القس عيد صلاح*
الرواية بدأت بسؤال وانتهت أيضًا بسؤال، وما بين السؤالين تدور الأحداث، سؤال البداية: هل عاد زين العابدين؟ (ص 3) وأيضًا هو نفس سؤال النهاية: هل جاء زين العابدين؟ (ص 118). صدرت الرواية في القاهرة عن دار “وعد للنشر والتوزيع” عام 2013م، وتقع الرواية في 118 صفحة من القطع المتوسط. اللغة العربيّة بديعة في الرواية، وقد بينت الروائيّة من خلال خبرتها وتجربتها أن ترك الأوطان والهجرة بالإرادة أو بالإرغام لا يمنع نسيان قضايا المجتمعات الأصيلة بل هي حاضرة في القلب والعقل. الرواية تكتبها امرأة وتنتقد من خلالها كل مظاهر سلطة المجتمع الذكوريّ في ثنايا الرواية. وهي تقدم قراءة نسويّة عراقيّة لمجتمع ما بعد حرب الخليج.
الروائية ليلى جراغي عراقيّة أخذت الجنسيّة الهولنديّة لكنها في روايتها جَسَّدَت معظم المشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة من خلال أسرة في قرية عراقيّة صغيرة بعد حرب الخليج وتتناول الرواية التأثير السياسيّ والاجتماعيّ والنفسيّ للحروب على الشعوب. في البحث عن الروائية ليلى جراغي تبيَّن أنها طبيبة أخصائيّة نفسية، روائيّة عراقيّة من أصول كردية، مقيمة في هولندا. نشرت ثلاث روايات، هي: الجدار عام 2009م، والصدأ عام 2010م، وخيوط الوهم 2013م. وتدور أعمالها في مجملها حول مثلث “الفقر والجهل والتعصب”.
وفي حوار مع الروائيّة ليلى جراغي-منشور على موقع الرادار نيوز-قالت حول روايتها خيوط الوهم الآتي: “تصور الرواية من خلال شخصياتها المختلفة الأثار المدمرة التي تركتها الحروب والسياسات الخاطئة والموروثات الرجعية على نفوس غالبية العراقيين. وأردت أن أقول من خلال أحداثها أن الحرب رغم انتهائها الشكليّ لكن الأزمة لا زالت قائمة. وتدور الرواية حول أسرة عراقية عانت من ويلات الحرب وآثارها السلبية وتحيا في قرية فقيرة ونائية بالعراق تعاني من الشوائب الاجتماعية والموروثات الخاطئة. واتخذت من خلال شخصية بطل الرواية “زين العابدين” ذلك الشاب الشاعر الحالم الذي زُجَّ به رغمًا عنه في حرب الخليج وعاد منها فاقد الحلم والبصر رمزًا للرفض لكل ما هو مستبد ورجعي. واعتمدت في الرواية على فكرة المهدي المنتظر أو انتظار جودو المخلص، وذلك من خلال اختفاء زين العابدين المفاجئ والشائعات التي تلت غيابه. كما أردت أن أقول من خلال ذلك التفكك والانهيار الحاصل وانتظار الغائب والمخلص في تلك البقعة الموبوءة بالجهل والفقر سيولد جيل جديد ربما سيكون قادرًا على صناعة مستقبله وتقدير مصيره وامتلاك حريته وتحديد مصيره. وتناقش الرواية غياب الحرية وآثار الحرب والجهل، وتشير إلى أن الحرب لا زالت مستمرة فلا تزال آثارها موجودة ولا توجد حرية لا قبل الحرب ولا بعدها؛ لكني تركت فسحة من الأمل في أن إحدى شخصيات الرواية المقهورة تلد طفلة يكون هو “زين العابدين” الجديد ليمثل جيلًا ربما يستطيع الحصول على حريته.” (الانترنت، 26 أكتوبر 2022).
إذًا، زين العابدين هو محور الرواية وبطلها الغائب، وحول غيابه تكشف الرواية مظاهر الخلل ونقاط الضعف في الشريحة المجتمعية التي سلطت عليها الرواية الضوء. فتدور أحداث الرواية حول أسرة زين العابدين وأسرة صديقه عبد الرازق في تشخيص دقيق للشخصيات، وكل ما يدور فيها، وما يصدر عنها من تصرفات. زين العابدين شاب مقبل على الحياة، يتمتع بكل مقومات النجاح من ناحية التعليم والثقافة والوعي والعلاقات الاجتماعيّة، يذهب للحرب مرغمًا وعلى إثرها يفقد عينيه فتضيع الرؤية، لينزوي وحيدًا في غرفته، وفجأة يترك البيت دون معرفة أهله، ليدخل الجميع في مرحلة تكهنات حول غيابة بعد بحث مضني عنه.
تفتح الرواية الستار على أسرة الحاج خليل وزوجته جليلة، والد زين العابدين، الذي تصفه الرواية بأنَّه أب مستبد لا يؤمن بالحرية، ابنتيه (عواطف ونجاة) لديهما مشكلات في علاقتهما بأزواجهما؛ فيطلقا. وابنه زين العابدين غائب، وابنه الثاني محمد من خلال سلطة الأب جعله شخص اتكالي مهزوز الشخصية فاقد الثقة في نفسه، حتى في قرار زواجه قد اتخذه له والده. زوجته جليلة لا حول ولا قوة لها ولكن تحمل بين جوانحها مشاعر الأمومة والمحبة لجميع أبنائها وبناتها وترثي دائمًا لحالهم، ودائمًا تحاول أن تهدئ زوجها أو بالأحرى لا تثير غضبه. وتقف الأم أيضًا موقف سلبيّ من تعليم الفتيات، وحين تتذكر حوارها مع زين العابدين، فتقول: “لأنني في الحقيقة كنت أرى أنَّ التعليم يفسد أحوال الفتيات، ويدفعهن أحيانًا إلى التمرد على الأعراف والتقاليد، وقد لا يجدن مَن يرضى بالزواج منهن بسبب شذوذ أفكارهن، فالرجل الشرقيّ بطبعه السلطويّ لا يحبذ الارتباط بذلك النوع من الفتيات”. (ص 16). وكان زين العابدين يجيب أمه بالقول: “اعلمي يا أمي أنَّ الفتيات المتعلمات المدركات لما لهن وما عليهن هن عماد المستقبل، لأنَّهن بمقدورهن إنشاء جيل سليم النفس والعقل، بعكس النساء الجاهلات الخائفات الخانعات، فهن يورثن أبنائهن الخوف والضعف والاستسلام.” (ص 16).
هي أسرة بها مشكلات كبيرة وعميقة ويعيش شخوصها في تناقض وعلى رأسها الحاج خليل الذي يذهب لأداء مناسك الحج وفي نفس الوقت يستغل أرملة يقيم معها علاقة بحجة أن تزوجها شفاهًا، وبعد ذلك تركها، ثم عاد لها ثانية مستغلاً ضعفها وعجزها.
على الجانب الآخر أسرة عبد الرازق وأمه خديجة واخته نهاد، هو كزين العابدين له أحلام وقد دخل مع زين العابدين في حوارات كثيرة يذكرها في الرواية عن طريق استرجاع الذاكرة، والدته حكت عن استغلال الحاج خليل لها واستغلال ضعفها واحتياجها بعد موت زوجها، وابنتها نهاد كانت على علاقة حب مع زين العابدين، وتحولت لحب محمد أخو زين العابدين بعد ما جرى لزين، ولكن لم تنجح رغبتها حيث زوج الحاج خليل ابنه من نعيمة. وعبد الرازق الذي كان يريد أن يتزوج من نجاة ولكنها تزوجت بآخر. علاقات صعبة ومتوترة لم يحصل فيها أي شخص على ما يريد. يضاف إلى شخوص الرواية الصبي جميل والحلاق فليفل وكل منهما وراءه قصة وحكاية صعبة. تميل الرواية إلى الحوارات الداخلية للشخصيات فتكشف ما بهم من أمال وطموحات وانكسارات وهزائم.
عندما كان زين العابدين حالمًا كان يقول: “إذا وجدت لدينا الإرادة وجدنا سبيلنا إلى التغيير”. وعندما سأله عبد الرازق عن أي تغيير تتحدث يا شاعرنا الحالم؟ فقال: خلاصنا يا عبد الرازق من ذلك البلاء الجاثم في عقول المتأثرين في تلك الثقافة الرجعية السائدة في بلادنا لا يتم إلا من خلال التنوير والسعي من أجل التطوير، وذلك بالتأكيد يقع على عاتق العلماء والمفكرين والمثقفين من أبناء شعبنا وعلى الشباب أمثالنا أجل يا عبد الرازق علينا أن نقهر الجهل بالمعرفة، والفقر بالعمل، والكراهية بالحب، علينا أن نطمح ونحب ونتعلم ونرتقي جميعًا بأنفسنا لكي نكون بشرًا أحرارًا وليس خرافًا بين قطعان، فمن خلال المعرفة والتحدي يمكننا أن نحدث تغييرًا في مستقبلنا وفي حياة الأجيال التي تتبعنا، فقط سئمنا الزيف في كل يخص حياتنا وتاريخنا، سئمنا استبداد حكامنا، وتسلط أولياء أمورنا، سئمنا الخوف والفقر والجهل، ولذا علينا أن نسعى إلى تحقيق أمالنا، رغم أن السبيل إلى تحقيقها شاق وطويل، ولكننا مع الصبر والسعي الحثيث سنعمل بالممكن ونقود بالتدريج ما يعتبره البعض مستحيلاً، وأعيد عليك يا عبد الرازق ثانيًا وأكرر.. إذا وجدت لدينا الإرادة وجدنا سبيلنا إلى التغيير.” (ص 25-26).
ولكن الصدمة حين دخل زين العابدين الحرب مرغمًا وخرج منه فاقد البصر وهنا كان التحول: “عاد زين العابدين من حرب الخليج بلا صبر وبلا حماس، حيث اصطدمت أماله بجدار الواقع وصار يهرب بصمته الحزين عن الحديث فيما آلت إليه الأوضاع في بلاد الرافدين بعد هزيمة الجيش العراقيّ، واختلال العراق من قبل الجيش الأمريكي والحلف الأطلسيّ، ليستوطن بوجودهم الموت والخوف والخراب. ويستفحل فيها الجهل والفقر والمرض والفساد والتناحر العرقيّ والمذهبيّ والدينيّ، ويقطف ثمار خرابها الملايين من الشعب الذين طحنت أمالهم وإرادتهم تلك القوى المستبدة وأصحاب العقول الصدئة الذين دفعهم جهلهم وتعنتهم إلى إشعال فتيل الحرب، وأصحاب الضمائر الأثمة الذين أسهموا بتأجيج نيرانها، وأصحاب الضمائر الأثمة الذين بتأجيج نيرنها، وأصحاب الأيدي الملوثة بدماء الأبرياء الذين استثمروا ابتداءها وانتهاءها. (ص 26).
ويكمل صورة المشهد فيأتي على لسان صديقه عبد الرازق القول: إننا جميعًا شئنا أم أبينا غارقون مع الرَّكب في مستنقع التبعية، وكان عليك أن تؤمن بحقيقة ذلك وتتخلى عنما تبقى من أحلامك، وترضخ مثلي للأمر الواقع، فذلك سيريحنا جميعًا شعوبًا وحكامًا وأولياء أمور، فالخوف باق والقيود هي القيود والحروب تدور دوائرها، ونحن يا زين العابدين جربناها معًا وخضناها معًا، وملأنا جدران خنادقها بخوفنا ودعواتنا، وخرجنا منها خاسرين، أنا هجرتني الأماني وأنت هجر النور عينيك لتمضي ما تبقى من حياتك في الظلمة، ولكنك لم تعلن هزيمتك، ولذت بالصمت.” (ص 41).
ويوضح عبد الرازق بهذا التصور: “فقد خبر –عبد الرازق-هذا الخوف والشعور الدائم بالتهديد وأدمنه الحد الذي صار جزءًا ن هويته، فقد ورث الحزن، ونشأ كغيره من أبناء وطنه تحت سلطة القهر، وتعوَّد مثلهم على رائحة البارود والدم وأصوات الطائرات الحربية وبكاء اليتامى وعويل الأرامل ونواح الأمهات اللواتي فقدن فلذات أكبادهن…فمنذ عقود ونذر الشؤم تحول حول رؤوسنا تحث فينا الصبر وتجبرنا على الخضوع لأقدارنا، فقد تفوق الشر على الخير، واستفحل الفقر والجهل، وانتعشت في نفوس المفسدين في أرض الرافدين الرغبة في إثارة الفتن الطائفية والعرقية والدينية وعم الفسق والفساد في شرق البلاد وغربها، فقد حول السياسيون زمن يأتمرون بأمرهم والرافضون لبعضهم حياتنا إلى كابوس يومي تأقلمنا معه وأدمنا فوضويته، وصرنا نكره الماضي لكونه يشعرنا بعجزنا، ونتواطأ مع الحاضر لأنه تمكن منا وأخضعنا لضعفنا، ونخشى الآتي لأننا نجهل ما يخبئه لنا الغد. فقد فقعت دبابيس الاحتلال دمامل تاريخنا وتقيحت جراحنا وتختلط الدم بالدمع، وتكشَّفت لأنفسنا قبل الآخرين عوراتنا، وأدركنا بعد فوات الآوان حجم مصيبتنا، وها نحن الآن لا ندري إلى أين تقودنا هزائمنا وتناحرنا، وهذا العجز الذي يدفعنا ونحن مغيبون للتهاون بحياتنا ومستقبل أبنائنا. متى سنجد جوابًا لتلك الأسئلة الأزليّة العالقة في أذهاننا؟ متى يمكننا الصراخ والرفض لكل ما يحيط بنا من ظلم وفساد؟ متى يمكننا الصراخ والرفض لكل ما يحيط بنا من ظلم وفساد؟ متى نترك الغيب والكذب والكره ونخرج الحقيقة برؤوس مرفوعة؟ هل ما يزال في جعبة بعضنا بقايا أمل؟ حقيقة لا أدري، حتى أنني لا أستطيع أن أفسر ما إذا كان زين العابدين بهروبه قد استبدل الوهم بالأمل أم أنه يسعى إلى الأمل من خلال تشبثه بخيوط الوهم؟” (ص 58-60). ولعل هذه الأسئلة الواردة كاشفة لحالة الإحباط مع حالة الأمل.
ولا يفوت الرواية إلا أن تقدم نقدًا لبعض من تصرفات رجال الدين المستغلين جهل وضعف الناس في شخص الشيخ جبار فقد كان يملأ كرشه وجيوبه من نذور البسطاء وهباتهم وقراءة الأدعية عليهم في موتهم ومرضهم وضنكهم، متخفيًا تحت عمامته وقفطانه ولحيته البيضاء الطويلة لينال بذلك المظهر تقتهم. ولا يتوانى عن فعل أي شيء لكي يشبع جشعه ورغباته حتى أنه كان يستغل بعض القرويات الساذجات اللواتي يلجأن أليه بسبب معانتهن من الأمراض العصبية والعقلية والعقم ليغدق عليهن ببركاته، ويتفنن في التعامل معهن حسب حالتهن الصحية والاجتماعية، فالعذراوات والمطلقات تتم معاشرتهن بحيطة وحذر أكثر من اللواتي يعانين من العقم، بينما تكون وسيلته في إقناعهن واحدة وهي طرد الجن من أجسادهن، فتستجيب له طائعة بسلامة نية، ويغدق عليهن الهدايا كالزبد والجبن واللبن والخبز وأحيانًا المال، وهو يتمنع ويستلم ويعاشر ويزداد كرشه انتفاخًا. وإذا حملت واحدة من اللواتي كن يظن أنهن عقيمات ينال جزاءه من ثقة الناس ببركاته وهم لا يدركون بأن سبب العقم كان من الزوج، فالرجل في أعرافهم لا يمكنه أن يكون عقيمًا” (ص 61-62).
في هذا المشهد الظلامي البائس، وفي وسط العلاقات المفككة، والآثار المدمرة للحرب على نفوس الجميع، مع العادات والتقاليد الموروثة، وفي وقت الضياع والفقد يكون التطلع لوجود المخلص. ولعل المشكلة تتلخص في كلمات زين العابدين: “لا يوجد في حياتنا مفهوم واضح للحب، فكل من هم حولنا يريدون امتلاكنا باسم الحب، جميعنا نستعبد بعضنا بعضًا باسم التراحم والحب، ولا أدري متى ندرك أن الحب يعني العطاء وليس التملك؟ (ص 39).
مع حالات اليأس والإحباط ومرارة الواقع، يكون هناك خيطًا من الأمل وبصيص من النور في ميلاد طفل من نعيمة ومحمد يُسَمَّى بزين العابدين. ربما يشير إلى التوقعات المستمرة في وجود مخلص ينتشل الشعوب المدمرة من القسوة والظلم والفساد والحرب إلى عالم أكثر حرية وعدالة ورقي وإنسانية. والسؤال الذي تختم به الرواية هو: هل جاء زين العابدين؟، وكأن لسان حال الرواية يقول: نحن في انتظار المخلص، لعله يأتي.
……………………..
*راعي الكنيسة الإنجيلية بعين شمس، القاهرة





