في شرفة الأجداد .. صراعٌ مع الذاكرة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وائل ياسين

 معضلة الإنسان الحديث, وانشغاله الكبير, بين أن تطل على الحياة من شرفة الجد الراسخة وبين مجاذيب المدينة, أولئك الذين سقطوا في وجع الذاكرة, مرة واحدة وللأبد. وهذا أحدهم.

أحدهم يمشي بعكاز وقدم واحدة, ويترك الأخرى السليمة

ينتفض مع صافرات محطة القطار القريبة

يدون دون ملل كل يوم مواعيد السفر

يكتب مواعيد الوصول

ولا يسافر أو يصل

يقولون إن ابنه فقد قدمه

حين أفلت من يديه ساقطا تحت القطار

في تلك المساحة بينهما يبني الشاعر “أحمد أنيس” عالمه الشجي, بين ذاكرة قوية مستقيمة تحكي حكاية المدينة والشارع وناسه, وبين تساؤل حائر يملؤه الشك, هل تلك المدينة التي هدم فيها بيت أمي وصار مكانه برج مدينتي حقًا؟, هل سأصمد دون هذا البيت الراسخ الذي أطل من شرفته على العالم, أم سأسقط في تلك الهوة, وأصير واحد من مجاذيب المدينة؟!

نجد مثلا في النص (8)هذه الذاكرة التي تحفظ أعداد أكياس العصير, نقوش المحلات المواجهة للشرفة.

هناك في مواجهة الشرفة

جوار مطعم الفول

أحب هذا المحل ذا النقوش الغريبة

تلك التماثيل

صور الأم والرضيع والرجل ذي اللحية

ثم تجئ لحظة الهدم في النص (10), وهي اللحظة التي يذكرنا بها الشاعر عبر الديوان, بطرق كثيرة .

يقولون إن اليوم ذكرى جدي

يقولون أيضا إنهم سيهدمون بيت أمي

برج ما سيصعد على أنقاضه

خبر يليق برغبة شاعر في البكاء

فرصة لهزيمة الدمع المكابر

متى توقفت؟

هل تذكرين آخر مرة؟

بعد معلومات واقعية حول هدم البيت, يأخذنا الشاعر لروحه, وكأنما تم الهدم الحقيقي داخله, وليس بالواقع.

ومعه بنفس النص يبدأ الشك بذاكرته.

سرد سريع للذكريات

قد لا تسعفني الذاكرة

لنكتفي إذن بما بقى في الروح.

 

وعلى الرغم من كون نصوص هذا الديوان تشي بانتمائها لمراحل كتابة مختلفة(يمكن ملاحظة ذلك بوضوح من اختلاف طريقة عمل عقله في النص, اللغة وخفتها واحتشادها, الدراما والحكي, اختفاء الأسئلة الكبيرة المباشرة وصناعة التفاصيل.. ألخ), فإنها جاءت لحمة واحدة, لتدل بما لا يدع مجال للشك بأن سؤال الذاكرة, هو ما يؤرق أحمد نفسه كإنسان, هو سؤاله الشخصي المركزي, الذي قضى عمره يناقشه, ويحاول الوصول لإجابة.

أذكر عدد من الآباء الطيبين

لكنهم رحلوا كعادتهم

وتركونا في صراع مع الذاكرة

 

مساءلة التغييرات التي أتت بها الحداثة بواسطة اللغة والشعور, وهما كل ما يملكه الشاعر. والعمل على تفكيك الحدث البديهي للأشياء, فالمأزق ليس فقط في التعامل مع الماضي وغدر الذاكرة, إنما سؤال الحاضر واللحظة الآنية أيضا, الوصول إلي بؤرة الحدث عبر تفكيكه هو عمل الفنان الأصيل, من كل هذا التعقيد وملايين اللحظات, أي اللحظات أنتقي, أي اللحظات هي الأجدر على ملاحقتها والعمل عليها, أي من تلك اللحظات هي لحظة البصيرة, اللحظة التي نحصل عليها حينما ننجح في جعل الزمن يمكث ساكنا في ذواتنا؛ أقول لكم هي لحظة الصدق, هي إجابة سؤالنا المركزي. السؤال الذي يؤرق وجودنا الإنساني كأشخاص هو السؤال الصادق, ومحاولة الإجابة عنه هي المحاولة الصادقة.

تقلبات الشخصية المصرية التي ارتبط طموحها, والتقت بأحلامها عن كثب إبان ثورة يناير وتبعاتها, وهذا التحول الحالم لمعنى الحرب وماهيتها, والتأسيس عليه بين الأمل واليأس والرجاء, عبر التعامل مع اللغة ليست بوصفها أداة لمعرفة الحقيقة, إنما أداة لإنتاجها, في واحدة من استفادات عديدة طعم بها الشاعر أدواته من تيار ما بعد الحداثة. وكان التجلي الكبير لتلك الآلية في التعامل مع الأسطورة والتراث.

في المقهى المطل على الميدان

صورة من بداية الحرب

شهيد بالأبيض والأسود

كان هذا قبل أن يتلون الشهداء

…………..

مر وقت أكثر

بوسعك الآن أن ترى هذا

مقعد خال هناك في أقصى اليسار

مربع مطلي بالأزرق الداكن

ينظر إلى صورة بالأبيض والأسود

يسأل عن الرجل الذي ترك كل شيء

ويسخر من زبائن حمقى

يصدقون أن الحرب انتهت!

بقاموس عذب, قريب محبب للنفس, يطل أنيس من شرفة الأجداد على وجع المدينة, محاولا الإجابة على سؤاله الكبير, هل حقا سقطت ذاكرتنا؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعر وروائى مصري

مقالات من نفس القسم