتتركنا نحن القراء بين الرجل النائم عميقًا، والمرأة التي تحترق ببطء لتعرف من التي أخذت منها حبها الكبير؟ من التي استطاعت أن تُشعر زوجها وحبيبها أنها أفضل له؟!

لغة وحيد الطويلة في “كاتيوشا”، وفي أعماله السابقة، سلسلة ناعمة، كأنه يكتب قصيدة نثر طويلة، لا تُلزم نفسها بأية قواعد، ومع ذلك لا تترك فراغات واسعة بين الكلمات والجُمل حتى لا يسقط القارئ فيها ويقرر ألا يقوم.. أنت –كقارئ- تلهث وراءه باستمرار وأنت تعلم أنه لا يقدم خبرًا تريد أن تحيط به، لا يحكي عن شخصية تغريك بداياتها بمعرفة النهاية التي ستؤول إليها، كل ما يقدمه لك سرد منساب سلس بسيط في ظاهره، لكنه عميق وخادع لا يقدر على إدارته بهذه الحنكة إلا كاتب يوجه اللغة حيث يشاء.

الفصل الأخير مفاجئ بكل المقاييس، يقلب الأحداث رأسًا على عقب، لكن: لماذا لم يفاجئني؟ ربما الخبرة، ربما لأني أحاول –دون وعي- وضع نفسي مكان الكاتب وأرى نهاية مناسبة، وربما لأنني توحدت مع الفعل حتى صرت جزءًا منه.

“كاتيوشا” رواية مهمة لكاتب كبير، رواية مُلهِمة تلهث وراءها حتى تعرف ما الذي يخبئه الكاتب، الذي نجح بامتياز في أن يمسكك من رقبتك، لا يتركك إلا حين تقرأ الكلمة الأخيرة، وتجلس إلى اللاب توب لتسجل دهشتك.. ليس بتفاصيلها الكاملة على أي حال!!

مقالات من نفس القسم