حاتم ممدوح
جسم غريب ملقى على سطح الطريق. يتكور على نفسه فلا تتضح كل ملامحه. تتناثر بروز كالدمامل والتقيحات الحمراء والزرقاء على جلده الهزيل. أثار ريبة أهل المنطقة وذعرهم. قالوا: كيف جاء إلى منطقتنا؟! ومن الذي القاه علينا ليهدد استقرارنا؟!
قرروا – في أثناء وقوفهم عن بُعد – تركه ليتحلل بمكانه وردمه بعد ذلك بالتراب. ولكن شابا جريئا لديه من العلم والإجراءات الوقائية، اقترب منه. تفحصه بطريقة بدائية لمحاولة فك لغز غرابته، والكشف عن هويته. فظهرت كل ملامحه الشبابية على الرغم من زحف الشيخوخة عليه. لم يفارق الحياة بعد، ولم يره أحد بالمنطقة من قبل، ولم تثبت مع الوقت صلته بأي من أهلها. لايرتدى إلا “بليزر” كالمخرجين والمثقفين فأضفى عليهم الاستغراب. ماذا نفعل بشأنه؟.
قال أحدهم وهو يشير ناحية الجسد: يبدو عليه المرض، لذا لن نبلغ الشرطة خوفاً من إقحام المنطقة بأثرها في المشكلات التي لا حصر لها، فوافقوه الرأي. وأكمل عجوز: وربما ضُرب نتيجة موقف، فضعف ومرض حتى أشرف على الموت، فألقته سيارة مجهولة الهوية بمنطقتنا في ساعة فجرية، لذا لن نبلغ أيضاً.
قال آخر بعد صمت لزمهم: وربما ألقاه علينا سكان منطقة أخرى حين اكتشفوا إصابته، فلا مانع أن نلقيه خارج منطقتنا وذلك لإبعاد الشبهة عنا. أجمعوا على رأيه وعزموا على تنفيذه، ولم يثنهم عما قرروه سوى إفاقة الغريب نفسه.
رفع جزأه العلوي عن الأرض، وتأملهم بعين واحدة من بين كادر كاميرا خلقه بأصابعي كفيه. دار بكادره حركة مستعرضة” بان رايت”وأخرى ” بان ليفت”. وقف بجسده الضخم، فارداً ذراعيه، تاركاً عضوه العارى لدهشة العيون، ثم سار بخطوات هادئة داخل الشارع. فتتبعوه بخوف ولكن دون أن يقتربوا منه. أرتدى جلباباً معلق على حبل أحد الجيران، أختبأ بغرفة مهجورة ببيت العنبر. فتركه الجشع – مالك البيت – لإخافة العائلات التي لم تقبل مبلغه الزهيد مقابل ترك البيت، ولكي يجبرهم على الرحيل لهدمها وإنشاء برجه العالي. فأحبطوا مخططه وتعايشوا معه بحذر لإعتقادهم بأن الجشع من أحضره إليهم.
قالوا بهدوء أعصاب مخالف لأهل المنطقة المذعورين: لم الهلع منه؟!، وما الذي سيصيبنا من وجوده أكثر من مصائبنا اليومية؟!. فالموت يبتلعنا في كل لحظة، إن لم يكن من الخوف فمن الفقر أو المرض أو الموت البطئ أو سقوط المنازل أو أمام عجلات القطارات. اقتنع البعض برأيهم، ووضع البعض الآخر ملصقات على جدران البيت، كتبوا عليها لا تتعاملوا معهم. كما أقاموا الحواجز حول البيت- بمباركة مالكه- لتضييق الخناق على الغريب دون مرعاه لسكانه. فأزاح الساكنين القيود بقوة، ونزعوا الملصقات، وكشروا عن أنيابهم، وأقسموا على عدم مغادرة البيت. اقترح الجشع إحراق العمارة بمن فيها، أو إرهابهم في الليل وإحضار معاول الهدم لتخويفهم، وإلقاء أثاثهم في الشارع. فرفض المذعورون من أهل المنطقة خوفاً من نيران الشرطة التي قد تطولهم، ولمعرفتهم المسبقة بنواياه السيئة.
تحرك الغريب داخل المنطقة بحرية ولم يبت بالغرفة فقط. كان يخرج عن المنطقة ويعود إليها فى غفلة منهم. فانتشر الحديث عن حركته الدائمة، وأصاب الساكنين الذعر من احتمالية أن تمتد يده بسوء لأنفسهم ولأبنائهم فى أى وقت، وعجزهم عن السيطرة عليه. تعاطفوا مع حال أهل البيت وطول جيرتهم، وحاولوا المصالحة بينهم وبين الجشع حتى لا يفيض بهم الكيل تجاه إرهابه. تحالفوا ضده، واقتنعوا بأنه لا مفر سوى بالاحتماء بكل الإجراءات الاحترازية، والابتعاد عن الغريب ومنع التعامل معه.
ففرض المذعورين قبضة من حديد على مداخل المنطقة ومخارجها منعاً لدخول جسم غريب آخر.وضعوه تحت النظر حتى يتم إجلاؤه عن المنطقة. انطلقت مكبرات الزوايا والعامة داعية بالتزام البيوت، وعدم الاختلاط به حتى يوجد حلاً لإرهابه. ظل الوضع على ذلك حتى تسلل الملل للبيوت، كرهوا الحالة برمتها، وحذا الكثير منهم حذو عائلات البيت. عادوا إلى الحياة دون رهبة منه رغم قلقهم الداخلى، لكنهم لم يقتربوا منه. أعاد بعضهم تذكر الحدث من البداية، فسخروا بتوجس من حركته التي خلقها بأصبعي كفيه حين أفاق،ثم بجرأة من هيئته . فقال له شاب يدعى بشلة، كان يسير على بُعد منه:
- أدينا صورة.
فالتفت الغريب نحوه وهو يبتسم بلا مبالاة. رفع جلبابه الذي لا يرتدى إثره شيئاً، وسدد نحوه عضوه المتهدل الذابل، في نفس الوقت الذي أصدر من فمه صوت “شاتر” كاميرا، تلتقط صورة. صار مبتعداً بعدما ستر نفسه وكأن شيئاً لم يحدث. ضحكوا بعد خوف، وأطلت روح الدعابة بينهم من جديد، ورفع المذعورون حالة الاستنفار عن المنطقة. فلم يتكلموا في الخطب عن خطورته حتى يتناساه الناس، بينما ظلت المكبرات تردد صوتاً مسجلاً عن ضرورة الاحتراز منه. فصدقوا كذبة القضاء على أسطورته برغم من عدم مغادرته للمكان، واختلاط البعض به. لم تقل كم الحكايات التي لا تنتهي عن كيفية ظهوره ولغز حركته الغريبة؟، ولم يستطع الجشع إخفاء نواياه. فظل يتحرك على سطح الطريق بين الناس الذين لم يبقوا على حالهم كما جاء، ولم ينتظروا اختفاءه لأنهم يرونه هالة فارغة سرعان ماستقضى على نفسها بنفسها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري