في بلد المقاهي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة : راجي بطحيش*

مع خجل الخريف أجلس في مقهى في تلك المدينة التي يحملّون مرادفات أسمها أكثر بكثير مما قد تتحمل هشاشة عزلتها أو عزلتها الاختيارية أو فلنقل انعزاليتها المدججة بالمعاني...

يقترب النادل الأشقر بالجسد الفتي ، المتسفع بمنهجية مبكية..يقف عند حافة مائدتي المؤقته جدا جدا.. ويقول لي بعبرية ذكورية  ..عبرية تميز لغة الجند الأعظم والتلفاز ، يخيل الي انه ومن دون قصد يتكيء بقضيبه على حافة مائدتي تلك ، هنالك حافة وهنالك مائدة وهنالك كون يتكئ على ذكرك الآن الذي يتكيء بدوره على مائدتي..زاويتي، يسألني بلهجته القبيحة:

 

–           هل قررت ماذا تتناول يا أخي

–           (لست أخاك ولن أكون كذلك) قررت شرب كابوتشينو مع وجبة مضاعفة من الإسبرسو ، كعكة فوندنت ساخنة بدون كرات بوظة من فضلك…بليز من فضلك .ساخنة جدا ومن دون بوظة.و صودا..

–           أحلا*

–           آه و منفضة سجائر من فضلك

–           أحلا

يتحول نظر النادل عني وينزلق نحو المائدة المجاورة

–           عيران أخي ما هي أخبارك، ما الجديد؟

–           كيف أمورك أنت !ماذا تفعل هنا في تل أبيب؟

–           لا شيء ، أتسكع مع صديقتي قبل الأعياد ؟ بانتظار هذه الفظاعة

–           صبابا

–           صبابا عليك، ماذا عن الجيش؟ انتهت خدمتك ؟

–           نعم ، تحررت سريعا كنت اخدم هنا قريبا.. في القيادة، وأنت ماذا عنك

–           الظاهر انني سأتلقى تثبيتا في الجيش، انت تعرف ! هناك في المناطق في كتيبة “موشيك”

–           أحلا

–           بحلا

–           صبابا

–           صبابا

–           رائع

–           مذهل

–           لو سمحت ؟ قهوتي؟ الفوندنت الذي أعشق؟ الخريف الذي بدأت بشائره تزحف.. أريد طلبي قبل ان تنسحب احتمالات الطراوة ويعود الحرّ ليعصف بجذور أعصابي من جديد

تتكيء مؤخرته الآن على حافة وجودي..بحيث يمكنني قراءة ماركة سرواله الداخلي والتحقق من زيفها

آسف أخي، حالا

جيد

أحلا

ممتاز

صبابا

ثمة عادة سخيفة كنت أمارسها في نهاية التسعينيات وبدايات الألفين إثناء إقامتي القصيرة أو الطويلة الأوروبية منها خاصة ..وتتمثل هذه العادة بتفحص الشارع الذي أنزل فيه جيدا ومن ثم القيام باختيار مقهى معين ويكون هذا المقهى هو العنوان الرئيسي لسيجارتي وقهوتي الأولى في الصباح أو في الظهيرة …كل صباح..نفس المقهى ..نفس النادل/ة …ونفس الطلب …حتى ان نادلة باريسية توجهت إلي بعد شهر من ذات الطلب –  الطاولة – زاوية الجلوس منكسرة ..تقترح علي تذوّق حساءهم الخاص او شرب أي شيء..أي شيء آخر ..

ولكنني وبعد ان عدت بعدها بعامين معتقدا أنها ستنهار تأثرا لدى رؤيتي ..لم تعرفني..لا هي ولا عشرات النادلين والنادلات في عواصم أوروبا والجزر البريطانية ومدنها ..

إنها رغبة ساذجة (ومثيرة للشفقة أحيانا) بخلق حميمية بينك وبين مدينة ما وكأنك تقيم فيها من خلال مقهى يومي ما وطلب ثابت وحوار صامت مع نادل أو نادلة ..وكأن تلك العلاقة الهشة ستطيل من أيامك فيها وستحول الزيارة الى إقامة …إنه الاعتقاد الوهمي لدى سائح في بلد ما بأنه ليس بسائح وبأنه يملك أكثر من مجرد مفتاح غرفة عابرة في مدينة عابرة..

وهذا ما يريح هنا..

النادلون يتحدثون مع رواد المقهى عن الجيش وأقسامه وخباياه ، وبلغة هي أصلا كريهة ومبتذلة وغير مفهومة وكل النادلون يعتبرونني أخا (أخا أكبر) …والمقاهي؟؟ماذا أقول..هي حميمية ولكن ليست بدرجة قد تورطك وتلقي بك في هاوية شعورية جارفة

أما اللغة فهي بالفعل كريهة..كريهة جدا..وإن ذلك لمريح…

..

–           الحساب ان سمحت

–           دقيقة أخي

–           جيد

–           هل أعرفك من مكان ما؟؟ من الجيش ربما

–           لا ،لا لا  لست من هنا ، لست من هنا…إنا من أوروبا بالأصل.. أنا لست من هنا..

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* قاص فلسطيني

*مصطلح دارج بالعبرية تمت استعارته من العربية والقصد منه “تمام” أو”ممتاز”.

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم