جمال القصاص
لماذا يذهب الكاتب إلى الماضي ولماذا هذا الحنين إلى طاعة مستعصية، لم تعد تمتلك شهوتها وحسيتها، وأصبحت كومة من الذكريات فوق الرف، نهدهدها، ونهش التراب عنها من وقت لآخر ، بل أحيانا نجتهد لننساها، وكأن نسيانها سيجعلنا نعرف أنفسنا بشكل أوضح وأعمق، ونعرفها هي أيضا بشكل جديد.
قد يبدو هذا السؤال صعبا إلى حد الغموض، بل محفوفا بمخاطر جمّة، خاصة حين أغامر به وأتوهم أن اللعب مع الماضي يصلح كنواة مركزية لاستشراف انجاز كاتبة ملتصقة بذاتها إلى حد الامتلاء، حتى في أقصى لحظات التمرد ومحاولة الهروب أو الخروج من هذا الامتلاء وكسره، يظل هذا الالتصاق حميميا، بل قابلا لإثارة الدهشة والأسئلة، والقفز بتلقائية في تخوم البدايات والنهايات، في عتمة المرئي واللامرئي، لكي تظل مساحة اللعب رخوة ومشدودة بين الأشياء وظلالها، بين الماضي والحاضر ، بين الحضور والغياب، بين الفعل كمحض تصور ، وإمكانية تحققه أو تخيله على مسرح الواقع والكتابة معا.
ومن ثم ، هل توفر الكتابة للمبدع أن يعيش كلا الزمنين معا، أو بتوهم أن أحدهما يمكن أن يختزل الآخر، أو حتى يدل عليه، رغم أن الماضي هو الماضي والحاضر هو الحاضر ، والغياب والحضور كذلك، مهما لحقت به وتعددت واشتبكت نقاط التحول والتغيير ، سواء بشكل إرادي، أو بإرادة أخرى ” قدرية ” خارج نطاق الذات.
لكن مي التلمساني عبر رواياتها الثلاث التي ضمها هذا الكتاب (صدر حديثا عن دار شرقيات بالقاهرة) قدمت حلولا شديدة التميز فنيا وفكريا لهذا السؤال الشائك، رابطة مراوغاته بفكرة الكتابة كفعل وجود وحياة ، فلا ماضٍ ولا حاضر سوى ماضي وحاضر الكتابة نفسها.
تذهب مي إلى الماضي بروح البحث عن طفولة الأشياء والكائنات، طفولة الزمن والروح والجسد، حينئذ يتحول فعل الكتابة نفسه إلى برزخ شفيف للعبور إلى حيوات وعوالم انقضت، لم يبق سوى روائحها وغبارها عالقا في فضاء الذكريات، كأثر وعلامة ورمز ، لكن مع ذلك يمكن للذات أن تستعيد تلك العوالم بقوة العاطفة والحلم، بل تعايشها إلى حد التنزّه في أجوائها، واللعب عبر تخومها القصية، كأنها تجسيد للحظتين، لزمنين، يمثل فعل الكتابة شكلا من أشكال الانعتاق لهما، من أسر الماضي والحاضر معا.
هل نحن إذن إزاء سباق بين الشيء وظله، خاصة حين يعجز كلاهما عن احتواء الآخر واقعيا على مستوى وجوده المادي الماثل للعيان، أم أن كليهما يفتش في الآخر عن صيغة لحوار أصبح مستغلقا وغائما مع الواقع والوجود، وإلى أين إذن يذهب الماضي التي تحاول الكاتبة استنطاقه، بل ولادته من رحم هذه الروايات. ثم، هل الكتابة في كل هذه السبيكة هي محاولة لتحصين الذات ضد مخاوف الخارج ، وما ينطوي عليه العالم والواقع من شرور وآثام ، وهل هي أيضا تحصين للذات من مخاوف الكتابة نفسها، باعتبارها نقطة لا مرئية بين حافتي الوعي واللاوعي.. ثم ما الذي يفصل الذات الساردة عن شخصية الكاتبة نفسها، ويوحدهما في الوقت نفسه ؟؟.
أتصور أننا في هذا الكتاب إزاء تجسيد حي لكل هذه التساؤلات اللاهثة، فالكتابة ، أو بمعنى أدق ، فعل الإبداع لدي مي التلمساني، هو تجلٍّ لدوائر مكثفة، ومقطّرة من الموهبة والخبرة والمعرفة الإنسانية، تمتزج فيها إشراقات العقل بتعارضات الروح والجسد ، ربما يكون العقل هو الأسرع في التقاط اللبنة الأولى، لكنه مع ذلك لا يحكم العلاقة بين هذه اللبنة الأساس وبين المعمار الروائي، في نسيجه الكلي ودفقه السردي المتموج .. حيث تعلو دائما سطوة الحلم بالكتابة حتى داخل الكتابة نفسها.
في روايتها الأولى “دنيا زاد”، يولد الماضي ميتا، مخلفا صورا كابوسية، تتناثر في فضاء الرواية، حتى سطورها الأخيرة. فالطفلة الجنين التي قبعت في بطن الأم ( بطلة الرواية ) بسلام طيلة أشهر الحمل، وتم استعارة اسمها من أجواء”ألف ليلة وليلة” وحكاياتها الأثيرة، تخرج للحياة مغمضة العينين، تاركة فوق سرير بغرفة العمليات بالمستشفى بقعة دم تشبه بياض الكفن. إنه ماض من الوجع والألم والفقد، يتراءى كنقطة غامضة بين قوسي الموت والميلاد،، لكنه مع ذلك يعيش في رحم الكتابة كحلم، يتنفس طبقاتها وذكرياتها وحنينها وأحزانها، مشكلا في الوقت نفسه نوعا من التحدي، حيث تتحول مواجهة الموت إلى محاولة مستميتة لاسترجاع الوعي المُسْتَلب، وامتلاكه بإرادة أخرى أكثر صلابة وتشبثا بحلم إنجاب طفل جديد، يجدد في الأم إحساسها بوجودها الداخلي، وأن رحمها ليس مقبرة، وإنما هو فردوسها الأرضي الخصب.
في ظل هذا الوعي المغاير تتصالح البطلة مع جسدها وحلمها وذاتها، تتصالح مع الأمل، بل تصبح مريضة به.. تطل روح هذا الوعي في مشهد من الرواية بإيقاع اقرب إلى النجوى الداخلية المخفوقة بتساؤل لاعج حول ماض قاس أصبح الخروج منه ضرورة وجود. تصف ذلك في( ص45) قائلة:”لحظة انسلاخ بطيء من الماضي. أدعم قلبي بألواح خشبية حتى لا يسقط، وأمد بين فتحة الحلق وفتحة الرحم خيوط المحبة. لماذا تلازمني هذا الغصّة حين أفكر أني كنت مقبرة لها ؟”.
إن حقول الدلالة وعلاماتها النصية بثقلها وخفتها وتنوعها تظل مفتوحة على البدايات والنهايات، في هذه الرواية التي تعد برأيي إحدى الروايات الفارقة في نسيج القص العربي. فالموت والحكي يتبادلان قناعا شفيفا على مدار الرواية، وكأنهما في سباق مع الزمن على من يلتقط الثمرة أولا، ثمرة الحياة، وحلم البطلة في أن تنضج الثمرة وترى النور بشكل طبيعي. وعلى ذلك يتوازى فعل الحكي مع فعل الميلاد، بينما يتوازي فعل الموت مع الفناء والعدم، بإرثه وصورته التي تطل من ثقوب الماضي، ثقوب الحكاية والكتاب ، حيث ” ألف ليلة وليلة” والحكي ترويض لوحش كاسر( شهر ريار)، لا يرى صورته إلا في مرآة الموت.
تدرك البطلة ذلك، فتحكي، وهي تضع قدميها على عتبة الوعي الجديد، موجهة خطابها ضمنيا إلى القارئ، قائلة عبر مرآتها الخاصة، في (ص42):” ليس من السهل أن تخرج من مأزق التفكير اليومي في الموت، دون أن تفقد بعض ذرات من وجودك الملموس، قد تتساقط خصلات شعرك، في هدوء الأيام التالية، وقد تظل في الليل مفتوح العينين على الأرق، وقد تقضم أظافرك عن آخرها وأنت تقرأ جريدة الصباح” .. ثم يصل الخطاب إلى ما يشبه الحكمة أو المرثية المطمئنة، حيث تتابع قائلة،على سبيل الاستدراك والإشارة المنبهة:” لكنك تعرف الآن جيدا لعبة الموت. فلا تراوغ، ولا تندفع ثانية فوق الملاءة البيضاء، التي ترفعك إلى قمم الأشجار، وتلتقطك ثانية زائغ البصر. فقط أنظر في مرآة الحمام إلى شحوبك الجميل . وتذكر أنك لا زلت تحيا”.
إنها ربكة وجود انحرف عن مساره الطبيعي، وتناسل فنيا في مرآة النص، بين صوتين يتناوبان مدارات السرد والحكي، فهناك البطلة الأم الساردة الأساسية، وهناك الزوج الذي يتبادل معها خيوط السرد ، لكن في مساحات أقل، وهناك صوت ثالث(متخيَّل) أشبه بظل الساردة الأساسية، يتقافز بينهما، خاصة في المسافة التي تفصل بين ضمير المتكلم، وضمائر الآخر الغائب والمخاطب، وكأنه أداة ربط وفصل بين خصوصية الأنا الساردة المفردة ومشاعية المجموع.
في سياق حركة السرد عبر غلالة هذه الضمائر الثلاثة، تتكشف الرواية عن طبقات فاتنة في التعامل مع اللغة، وتنويع مساقط السرد، واللعب على حبال الذاكرة والحلم، حيث كلاهما يشكل الآخر ويستعيده بطفولة مغوية، حتى في أقصي اللحظات ألما وإحساسا بالفقد والخسارة ، فالذكريات تتقافز بعفوية في جسد النص ، في صور حفل الزفاف ونثريات المكان، في حنو البيت، وجهامة المستشفى، في طقوس الاستعداد لاستقبال المولودة القادمة، ثم مشاهد دفنها وتوتراتها الموجعة الممضة، وفي محنة بيع منزل العائلة كمحاولة مرتبكة للتغيير ، وكذلك في إشارات قلقة ومتوجسة لأصدقاء وصديقات، بعضهم عابر وبعضهم مقيم، ومنهم من فسدت محبته.
كما تبرز تقنية الوصف كمقوم حميم وخاص، يكشف طبقات السرد التي يمتزج فيها إيقاع اللقطة والمشهد السينمائي بتوترات الدراما فوق خشبة المسرح. إنها تقنية تنمو بتجليات فنية باذخة في إبداع مي التلمساني، ما بين الدقة المتناهية، ورهافة التأمل والالتقاط الوثاب للتفاصيل والأشياء والنفاذ فيما وراءها،واستكناه ما تضمره الشخوص، في حركتها وانفعالاتها ورؤاها، أيضا في التعامل مع مظاهر الطبيعة الحية لإبراز وتنويع جماليات القص، ورصد تحولات وعي الذات الساردة داخليا وخارجيا، بكل منولوجاتها الدافقة التي كثيرا ما تشارف شعرية الأفكار، بأناقة مخيلة وطزاجة حواس، كذلك القفز برشاقة وحيوية، بين أقصي طاقات التجريد والتجسيد، وكأن فضاء السرد أشبه بمسطح لوحة تشكيلية، تنتظر ضربات الفرشاة، حتى ينضج التكوين، ويشف الشكل عن معناه الشيق بنزقه الجمالي وانفعالاته الحميمة بين كل عناصر اللوحة.. هذا الملمس نحسه في هذه اللطشة وغيرها، فها هي تقول في (ص 70):” وجه صاحبتي القديمة يقفز من فتحة زجاج النافذة ، أهشه بحركة خفيفة من رأسي، وأضع بدلا منه صورة يهوذا. هكذا استطيع تأمل الصورة وفلسفة التاريخ “.
في هذا الجو المتلاطم تدرك الكاتبة / البطلة / الساردة أن ما تحتاجه هو ومضة روح قوية، تمنحها شعورا بالاسترخاء، بعيدا عن مشاحنات العقل المرغم على تقبل الحقيقة كما هي في الواقع؛ فمن الصعب أن تكون هنا وهناك في الوقت نفسه، أن تكون الماضي والحاضر معا، أن تتقبل الجنون على أنه بصيرة العقل الشارد ، أو الشر العاقل، أو هو صورة الروح المعلّقة على حائط الزمن، الذابلة في تحولات الصورة نفسها ، بين ركام لعبة أضداد خانقة تتخفّى تحت قشرة الوجود..هذه الحيرة تطالعنا على هذا النحو على لسان الساردة في (ص28 )،حيث تقول:”أغمض عيني ثانية فترحل صورتي الطفلة، وتحل محلها صورتي الباسمة. هذه المرة: وقع أقدام عسكرية، وأبواب سجون تصطك، وسياط معلقة فوق الرؤوس. سريعا أمحو الصورة الباسمة من ذاكرة العين، وأجول بنظرة فزعة في أرجاء الغرفة الأربعة. الجريدة لم تزل على المنضدة، والهواء لم يزل حارا، وتيار أكثر عذوبة ينساب عبر الباب المفتوح. على مقعدي أستريح، وأمد ساقي على المنضدة، وأغفو بلا إبطاء “.
إن ما يكمل الصورة هنا، ويمنحها شعورا بالاسترخاء، هو الإحساس بتدفق روح هذه الومضة في مسامها، وأن مشاحنات العقل أصبحت عفوية، حتى وهي تتقصّد التغيير ، بالتحرر من أسر الوظيفة كمظهر اجتماعي نمطي، حيث تقدم البطلة استقالتها منها، أيضا التحرر من أسر الحكاية والصورة وظلالهما القديمة، التحرر من طبيب العائلة وبعض الأصدقاء، وفي الوقت نفسه الانفتاح بقوة على حلم ولادة طفل جديد.. وهو ما تشير إليه الساردة في ختام الرواية بقولها:” هذه خاتمة تليق بلحظة حداد متأخرة. لحظة حداد أخيرة لكل من سقطوا في بئر التحول وماتوا”.
ومن ثم ، ليست ” دنيا زاد ” رواية سيرة ذاتية، يتطابق فيها خطاب الراوي الكاتب، مع الوقائع المادية لحياة البطلة، وعوالم ذاتها الساردة. إنها رواية وجود انحرف عن مساره الطبيعي ، وتلك حلقة من حلقاته الشائكة، حلقة انكسرت فجأة بعد أن امتلأت بذاتها، لتكتشف أن وعيها بالزمن تحول إلى خدعة. تساهم الكاتبة نفسها في هذه الخدعة، فهي تسمي الأشياء والشخوص بأسمائهم، لتضع حدودا فاصلة بينها، لكنها مع ذلك، تترك البطلة بلا اسم متعين، مكتفية بكينونتها كزوجه، الأمر نفسه مع الزوج. وهو ما يعكس مكرا فنيا وذكاء حادا يضفي جاذبية لعنصر التشويق في هذه الرواية العلامة، وفي الوقت نفسه يبرز الذات الأخرى المتخيلة، وكأنها تجسيد لزمن القص الهارب من قبضة الماضي والحاضر معا.
إن هذا الإيهام الشفيف بتعدد الذات المركزية للقص يطالعنا على نحو مغاير ولافت في الروايتين الأخريين، ما يؤكد ضمنيا العلاقة الحميمة بين الأشياء وظلالها، حتى في لحظات نزقها وانقسامها على بعضها بعضا، كما يعكس حيلة سردية لا تخلو من دهاء فني ، لتوسيع زوايا القص، عبر التفكير بالكتابة نفسها داخل الكتابة.
على عكس ” دنيا زاد” حيث أصبح اللعب مع الماضي ضرورة لنسيانه، لتكتسب الذات معرفة جديدة بوجودها ووعيها.. في”هليوبوليس” وهي الرواية الثانية في الكتاب، يشكل تذكر الماضي وعدم نسيانه محور اللعب في فضاء الرواية، وفي حي مصر الجديدة بحمولاته التاريخية والجغرافية الخاصة. إنه لعب مفتوح على سنوات النمو والنضج، ومراهقة الأحلام الغضة، تحت سقف بيت عائلة من الطبقة المصرية المتوسطة، لها عاداتها وتقاليدها، وإرثها الاجتماعي والثقافي.هنا المكان/البيت كائن عضوي، وليس سريرا عابرا في المستشفى، كما أنه لا يزال محتفظا بدفئه الرؤوم، بوجوده المادي، وصوره المتلاحقة في الذاكرة والوجدان.
وكعادة أبطال مي التلمساني، دائما هناك نقطة تحول هاربة أو غامضة، يفتشون عنها في ذواتهم، أو في محيطهم الخارجي حيث العالم والوجود والأشياء. ولإحداث التغيير المنشود يتم مراوغة هذه النقطة أحيانا بالقوة وأحيانا أخرى بالفعل، وكأننا إزاء كينونة معلّقة في سقف وجود، تترقب الذات لحظة سقوطه، لتكتشف وعيها الآخر المغاير في الكتابة نفسها ، وفي الزمن والتاريخ.
في “دنيا زاد”، كان على البطلة أن تعيد تشكيل العالم وفقا لقانون الغياب، المتمثل في فقد الطفلة، لكن هنا تعيد البطلة تشكيل العالم وفقا لقانون اللعبة، وهي وحدها من يملك تحديد طبيعتها وماهيتها وقانونها، وكيف تتحول إلى قناع في قبضة الماريونيت. فمنذ الصفحات الأولى في الرواية تلقي “ميكي” البطلة بمفاتيح لعبتها أمام القارئ، ليحس مع تطور الأحداث أنه أصبح جزءا من اللعبة، أو على الأقل تُضاعف من انطباعات الصورة ، صورة اللعبة وبطلتها على حواسه المشدودة .. ولِم لا: أليس العالم، بل الوجود مجموعة من الخيوط المتشابكة، يتفاوت البشر في شدها وإرخائها، وفقا لأحوالهم ومصائرهم ؟!.
ومن ثم ، تكتشف ميكي، وهي تستعرض شريط حياتها في كنف الأسرة ، وعلى مدى ثلاثين عاما، أن بذرة التحول الكامنة في داخلها ولا وعيها هي لعبة قناع، تصف الكاتبة ذلك في الأسطر الأولى من الرواية على هذا النحو “لم يكن شعور ميكي بأنها ماريونيت شعورا طارئا أو عارضا، ربما تعود إلى ثلاثين عاما مضت، ويتأكد لها بشواهد وقرائن متنوعة، يوما بعد يوم. كل صباح، تجذب جسدها خارج الفراش بصعوبة، وتفتح ماء الصنبور على رأسها، ثم تنظر في المرآة إلى وجه بللته خصلات الشعر المجعدة، قطرات الماء تنساب على وجنتيها دون إبطاء، منزلقة على سطح بشرتها الخشبية المصقول، وتسقط مباشرة على قدميها العاريتين ، مصدرة رنينا محببا”.
وإمعانا في صناعة القناع وتنويع كتلة السرد فوق مسطح اللعبة تتابع الكاتبة وكأنها تمهد لرحلة اكتشاف جديدة، تعرف من خلالها حقيقة بطلتها وطبيعتها السيكولوجية عبر تخوم الرواية :” تفتح فمها فلا يخرج اللسان بحركته الآلية المعتادة، إلا إذا أمسكت به بأطراف أصابعها، وجذبته قليلا للخارج ، لتقول لوجهها المنعكس في المرآة:صباح الخير أيتها العجوز “.
وعلى مدار الرواية تمضي ميكي في لعبتها ناثرة خيوطها في كل اتجاه ، ومن خلف قناع الماريونيت تنوع مدارات الحكي، والتعامل مع المكان/ البيت، وبعين الكاميرا تسعى إلى تدوين كل مفرداته وحيواته، من المأكل والملبس والمشرب، والروائح والألوان والعادات والمناسبات، وملامسة المعرفة في طراوتها الأولى، فتستعيد زياراتها الخاطفة لبائع الكتب والمجلات القديمة، وخوضها مغامرة طفولية مع المجهول بالتسلل لزيارة قصر ” البارون امبان” المهجور واستدعاء أزمنته التي تشارف الأسطورة، من زخم التماثيل الفريدة والحجرات المعبقة بغبار التاريخ، وكذلك تدوين المكائد والحروب العائلية الشيقة الصغيرة، والتمرد بعقلانية واتزان مفرطين على نمطية الصورة العائلية، التي تتراءى أحيانا- في طبيعة الأب، المخرج السينمائي الذي سرقته الكاميرا، والأم والجدة والخالات والعمات، وكل نساء العائلة المولعات بالحفاظ على الأثر ، حتى ولو كان مجرد كرتونة فارغة طبع عليها رمز ” شركة النصر للتلفزيونات” .
تتسع الصورة تحت مظلة العائلة وخارجها، وبوازع من طفولة العقل الشقي تسعى ميكي إلى خلق مسافة وهمية بينها وبين الأشياء، خشية أن تقع في فخ التاريخ، أو تلتصق الذات بموضوعها، بشكل يصعِّب من حيوية اللعبة نفسها، أو يجعلها تسير في اتجاه أحادي رتيب، لا يتوافق مع ماهية البطلة المتعددة بحسب قانون التحول، من “ماهي” إلى” ميكي” إلى” ماريونيت “.
في خلفية المشهد يتراءى حي مصر الجديدة بأجوائه الخاصة، في شواهد من فنون العمارة، والمحال والمقاهي والمكتبات، وصور التاريخ، كما تتراءى طبيعة سكانه، وأثر المكان على ملامحهم وسلوكياتهم. أيضا في الخلفية ثمة خطان زمنيان تتقاطع فيهما السياسة بشكل فارق، لكنهما يوسعان من مساحة التضاد بين الصورة وظلالها القابعة في سقف الذاكرة والنسيان، حيث (موت عبد الناصر، ومقتل السادات(، وفي عباءة هذين الخطين تتناثر أجواء من مظاهرات الخبز الشهيرة، والتي أسماها السادات “انتفاضة الحرامية”، وكذلك انتفاضة جنود الأمن المركزي التي تم قمعها بعنف أمني شرس، في عهد الرئيس مبارك.
يبقى أن أقول في هذا اللمس الخفيف لأجواء الرواية، إن سؤال ميكي المخادع عبر قناعها لم يكن في جوهره النهائي: من أنت ؟، بل كيف تكون ؟، وأظنه سيظل ممتدا فنيا ونفسيا في تجاويف الكتابة، والزمان والمكان.
في رواية »أكابيلا« تضع الكاتبة بطلتها “عايدة” وصديقتها “ماهي” في صراع رغبات محموم، مستعيرة أجواء فن الأكابيلا، ويعني الغناء أو الإنشاد المنفرد من دون مصاحبة أي آلات موسيقية، واعتمادا على الأصوات الطبيعية للمؤدين.على هذه الطريقة وبدرجات نغمية متفاوتة توزع الكاتبة اللحن الأساسي في الرواية على أبطالها، وهم صحبة من الأصدقاء، يجمعهم مشترك إنساني، يتسم بغلالة من الألفة والحميمية. بينما تتجاذب “عايدة” و”ماهي”، الصديقتان المتضادتان، محور إيقاع اللحن، في تراسلات ومناورات سردية تكشف عن صراع رغبات مثقل بمساحات من القلق والتوتر العاطفي والضجر من الواقع والحياة، يعيشه أبطال الرواية، كل على طريقته الخاصة.
نلاحظ هنا أن الكاتبة تضع “ماهي”، وهي اسم من أسماء ميكي، صاحبة قناع الماريونيت في “هليوبوليس”، تضعها في نقطة تحول أخرى تمثل ضمنيا اختبارا جديدا للوجود والحياة. ليس هذا فحسب، بل نعثر على نوع من التجانس اللفظي بين” ميكابيلا”، اسم الدلع لميكي ، واسم “أكابيلا “، ما يشي بفكرة توالد وتناسل الأدوار والشخوص على مسرح نص شاسع، هو بمثابة قماشة روائية، تنطوي على نسيج كلي، قابل للاتساع والتجدد والعزف على أوتار متعددة ، تمنح اللحن الأساسي حيوية دافقة، تجعله منفتحا برحابة على تعدد القراءات والرؤى والتأويل.
ينعكس صراع الرغبات طيلة الرواية على مرآة البطلتين الصديقتين،
وكأنه بمثابة قيد لفكرة الحرية.. “عايدة ” تعرف كيف تخلق حريتها وتستمتع بها حتى داخل القيد نفسه، بينما “ماهي” تظل حبيسة القيد، تعلي من أسواره داخليا وخارجيا، بشكل متأرجح ما بين الرفض والقبول، وفي إطار حرية منقوصة ومكبوتة تحت مظان التقاليد والأعراف الاجتماعية، فهي متزوجة وأم لطفل،على عكس “عايدة: التي تعيش الحياة بمفردها، كلهب عاصف في مرايا الحب والجنس، تعتصر أقصى ما فيها من رغبات وملذات بحرية تامة، وكأنها تحاول الهروب أو الانتقام من حياتها المحبطة، كامرأة مطلقة،ابنتها تعيش في كنف والدها، وكفنانة تشكيلية، رسوماتها لم تر النور .
في هذا الإطار تطل “ماهي” من مرآة صديقتها، قائلة :” اليوم أتأملها بعين الخيال، فلا أكاد أصدق أن هذه الفتاة النحيلة التي تعشق الأوبرا وتتحدث الإنجليزية بطلاقة هي ابنة قرية في الجنوب لا يظهر اسمها على الخرائط “.
إنه صراع يشبه علاقة الكأس بنصفها الفارغ. “عايدة ” تعيش رغباتها وحيواتها وتستمتع بحدوث الأشياء بشكل مطلق إلى حد الهوس والجنون، و”ماهي” تعيشها وكأنها على وشك الحدوث، لكنها مع ذلك تدرك أن ما يربطها بهذه الصحبة ( الشلة ) مرهون بعايدة لا أكثر ولا أقل.
تتحول هذه “الوشكية “إلى عقدة، تنساب على مسرح الرواية كماض يجب التخلص منه، ورميه من النافذة، حتى تتخلص “ماهي” من محنة العيش تحت سقف تضاد منهك، تقبع فيه صورة صديقتها كمثال للإرادة الحرة. وهو ما تحققه الرواية بنموها الدرامي المباغت، متجسدا في موت “عايدة ” الغامض المعلّق في سقف الانتحار ، منسحبة من الحياة في منتصف الشوط، تاركة ذكرياتها وحكاياتها ودفاتر يومياتها ورسومها تشد اللحن إلى ذروته الدرامية.
يفتح بموت عايدة صورتها بعمق أكبر في المرآة ، تتعدد وتتقاطع مع صور أخرى لـ “ماهي”، رسمتها عايدة لها، وكشفت فيها عن جوانب صادمة وخفية في حياتها الشخصية. لذلك تمنح ماهي لنفسها حق الشطب والتعديل في اليوميات، وبشكل روحاني يشبه الحلول بالمعنى الصوفي تتقمص صورة صديقتها؛ تعيش في مسكنها، وتقيم لها معرضا خاصا، لنصبح إزاء حالة إنسانية شيقة من التصالح بين الأضداد، تحقق انسجاما شجيا بين اللحن في رقته وانضباطه المنفرد، وقوته الصاعدة في حركة كتلة، تختزل نشيدا جماعيا للحرية، تتفاوت أصداؤه بين مجموعة الأصدقاء. وهوما تجسده الرواية في لطشتها الختامية شديدة الدلالة،حيث تترك “ماهي” نفسها بعفوية لحضن كريم ، فتي الصحبة المشاكس، فيقول لها بعد أن رأى على سطح وجهها طيف وجه عايدة الراحل:”مش كان نفسك تخرجي للعالم ؟ خلاص يا بيبي.. ريلاكس !”
إن المخزون الجمالي للحن ” أكابيلا” يقدم درسا لافتا في بناء الشخوص من داخل رحم الكتابة نفسه، وكذلك بناء المشهد الروائي، وطرائق تشكله وتنميته، عبر تقنيات فنية لافتة ومتميزة، يتقاطع فيها زمن القص مع الماضي والحاضر ، وينفتح برهافة لغوية مغوية على دوائر ومشاهد أوسع، تعيد مساءلة الوجود عبر ثنائياته الأساسية ، وفي صدارتها، الخير والشر ، القيد والحرية، القبح والجمال.