منى العساسي
الليلة الرابعة عشرة
بعد الهدنة
شيء مريع حقًّا، شيء ربما خرج عن السيطرة، هذا الفصام الحاد المباغت الذي ينتابني هذه الأيام. قالت له وهي منتصبة أمام تسريحة ابنته تستعمل فرشاة شعرها وتنظر لملامحها ونصلها المنحوت بدقة في المرآة، وكأنها تبحث عن تلك التي تشبهها، ثم أخذت تتابعه في العمق وهو مُمَدَّد في السرير، عاريًا يلتهم سيجارته الأخيرة..
نظر لها، فأردفت: أشعر أن هناك فتاة أخرى داخلي تعشق الظلام، تستيقظ في جسدي بعد أن أنام، وتعبث بتركيبتي النفسية، تعيد هيكلة أفكاري وقناعاتي، وتمنحني صيغة جديدة لقبول كل ما أعتبره مُحرَّمًا، أو مذمومًا، تجعل الهواجس المرعبة شهية لذيذة كنوع الشيكولاتة المُفضَّل لديَّ، وتسحبني في طرق ملتوية ومتشابكة حتى لا أستطيع العودة..
صمتت برهة، ثم بادرته، وهي محدقة في جفنيه المنتفخين وعينيه اللتين نمت فيهما صفرة موحشة كصحراء لا نهاية لها:
لماذا أخاف الموت؟
أمسك يديها الباردتين وجذبهما إلى صدره، واضعًا يديه فوق رأسها، يهدهدها، ويتمتم: جميعنا نخاف الموت.
للحظة استكانت لنفسها، وما إن أغمضت عينيها حتى خرج من جوفها صوت يُذكِّرها بضعفها: أليس ما تعيشينه معه الآن موتًا؟ أليس شعورك في اللحظة التي يخبرك فيها بعودتها له موتًا؟ ألا تشبه حياتك جُبًّا عميقا مُظلمًا، سقطت فيه من يوم ميلادك ولم تخرجي منه أبدًا؟ أليس كل مَنْ ظننتِ أنه المخَلِّص ألقى بك في ظلمة أشد؟
اقترب الصوت وأمسك كتفها في ادعاء الصادق، وهمس: هل من الممكن أن يكون الموت أكثر قسوة من كل تلك الفوضى التي سحقتكِ أسفل عجلاتها بلا شفقة؟
تكوَّرت على نفسها، ثم نظرت إلى السواد الذي غطاها، تحصي نصيبها من السعادة، فلم تجد سوى أعين ترجمها بنظرات كالحجارة أو أشد قسوة، تخيلت شيطانتها تدور حولها، ممسكة بشفرة تلمع في الظلمة كبياض عينيها، وتهمس في قلبها الموحش: صدقيني يا عزيزتي، إن الموت هو الخلاص الشهي.
الليلة الخامسة عشرة
بعد الهدنة
جلست بجانب الآخرين تنتظر دورها سجينة خلف سور عزلتها، رائحة الحنين التي تشقق جدران قلبها تكاد تطغي على رائحة عطرها النفاذ بقميصها الأسود، همست محاولة تشتيت نظراتها في وجوه المارة حولها، في وجوه الجالسين؛ انتظارًا بنواصي قلبها العصيِّ، حتى أرهقتهم قسوتها، فانصرفوا خاوين الوفاض.
همست بنفس متحسرة: مؤسف أن أرى انطفائي فيك بعد كل هذا البريق، أن أعود منك بعد كل هذا الحب مفلسة، مُعلَّقة على مشنقة واقعك البغيض، تشاهدني بعين عجزك، ترى أنفاسي تتبدد ولا تُحرِّك ساكنًا، مؤسف أن أمارس حبك تهريبًا وخوفًا، أقتات فتات وقتك ولا يرضيك، أشعر في كل لحظة أني حمل ثقيل على نفسك.
دمعة حارة تسربت من موجها الأزرق، محتها سريعًا، وتبسَّمت في وجه الساعي الذي انتصب أمامها فجأة كعامود إنارة مكسور المصباح، نصف بسمة حين كان يخبرها بأنه دورها، شهقت دافنة حريق جوفها: أين مكتب التوثيق؟
نظر لها بشغف، وشرد لحظة في الدفء الذي تدفق من ثغرها، ثم أشار، إنه المكتب رقم سبعة، وسمعته يتمتم وهو ينزلق مع أوراقه وسط زحام الحضور: أي أحمق يُبكي جميلة مثلك، عليه أن يضعك في صندوق ويخشى عليك من أن تعبث نسمات الهواء بشعرك.
انفرجت ابتسامتها حتى أشرقت نواجذها، وهمست في نفسها: هذا الأحمق لا يضعها ضمن قائمة أولوياته أيها الرجل الطيب.
تبسمت للموظف الأنيق الذي تفحصها من خلف كومة الأوراق المكدسة أمامه بدقة ولهفة لا تخطئها عين، وقال: إن في العقد وكالة بالصلح عنك، هل توافقين على هذا؟ ولمس بأطرف أصابعه أناملها أسفل الورقة، فأجابته وهي تعض نصف شفتها السفلى ارتباكًا: إنها ليست قضية طلاق أيها السيد، فتراجع ساحبًا الأوراق بعبوس، حاول قدر جهده أن يخفيه، وأكمل عمله صامتًا، ثم أردف عندما همَّتْ بالرحيل: هذا من سوء حظي!
تبسمت في سخرية وغضب مغمغمة: تبًّا لك أيها العجوز، أنت حقًّا لا تصلح للحب، فواقعيتك المفرطة تكاد تقتلني، ألا تعلم أيها الأحمق أن هذا العالم الفاسق المتآمر يتقصَّى أوقات غضبي ليرتدي لباسًا براقًا مغريًا ليسرقني منك؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية .. والرواية صادرة مؤخرًا عن دار ميريت